الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيضا قال: إنا كنا نعد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس: «رب اغفر لي، وتب عليّ، إنّك أنت التواب الرحيم، مائة مرة» ، وفي لفظ: التواب الغفور.
وروى ابن أبي شيبة ومسلم والأربعة عن الأغرّ بن مزينة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله،
وفي لفظ: وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» ،
وفي رواية: سمعته يقول: «توبوا إلى ربكم، فو الله إني لأتوب إلى ربي عز وجل مائة مرة في اليوم» .
وروى محمد بن يحيى بن عمر برجال ثقات عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات قبل موته بسنة: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» ، قالت فقلت: يا رسول الله لقد لزمت هذه الكلمات، قال:
«إن ربي عهد إلي عهدا أو أمرني بأمر، فأنا أتّبعه» ، ثم قرأ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حتى ختم السورة.
تنبيهات
الأول: استشكل وقوع الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم، وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية، وأجيب بأجوبة منها: أنه رأى الاشتغال بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة أو مخالطة الناس، والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة، ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة، وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله تعالى، والتضرع إليه، ومشاهدته، ومراقبته، ذنبا بالنسبة إلى المقام العلي، وهو الحضور في حظيرة القدس، ومنها: أن استغفاره تشريع لأمته، أو من ذنوب لأمته، فهو كالشفاعة لهم. وقال الشيخ شهاب الدين السّهروردي لما كانت روح النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل في الترقي إلى مقامات القرب تستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس، وكانت خطى النفس تقصر عن مداهما في العروج، فمما نهضت به الحكمة إبطاء حركة القلب لئلا تتقطع علاقة النفس عنه، فيبقى العباد محرومين فكان صلى الله عليه وسلم يفزع إلى الاستغفار، لقصور النفس عن ترقي القلب، ومنها: أن في الاستغفار والتوبة معنى لطيفا، وهو استدعاء لمحبة الله تعالى، فإحداثه الاستغفار والتوبة في كل حين استدعاء لمحبة الله تعالى.
الثاني: الغين، قال شعبة: سألت الأصمعي ما معنى ليغان على قلبي؟ فقال: عمّن يروى ذلك؟ قلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لو كان قلب غير النبي صلى الله عليه وسلم لفسرته، وأما قلبه صلى الله عليه وسلم فلا أدري، كان شعبة يتعجب منه، وسئل أبو عبيدة عنه فلم يفسره.
وقال الجنيد: لولا أنه حال النبي صلى الله عليه وسلم لتكلمت فيه، ولا يتكلم على حال إلا من كان
مشرفا عليها، وجملة حاله لا يشرف على نهايتها أحد من الخلق، ونقل الإمام الرافعي رحمه الله تعالى في أماليه عن سيدنا الصديق رضي الله تعالى عنه، أنه مع علو مرتبته تمنى أن يشرف عليها، فقال: ليتني شهدت ما استغفر منه صلى الله عليه وسلم انتهى، وتكلم في معناه آخرون بحسب ما انتهى إليه فهمهم، ولهم منهجان: أحدهما حمل الغين على حالة جميلة، ومرتبة عالية اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد من استغفاره: خضوعه، وإظهار حاجته إلى ربه، وملازمته للعبودية، قال أبو سعيد الخرّاز [ (1) ] فيما نقله عنه الإمام الرافعي: الغين شيء لا يجده إلا الأنبياء، وأكابر الأبرار والأولياء، لصفاء أسرارهم، وهو كالغيم الرقيق الذي لا يدوم.
قال الرافعي [ (2) ] : وحمله على عارض غيره أكمل منه، فيبادر إلى الاستغفار، وعلى هذا كثرت التنزيلات والتأويلات، فقيل كان سبب الغين النظر في حال الأمة، واطّلاعه على ما يكون منهم، فكان يستغفر لهم. وقيل: سببه ما يحتاج إليه من التبليغ، ومشاهدة الخلق، فيستغفر منه ليصل إلى صفاء وقته مع الله تعالى. وقيل: ما كان يشغله من تمادي قريش وطغيانهم. وقيل: ما كان يجده من محبة إسلام أبي طالب. وقيل: لم يزل صلى الله عليه وسلم مترقيا من رتبة إلى رتبة، فكلما رقي درجة التفت إلى ما خلفها، وجد منها وحشة لقصورها بالإضافة إلى التي انتهى إليها، وذلك هو الغين، فيستغفر منه، قال: وهذا ما كان يستحسنه والدي رحمه الله تعالى ويقرره.
ومن هؤلاء من نزل الغين على السكينة والاطمئنان، قال البيهقي في الشّعب: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت الأستاذ أبا سهل محمد بن سهل: يعني الصّعلوكي [ (3) ] أحد أئمة الشافعية يقول: في قوله: ليغان على قلبي وأيد أنّ أحدهما يختص به أهل الإشارة، وهو حملهم إياه على غشية السّكرة التي هي الصحو في الحقيقة، ومعنى الاستغفار على التجسر للكشف
[ (1) ] أحمد بن عيسى الخراز، أبو سعيد: من مشايخ الصوفية بغدادي. نسبته إلى خيرز الجلود. قيل أنه أول من تكلم في علم الفناء والبقاء. له تصانيف في علوم القوم منها كتاب الصدق، أول الطريق إلى الله. ومن كلامه: إذا بكت أعين الخائفين، فقد كاتبوا الله بدموعهم. توفي 286 هـ. الأعلام 1/ 191.
