الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صورٌ من دلائل التوحيد
النموذج السابع - من سورة النمل:
في هذا المقطع من الآيات يضع القرآن الحكيم الكون كله - خَلْقاً وتدبيراً - مادة حية للنظر والتأمل والاستدلال: آيات في الخلق والتكوين، وأخرى في التصرف والتدبر، وثالثة، ورابعة، وخامسة، وهكذا رسمت هذه الآيات من الكون والخلق لوحة استدلالية دقيقة الإحكام تهدف إلى أمرين عظيمى الشأن:
الأول: وحدانية الله في الوجود:
الثاني: إبطال عقيدة الشرك في كل مظهر فليس مع الله خالق، وليس مع الله متصرف، وليس مع الله مدبر، وليس مع الله مبدئ، وليس مع الله معيج، وليس مع الله مالك، وليس مع الله رازق، بيده هو - وحده - ملكوت السموات والأرض وما بينهما، لا إله إلا هو العزيز الوهّاب.
ولما كانت هذه الآيات تواجه أباطيل المشركين، فقد بدأت بهذا البيان: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى
…
} .
فالحمد لله لأنه هو المنعم بالنعم التي ذكرت في الايات بعد هذا البيان ثم: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى....} وهم الموحّدون من ألأنبياء والرسل ومن اتبعهم بإحسان. ثم بدأت الآيات لمواجهة المشركين في إجمال، ثم تفصيل
…
أما الإجمال فهو قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} ؟ والاستفهلم - هنا - يحمل شحنة من الإنكاء الموجه لعقيدة الشرك وما يُعْبَدُ من دون الله. فليس في أصنامهم خير قط. فضلاً أن تكون أكثراً خيراً من بارئ الكائنات.
وتكرر هذا الإنكار، ولكن بنفي أن يكون مع الله إله عقب كل مجموعة من الآيات والعظات التي ذُكرت
…
ففي الآية (60) لفت نظرهم إلى: خَلْق السموات والأرض، وإنزال المكاء من السماء وإنبات الحدائق النضرة التي ليس في مكنة إنبات شجرها، ثم يسأل منكراً:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ؟ ولم يُذكر جواب هذا التساؤل لحكمتين:
إحداهما: بيانية يُنبئ عنها سياق الكلام، وهي الإنكار في صدر الجملة:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ؟ وهذا الإنكار جعل الجواب كأنه مذكور.
والأخرى: تربوية. لأن في ترك النص على الجواب تهيئة لأذهان المخاطبين ليتفكروا ويصلوا إلى تصور الجواب بأنفسهم، وهذا أدخل في الإقناع والتسليم؟ وقد تكرر هذا الموقف الحكيم في كل صور الاستفهام في الآيات إلتي تلت.
ثم تأتي فاصلة الآية: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} والمعنى - والله أعلم - أن الحق لائح أمامه يدركونه يقيناً، ولكنهم لم يصيرزا إليه، لأنهم مشركون بربهم عناداً ومكابرة.
وفي الآية (61) ينتقل البيان المعجز إلى لفت الأذهان إلى الآيات التي أودعها الله في الأرض بعد أن خلقها: فهي قرار مكين. قرار حسي لأنها ثابتة لا تضطرب. وقرار نفسي بما أودع فيها من نِعَم وخيرات. فقد أجرى فيها الأنهار. وأرساها بالمثقلات من الجبال لئلا تميل وتنكفئ فيهلك من وما عليها جميعاً. وجَعْله بين البحرين: الحلووالمر حاجزاً حصيناً فيه للعقلاء عظة. الماءان متجاوران دون أن يحدث بينهما امتزاج: حاجز مائي
لا سدود ولا قناطر. ثم يتكرر التساؤل الإنكاري: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ؟ كلا. وإنما دعاهم إلى الشرك جهلهم وغباؤهم.
وفي الآية (62) يثير القرآن مشاهد من تصرفات الله الحكيم في المجتمع البشري كله: من إجابة دعوة المضظر حين تنقطع به كل السُبُل ويلجأ إلى الله. فيكشف السوء، ويزيل الضرر، ومن تصرفه في أحوال العباد وتمكينهم في الأرض جيلاً بعد جيل: نزع وإيتاء. إماتة وإحياء نظام حكيم لا يتخلف ثم يأتي التساؤل: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ؟ كلا ولكنهم غافلون ساهون عن هذه الآيات.
وفي الآية (63) ينتقل إلى التذكير بآيات برية وبحرية وأفقية فهو يهديكم في ظلمات البر والبحر، ويرسل السماء عليكم مدْراراً بعد أن يبشركم بإرسال الرياح بين يدي رحمته، ثم يأتي التساؤل:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ؟ بعد كل هذه العظات البيات، والدلائل اللائحات أمامكم. سبحان الله وتعالى عن الأنداد والشركاء.
أما ألاية (64) فقد لوَّحت في مجال هذا الاستدلال المفحم بآية بدء الخلق ثم إعادته، وبآية الرَّزْق من السماء بإنزال الماء بما يكفي حاجة العباد والزروع الأنعام، ثم تُقَفَِّى بالتساؤل المنكر لوجود إلهَّ مع الله:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ؟
ولما كانت هذه الآية (64) مسك الختام لهذا القطع الاستدلالي كانت خاتمتها: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي إن كنتم بعد هذه الدلائل كلها التي تعاينونها بأبصاركم، وتدركونها بعقولكم، وتحسونها بمشاعركم، وتعيشونها بكل جوارحكم، إن كنتم مع هذا كله تؤمنون بأن مع الله آلهة فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين في زعمكم وكان لكم برهان تستندون إليه.
والأمر في قوله تعالى: {هَاتُوا} للتعجيز، وعجزهم عن الإيتاء ببرهان كفيل - لو أطرحوا العناد - أن يبصرهم بما هم فيه من ضلال، وأن يهيئ لهمو سبل الهداية إلى الحق إن كانوا يريدون الحق.
وإلا فقد قامت عليهم الحُجَّة، وباعوا أنفسهم للشيطان وليهم في الدنيا والآخرة. وخسروا أنفسهم، وما ظلموت الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
أرأيت كيف أخلص لهم الناصح في النصح؟ وكيف هيأ لهم سبل الإيمان الحق، وكشف عن مساوئ الضلال الذي آثروه على الهدى. وكيف استثمرت الدعوة وسائل الإقناع السلمية، لعلهم بربهم يؤمنون.
* * *