الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحداً على اعتناق أية عقيدة. فلكل إنسان أن يعتقد ما يحلو له. وليس لأحد عليه سلطة الإجبار، لا بسلاح ولا بغير سلاح من وسائل القهر والاضطهاد.
اعتقال - حبس - فصل من عمل - تضييق في الحريات - حرمان من حقوق ترتبت له باعتبار إنسانيته وحياته، وحرمة مناله وعرضه. كل هذه الوسائل لا يقر الإسلام استعمالها ضد أحد كائناً من كان لتفرض عليه عقيدة وإن كانت عقيدة الإسلام، لأن ذلك ينافي مبدأ التكليف الحر النابع من حسن الإقناع بعد سوق البراهين عليه.
ولأن العقيدة مخلها القلوب، ووسيلتها الإقناع، والقلوب لا سلطان لأحد عليها إلا لله علام الغيوب، هذه الاعتبارات يقدرها الإسلام حق قدرها، ولذلك كان من أصوله الخالدة عدم الإكراه في الدين.
ومن الضوابط المتعلقة بحرية الاعتقاد في الإسلام بعد التفرقة التي اشرنا إليها من قبل بين ذوي الاعتقاد الصحيح وذوي الاعتقاد الفاسد في الآخرة، بأن لكل منهم جزاءً ومصيراً عند الله فإن الله تعالى يُفّرق بينهما في الحياة الدنيا، فيخص ذوي الاعتقاد الصحيح بلطائفة واحساناته وتوفيقه، ويحييهم حياة طيبة إذا قرنوا صحة اعتقادهم بالعمل الصالح، ثم يدخلهم روضات الجنات هم فيها يحبرون ويذر ذوي الاعتقاد الفاسد في طغيانهم يعمهون، تقتلهم الأوهام، ويستحوذ عليهم الشيطان، ثم يكونوا حصب جهنم هم فيها خالدون. ومعلوم أن هذه التفرقة ليست لأحد إلا لله.
على هذه الأسس ينبغي أن يُفْهَمَ مبدأ حرية الاعتقاد في الإسلام وعليها ندير الحديث في السطور الآتية:
*
من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر
.
إن من أوضح النصوص القرآنية دلالة على حرية الاعتقاد في الإسلام - في إطار الضوابط التي ذكرناها - قول الحق تبارك وتعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} .
من إخلاص النصح والتوجيه القرآني أن في هذه الآية الناطقة بكل وضوح بتقرير مبدأ حرية الاعتقاد بين الإيمان والكفر لوَّحت مرة وصرّحت أخرى أن الإيمان والكفر ليسا سواء.
أما التلويح فحيث قَّدمت مشيئة الإيمان لضرفه على مشيئة الكفر لخسته.
وأما التصريح فقد عقبت الحديث عن اختيار الكفر بالتنفير منه، حيث ذكرت مصير الكافرين في الحياة الآخرة.
حيث اعدَّ الله لهم ناراً. أحاط بهم سورها إحاطة الظرف بالمظروف فلا مخرج منها ولا مفر: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .
وإن طلبوا الإغاثة من حَرَّها بما يبرد أكبادهم، ويُذهب لظى أحشائهم جاءهم الغوث ولكن بغير ما أرادوا: ماء حار قبيح اللَّون إذا وضعوه على أفواهم ليشربوه شوى وجوهم وجلودهم. فإذا وصل إلى أجوافهم قطع أمعاءهم. وضاعف شقاءهم. فبئس هو شراباً، وساء هو رفيقاً:{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} .
أما الماء العذب الزلال فهم محرمون منه، وهو محرَّم عليهم:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} .
ظاهر من سياق آية الكهف أن القرآن حريص كل الحرص - وهو يقرر مبدأ حرية الاعتقاد - أن يؤكد أن هذه الحرية ليست مستوية الطرفين. وفي هذا إخلاص في النصح والتوجيه وأمانة في البلاغ والإبلاغ، لئلا تكون هذه الحرية المقصورة على الحياة الدنيا سبباً في هلاك فريق من العباد يرون أن الإيمان والكفر سيان في ميزان العدل الإلهي محياً ومماتاً. ولكن مع بيان هذه التفرقة بينهما يتحمل كل إنسان نتائج اختياره في الدنيا والآخرة
فمن سعيد بما كسب، وشقي بما اكتسب، وما الله بظلاٌم للعبيد.
وهذا هو منتهى العدل والإنصاف.
* * *