[ (2) ] عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين بن الحسن، الإمام العلامة إمام الدين، أبو القاسم القزويني الرافعي، صاحب الشرح المشهور كالعلم المنشور والذي نقوم بتحقيقه، وإليه يرجع عامة الفقهاء من أصحابنا في هذه الأعصار، في غالب الأقاليم والأمصار، ولقد برز فيه على كثير ممن تقدمه، وحاز قصب السبق، فلا يدرك شأوه إلا من وضع يديه حيث وضع قدمه. توفي في ذي القعدة سنة ثلاث، وعمره نحو ست وستين. الطبقات لابن قاضي شهبة 2/ 75، 76.
[ (3) ] محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن هارون الإمام، أبو سهل الصعلوكي الحتمي نسبا، ثم العجلي، النيسابوري.
الفقيه، المفسر، الأديب، اللغوي، النحوي، الشاعر، المفتي، الصوفي، حبر زمانه، وبقية أقرانه- هذا قول الحاكم فيه.
ولد سنة ست وتسعين ومائتين. وأخذ عن ابن خزيمة ثم عن أبي علي الثقفي وأفتى ودرس بنيسابور نيفا وثلاثين سنة.
انظر الطبقات لابن قاضي شهبة 1/ 150.
عنها، وأهل الظاهر يحملونها على الخطرات العارضة للقلب، والطلبات الواردة الشاغلة له بهذه الغشية الملابسة.
وقال القاضي: هو ما يستغشي القلب، ولا يغطيه كل التغطية، كالغيم الرقيق الذي لا يمنع ضوء الشمس، ثم لا يفهم من الحديث أنه يغان على قلبه مائة مرة، وإنما هذا عدد الاستغفار لا الغين، فيكون المراد بهذا الغين الإشارة إلى غفلات قلبه، وفترات نفسه، وسهوها عن مداومة الذكر، ومشاهدة الحق، لما كان صلى الله عليه وسلم من مقامات البشر، وسياسة الأمة، ومعاناة الأهل، ومقاومة الولي والعدو، ومصلحة النفس، وأعباء الرسالة، وحمل الأمانة، وهو في هذا كله في طاعة ربه، وعبادة خالقه، ولكن لمّا كان صلى الله عليه وسلم أرفع الخلق عند الله تعالى مكانة، وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حالة عند خلوص قلبه، وخلو همه، وتفرده بربه أرفع حاليه، رأى حاله فترته عنها، وشغله بسواها، غمضا من علّي حاله، ورفيع مقامه، فاستغفر من ذلك.
وقال الشيخ شهاب الدين السّهروردي: لا تعتقد أن الغين حاله نقص، بل هو حالة كمال، ثم مثل بجفن العين حين يسيل الدمع القذى عن العين مثلا، فإنه يمنع العين عن الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال، هذا محصل كلامه بعبارة طويلة، قال:
فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم متعرضة للأغبرة الثائرة من أنفاس الأخيار، فدعت الحاجة إلى ستر حدقة بصيرته، صيانة لها، ووقاية عن ذلك، وقيل: هو حالة الخشية، وإعظام الاستغفار شكرها، ومن ثم قال المحاسبي: خوف المقربين خوف إجلال وإعظام، وقيل: هو السكينة التي تغشي قلبه، والاستغفار لإظهار العبودية والشكر لما أولاه.
وذكر ابن عطاء الله في كتاب لطائف المنن: أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي [ (1) ] قدس الله سره قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن حديث: إنه ليغان على قلبي، فقال:«يا مبارك ذلك غين الأنوار» .
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الاستغفار: استدعاء المغفرة، وطلبها من الشفاعة، وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة.
المقدّم: بميم مضمومة، فقاف مفتوحة، فدال مهملة مكسورة، فميم: الذي يقدم الأشياء، ويضعها في مواضعها: ضد المؤخر، فمن استحق التقديم قدمه.
المؤخر: بميم مضمومة، فهمزة مفتوحة، فخاء معجمة مكسورة، فراء: الذي يؤخر
[ (1) ] علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف بن هرمز الشاذلي المغربي، أبو الحسن: رأس الطائفة الشاذلية، من المتصوفة، وصاحب الأوراد المسماة «حزب الشاذلي» . انظر الأعلام 4/ 305.
الأشياء فيضعها في مواضعها: ضد المقدم.
القدير: القادر قدرة تصلح للخلق، قال: يوصف تعالى بالقدرة على الخلق، بخلاف قدرة المخلوقين، إذ أقدرهم على الكسب لا الخلق، وحقيقتها ما يتقدّر بها المواد المزاد على حسب تقدم الفاعل في الوقوع، فمن عرف أنه عز وجل قادر خشي من سطوات عقوبته عند مخالفته، وأمل لطائف نعمته ورحمته عند سؤاله وحاجته، لا بوسيلة طاعته، بل بكرمه ومنته، ولذلك من عرف أنه قادر سكن عن الانتقام، لعلمه بأن انتقامه وانتصاره له أتم من انتقامه لنفسه، ولذا قيل: احذروا من لا ناصر له غير الله.
الحيّ والحياة: صفة من صفات ذاته زائدة على بقائه، فهو الدائم الباقي، الذي لا سبيل عليه للفناء.
القيّوم: القديم الدائم الذي لا يزول، وليس عن قيامه على رجل.
التواب: بمثناة فوقية، فواو مشددة، فألف، فموحدة: الموفق لعباده التوبة والرجاع عليهم بفعله.
الرحيم: العظيم الرحمة.
الغفور: الكثير المغفرة، الساتر لذنوب عباده.