الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فبين في صدر المواجهة أن المسألة ليست إنكاراً للتوحيد ولاختصاص صاحب الدعوة بالوحي فحسب، بل الواقع أنهم في شك من قضية الوحي جملة. وأن السبب في هذا الشك واستمراره هو إمهال الله لهم، حيث لم يعجل لهم العذاب
…
ومع هذا الإمهال فإن العذاب نازل بهم - لا محالة -؛ لأن {لَمَّا} في قوله تعالى: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} تأتي لنفي الفعل بعدها في الحال وتؤذن بقرب وقوعه: اي لما يذوقوا عذابي وسيذوقوه قريباً، كما قال الشاعر:
أشواقاً ولمَّا لي غير ليلة فكيف إذا جدَّ المسير بنا شهراً
يتعجب من شدة الشوق لمفارقته أهله قبل أن تنقضي الليلة الأولى من رحيله عنهم، فكيف الحال إذا بلغ الرحيل شهراً.
* * *
*
الخطوة الثانية في المواجهة:
ثم انتقل البيان القرآني إلى الخطوة الثانية من المواجهة في الآيتين الآتيتين:
لما أنكر المشركون مبدأ التوحيد، وتعجبوا منه، وجعلوا الأصل هو التعدد في الآلهة. ثم أنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم هو المختار لتلقي الوحي وتبليغه، لما فعلوا ذلك فقدزجزا بأنفسهم في مجال ليسوا هم أهله وتطاولوا في الجعوى وأنزلوا أنفسهم في غير منازلها، لذلك واجه القرآن هذا الغرور وتلك الجهالة، فتساءل منكراً عليهم ما ادعوه لأنفسهم:
هل هم يملكون خزائن رحمة الله العزيز الذي لا يُقهر، الوهاب بفيوض النعم صغيرها وكبيرها - ومنها النبوة التي آثر بها عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم؟ إن كان تلك الخزائن فليوزعوا رحمة الله ونبواته تبعاً لأهوائهم وتصوراتهم؟
بل هل هم يملكون السموات والأرض وما بينهما؟ إن كان لهم ذلك فليأخذوا في أسباب الرقي والصعود إلى السماء ويديروا شئون العالم كما يشاءون؟ ولكنهم - كما علموا - من أنفسهم أنهم مخلوقون مقهورون لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، نواصيهم بيد خالقهم يصنع بهم ما يريد، ويقضي فيهم بما يشاء، ولا راد لما أراد، ولا دافع لما قضى وأبرم، فعلام هذا الجهل والتطاول؟
* * *
* الخطوة الثالثة:
أما الخطوة الثالثة في المواجهة في قوله تعالى: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} .
أي أنهم جند قد تحزبوا على صاحب الدعوة. وسوف تحل بهم الهزيمة لا محالة.
وقد تضمن هذا الخبر الصادق وَعْداً ووعيداً:
الوعد لصاحب الدعوة بأن الله ناصره وهازمهم. والوعيد للمشركين: بأن مصيرهم الهلام ما لم يؤمنوا ويذعنوا للحق الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
* الخطوة الرابعة:
بقيت خطوة رابعة في المواجهة، انتهى فيها القرآن إلى غاية النصح لهم، وأزاح ما بقى من عوائق تحول بينهم وبين الانصياع للحق.
ذلك أنهم كانوا - في بدء الدعوة - يستكثرون أنفسهم، وستقلون محمداً صلى الله عليه وسلم، ويقولون:{نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} .
ولما قال الوحي عنهم: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} فإن شعورهم
بالكثرة والتجمع يوحي إليهم - مع إغراء الشيطان - بأنهم لن يُغلبوا أمام محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن معه إلا القليل من الأتباع. فأزاح عنهم القرآن هذا الوهم بأدلة من التاريخ النبوي يعرفونها:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} .
أشار القرآن الأمين إلى مهلك ستة أقوام كذَّبوا لارسل فحق عليهم العقاب العادل من الله، ولم ينفعهم تجمعهم وكونهم أحزاباً من حلول نقمة الله بهم. ومشركو مكة إذا استمروا في تكذيبهم بالحق فسيحل بهم ما حل بأسلافهم في الكفر والعناد، وإن الله لبامرصاد.
في هذا البيان الواضح، والحقائق الناصعة إرشاد ونصح أمين وضعه الله أمام خصوم الدعوة، وهداهم النجدين: طريق النجاة، وطريق الهلاك، فإذا رجعوا إلى أنفسهم وتدبروا واطَّرحوا أسباب العناد هُدُوا ونَجَوْا، وإن بقوا على كبريائهم وجهلهم فما على الرسول إلا البلاغ المبين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون؟
وكان هدف العوة - هنا - من الوسائل السلمية التي جعلتها مادة للحوار لحمة وسدى: إقناع خصوم الدعوة بأن ما هم عليه باطل وضلال، وأن الحق إنما هو فيما يدعوهم إليه الوحي الأمين على لسان الرسول الكريم، الذي رموه زوراً وبهتاناً - بأنه ساحر كذاب؟!
* * *