الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
سورة التوبة تتصدى وتواجه:
أطالت سورة التوبة الوقوف أمام مخادعات المنافقين وتلوُّن مواقفهم، وقد عرفنا من قبل سلوكيات المنافقين في غزوة الأحزاب، وفيما سجلته عليهم سورة التوبة ما ينبئ عن أن مسلكهم في غزوة تبوك كان شبيهاً بمسلكهم في غزوة الأحزاب، فقد نكصوا على أعقابهم وكرهوا الخروج في سبيل الله في الواقعتين معاً، وَسبُّوا رسول الله وأظهروا الشماتة به وبالمسلمين، وانتحلوا الأعذار في التخلف عن الجهاد، وبثوا روح التفرق بين الناس، وحاولوا جاهدين أن يثيروا الفتنة، ولغطوا لغطاً كثيراً فاحشاً، وقد سجلت عليهم سورة التوبة هذه الجرائم من الآية (42) إلى الآية (70) ، ثم من الآية (74) إلى الآية (78)
…
ومع إطالة القرآن الحديث عنهم وعن جرائمهم فقد وقف في مواجهتهم مواقف الكشف عن خباياهم والرد السلمي الهادئ على مفترياتهم دون أن يتجاوز ذلك إلى تأليب المسلمين عليهم، وإعمال السلاح فيهم.
ففي إظهار الشماتة بصاحب الدعوة والذين معه واجه القرآن هذه الجريمة مواجهة الناصح الأمين: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} .
كانت ماجهة القرآن لهم: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
وفي طعنهم على تصرف صاحب الدعوة في تفريق الصدقات كان رد القرآن عليهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} . أي لكان ذلك خيراً لهم.
وحين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: {هُوَ أُذُنٌ} أي يُصدَّق كل ما يسمع لغفلته وعدم فطنته كان الرد عليهم: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} راداً عليهم دعواهم أبلغ رد.
أي مصدر خير لكم لو أطعتموه. ولا تشتبه عليه الأمور كما تقولون، بل هو بالغ الذكاء والفطنة يميز بين الخير والشر، والحق والباطل.
وحين فرحوا بتخلفهم عن الجهاد في تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} . جاء الرد عليهم: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
وهكذا في هدوء تصدى القرآن لافتراءات المنافقين، وهتك أستار نفوسهم وعرَّاهم أمام الرأي العام، ولكن لم يصادر حرياتهم ولم يسلب أمنهم، ولم يضيق عليهم في حل ولا ترحال.
بل إن القرآن ليذهب في السماحة إلى أبعد من ذلك، فتراه في موضع آخر يفتح أمامهم باب التوبة، ويُرغّبهم فيها لينسوا ماضيهم ويقبلوا على عهد جديد، يبدل الله فيه سيئاتهم حسنات. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} .
وقد يقول قائل: كيف ذهبت هذا المذهب من عدم قتال المنافقين والله يقول فيهم: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} .
والجواب: إن هذه الآية ليست حكماً عاماً في جميع المنافقين، بل هي خاصة في طائفة منهم كانوا قد ارتدوا ولحقوا بالمشركين بعد إظهارهم الإيمان فهذا حكم خاص بهم.
أما كلامنا ففي المنافقين الذين لم يُحدثوا رِدُّة ظاهرية، فلا وجه لقول القائل الذي أشرنا إليه.