الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات
ومن تعقيبات الوحي الرحيم على حرص صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} .
أي أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرات. يُنكر عليه ذهاب نفسه حسرات عليهم ولكي يعينه على ترك الحسرة عليهم بيَّن له أن ضلال من ضلَّ، وهداية من اهتدى كل ذلك يجري وفق إرادة الله وحكمته وعلمه بحقائق عباده. فعلام التحسر والتأسف إذن؟
أي أن الناس مقهورون لله، وليس قاهرين له - سبحانه - وأن علم الله بما يصنعون يعقبه جزاء المحسن بالإحسان والمسئ بالإساءة. فلا تحزن عليهم فلن يفروا من عقاب الله العادل.
* * *
نفق في الأرض أو سُلَّم في السماء
وفي مواضع أخرى تعقيبات الوحي الكريم على حرص صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم على إسلام قومه، تفيد صياغة الكلام على أته عليه السلام قد بلغ مبلغاً بعيداً في ذلك الحرص، وسيطرت عليه رغبة عارمة في هداية القوم. لذلك فإن تعقيبات الوحي في هذه المرة جاءت تحمل كمنية هائلة من الشدة، وإنكاراً قوياً لما يصدر منه. ويصور ذلك كله قوله تعالى:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .
بدأ هذه الموقف من التعقيب بتسلية صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم بما ياتي:
فأولاً: أن الله يعلم من عليه حال قومه من الإعراض والصدود عن الحق.
وثانياً: أن إعراضهم وصدودهم لم يكن سببه قصوراً منه صلى الله عليه وسلم، ولا تكذيباً منهم له لنقص يرجع إلى الدلائل والبراهين التي أتاهم بها، بل هم يصدقونه في كل ما يقول، فليس هو في حاجة إلى دلائل جديدة لم يعرضها من قبل، أو آيات معجزة تحملهم على الإذعان والطاعة.
وثالثاً: أن السبب الحقيقي في إعراضهم وصدودهم هو العناد والجحود فهو مرض في قلوبهم، وليس عيباً أو نقصاً في أساليب الدعوة.
وبعد هذا البيان الحكيم، والتحليل الصادق للموقف يتوجه الوحي العظيم لصاحب الدعوة بهذا العتاب الهادر: وإن كَبُرَ وعظم عليك إعراضهم عنك وعن الحق الذي بعثناك به إليهم فافعل ما تريد.
فأمامك وتحت قدميك الأرض فنقّب فيها، وغّصْ في أعماقها فاستخرج لهم منها معجزات إن استطعتّ؟! وإن ضاقت عليك الأرض أو لم تجد فيها معجزات فإن فوقك السماء. فهل تستطيع أن تجد لك سَلَّمّاً لتصعد فيها فُتنْزِل لهم منها معجزة أو معجزات كي يؤمنوا وتستريح من عناء الحرص عليهم والإشفاق بهم؟!
ولا ريب أن الرسول حينما ووجه من ربه بهذا الإعجاز القاهر أدرك أنه دون هذا بكثير.
ثم كان ختام هذا التعقيب: إن مقاليد الأمور - كلها - بيد الله، ولو شاء لجعلهم أمة واحدة على أهدى قلب رجل واحد. فوطّن نفسك يا محمد على هذه السُنَّة الإلهية الحكيمة، وإيَّاك أن تكون ممن يجهلون سنن الله في خلقه.
إنه لتوجيه كريم، وتربيه قويمة، وتبصير مبين، يعود بصاحب الدعوة إلى أصل الرسالة: إنه التبليغ وحده مع ذكر الدلائل والبراهين التي أرشده إليها ربه، ولا عليه بعد ذلك أن يؤمن الناس جميعاً أو يعرضوا جميعاً.
وقد تكرر هذه التوجيه في إيجاز في مواضع، وفي إسهاب في مواضع أخرى:
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
…
}
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
…
} .
وهكذا تتوالى التعقيبات الإلهية على الحرص المضني الذي كان ينوء بأثقاله صاحب الدعوة. وما من تعقيب إلا ويدعوه إلى التريث والتثبت والتأني، ويأمره بالوقوف عند حد الإبلاغ الهادئ المبين، ونهاه عن التسرع والحزن والإنفعال، لأن هذه الأمور وسيلة، للميل عن سنن الرسالة وآدابها. ولو كان الله مؤذناً لأحد باستعمال البطش والقوة المجبرة على قبول الحق، والانقياد له قسراً، لكان خاتم الرسل أولى الناس بهذا الإذن، لأنه معصوم من الخطأ في التبليغ.
* * *