الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
وقفة مع أدلة الفريق الثاني:
الفريق الثاني هو القائل بأن علاقة المسلمين بغيرهم هي علاقة سلام في الأصل لا علاقة حرب، وقد ذكرنا بعضاص من أدلتهم في ما مضى.
وكل أدلتهم سلمت من اي قدح في الاستدلال بها، اللهم إلا قولاً بالنسخ غير مجمع عليه.
فمن قائل: إن آية: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}
نسخت كل آيات الموادعة والمهادنة.
ومن قائل: إن آية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ
…
} هي التي نسخت.
وقائل إن: آية: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ....} هي الناسخة لآيات الموادعة والمهادنة.
وخالف بعضهم فقال: إن هذه الآيات منسوخة ومما نسخها قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وهذ كلها أقوال اجتهادية ليس فيها إجماع قط.
ثم في المسألة قول ثالث يذهب إلى عدم النسخ في أي من أدلة الفريقين. فلا آيات القتال منسوخة، ولا آيات العفو والصلح منسوخة، بل إن كل الآيات معمول بها (محكمة) ، كل فيما يختص به، وعلى هذا تكون آيات القتال معمولاً بها إذا حاربنا العدو أو ظاهر من يحاربنا أو طعن في ديننا طعناً ظاهراً، أو أخرجنا من ديارنا، وتكون آيات الصلح والعفو معمولاً بها إذا جنح العدو للسلام واعتزلنا فلم يقاتلنا.
وهذا هو الصواب الأحق من القول بالنسخ. وقد أشار ابن عطية إلى أن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} عند من قال إنه نسخ كل آيات الموادعة والمهادنة في القرآن، فإنه يلزم من هذا القول نسخ مائة آية وأربع عشرة من القرآن.
وهذا - فيمل يبدو - معنى بعيد، إذ كيف تعزل آية واحدة هذا القدر من الآيات مع إمكان الجمع بين كل هذه الأدلة كما تقدم، ويحبط بالقول بالنسخ في هذا الموضوع غموض آخر يجعل الجزم بالنسخ في أي من النوعين مستحيلاً، وهو ما تراه من تقديم وتأخير بين الآيات التي في إن بعضها نسخ الآخر، تقديم وتأخير في ترتيب الآيات في السور، وتقديم وتأخير في النزول، وهذا ملحظ لو تتبعناه لطال بما الحديث. فنكتفي بمجرد الإشارة إليه، ونخلص من هذا كله إلى أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هي السلام لا الحرب، وقد تواترت الأدلة القولية والعملية على صدق هذا المذهب وصحته.
أما أدلة من قالوا: إنها علاقة حرب لا سلام فلم يُسلَّم لهم الاستدلال بالنصوص التي ساقوها. وقد ناقشناها في إيجاز وبيَّنا درجة الاستدلال بها من القبول والرد، وهذا المذهب -: مذهب القول بالعلاقة السلمية - هو اللائق بسماحة الإسلام التس سقنا عشرلت الأدلة عليها في كل فرع من فروع هذه الدراسة. فالإسلام هو دين السلام في هذه الحياة الدنيا، سلام لجميع البشر لا للمسلمين خاصة، فالدماء والحقوق فيه مصونة بصرف النظر عن أي اعتبارت أخرى ترجع إلى الدين أو الجنس أو اللون، لكت شريطة أن لا يعتدي علينا أحد بقول أو فعل، وأن لا تنتهك حرماتنا ومقدساتنا، فإن صنع أحد معنا شيئاً من هذا فالمعاملة بالمثل هي الواجبة.
فإذا وجب قتال العدو، فالإسلام السمح الرحيم يوجه الجنود المسلمين توجيهاً أخلاقياً ليس له في غير الإسلام مثيل:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .
فلا نقاتل إلا من قاتلنا، ولا نعتدي على من لم يقاتلنا، وفي السُنّة الطاهرة، والفقه الإسلامي أن أصنافاً من قوم الذين يقاتلوننا لا نقتلهم - وإن ظفرنا بهم - ولا نتعرض لهم بسوء قط وهم: النساء - الصبيان - الأجير - الضعيف -
المجنون - الراهب - المريض. وكل من لم يشترك في قتالنا. وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في إحدى غزواته امرأة مقتولة فأنكر ذلك على مَن قتلها.
هذا بالنسبة للأشخاص، وقد تقدم أن وصايا الخلفاء بعدم التعرض لما يسمى الآن بـ "الأهداف المدنية - كالأشجار والماشية" كانت من أبرز ما يوصون به المقاتلين. ضاربين للناس أورع الأمثال في السماحة والرحمة، ومكارم الأخلاق، ومسك الختام لهذه الدراسة هو قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} .
والحمد لله في الأولى، والحمد لله في الآخرة.
البلد الطيب الأمين: مكة المكرمة:
صبيحة وقفة عرفات 1413 هـ (الموافق 30 مايو 1993م)
عبد العظيم إبراهيم المطعنى
عفا الله عنه
* * *