الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دلائل كونية ناطقة
النموذج الثالث - من سورة "ق":
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
* فروق واضحة:
بين هذا النموذج واللَّذَين سبقاهة واضحة، ذلك أن القرآن الحكيم في النموذجين السابقين دحض شبهات منكري البعث بالدليل العقلي المباشر، وفي إيجاز كما تقدم، أما في هذا النموذج فقد ذكر شبهتهم في استبعاد البعث ولم يتصد لها مباشرة، بل عمد إلى ذكر حقائق أخرى يلزم منها عند من تأملها دحض تلك الشبهة. وهذا النموذج ينتظم في خمس عشرة آية كما ترى.
الآية الأولى: قَسَمٌ من الله بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ، وجوابه كما أجمع المفسرون محذوف لدلالة سياق الكلام - بعده - عليه، وتقديره: لتبعثُنَّ.
أما الآية الثانية: ففيها التصريح بتعجبهم من إرسال صاحب الدعوة إليهم: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} .
والآية الثالثة: تضمنت استبعادهم للبعث مع ذكر الشبهة الوحيدة التي تواطأ عليها منكرو البعث على مدى التاريخ النبوي كله.
ثم تبدأ لامواجهة من الآية الرابعة على النسق الآتي:
أولاً: في الآية الرابعة بيان بأن علم الله محيط بخلقه جميعاً ومنهم منكرو البعث، ومن مظاهر علمه أنه يعلم على إحاطة بما يحدث لهم تحت الأرض بعد موتهم من تآكل أبدانهم وتهرؤ عظامهم، وأن الله عنده كتاب ضابط لكل شيء. ومن كان هذا شأنه فلا يعجزه شيء في ملكوته: إحياء إفناء، بعث من جديد، إنه على كل شيء قدير.
ثم تبين الآية الخامسة أن داءهم الحقيقي هو التكذيب الذي جاءهم به صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم بالبعث صورة من صور التكذيب بالحق كله، وبسبب هذا التكذيب بالرسالة - جملة وتفصيلاً - انتابهم اضطراب وتخبط شأن منْ يرفض النور ويعيش في الظلام:{فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} .
ومن الاية السادسة حتى الحادية عشرة شروع في لفت الأنظار والعقول إلى بعض آيات الله الكونية من إحكام الخلق، والتدابير السنية، والِنَعم التي هيأها الله لعباده، والتصرفات المباركة في شئون الحياة.
بادئاً بدلائل عظمة الله في خلق السماء في بنائها المحكم وتزيينها للناظرين، وفيها من العظات والعبر ما يعمقحصول الإيمان في القلوب بكل ما جاءت به الرسل.
ثم كيف مدَّ الله الأرض وبسطها وثبَّتها بالرواسي الشامخات وأنبت فيها أصنافاً ذات بهجة من الزروع والأشجار، لا لتمد الناس بما يحتاجونه في حياتهم من صنوف النعم فحسب، ولكنها مع ذلك فيها دلائل مبصرة تغذي القلوب بالإيمان كما تغذي الأجسام
بالطعام، وفيها ذكرى وهداية لكل عبد أراد الخير لنفسه يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
ثم ساس القلوب سياسة حكيمة ووضع أمامها صور الماء المبارك النازل - بقدرة المنعم - من السكما، فسرعان ما تتلقاه الأرض فتنمو الحدائق والكروم بما لذَّ وطاب للعين والفم، وكذلك حب الحصيد الذي هو مصدر قوتهم، وترى النخل باسقاً، أصله ثابت وفرعه في السماء، تجود بأينع الرطب والثمار المختلف لوناً وطعماً وحجماً، أرزاق طيبة من الله بها على العباد يروحون ويغذون فيها، وإذا نزل الماء على الأرض الموات أحياها فصارت كالعروس ترفل في ألوان الزينات.
وهنا يعمد القرآن، وقد انجلى صدأ النفوس، وتفتحت القلوب، ورقت المشاعر، يعمد القرآن إلى توظيف هذا المشهد الذي يتكرر كثيراً، وهو إحياء الأرض الموات، وجعله دليلاً على إمكانية البعث عقلاً فيقول:{كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} اي كما نحيي الأرض الموات بإنزال الماء فتصبح الأرض مخضرة، نخرج الموتى من قبورهم أحياء كما كانوا قبل أن يموتوا فإذا كان منكرو البعث لا ينكرون هذه المشاهد المتكررة فكيف ساغ لهم أن ينكروا البعث، والإحياءان سواء في قدرة الله؟
ثم
…
أكُلُّ هذه الدلائل والعبر غابت عنهم وهم يشاهدونها في كل لحظة تمر بهم؟ إن إنكار البعث لم يكن سببه قصوراً من الدعوة في إثبات وقوعه عقلاً، فقد هيهأت الدعوة - بالوسائل السلمية - الطريق واضحة إلى كل ما طُلب منهم الإيمان به، وليس البعث وحده، فضلال منكري البعث ضلال عن علم وهُدىّ بعد أن بين الله لهم الحق من الباطل. استحوذ عليهم الشيطان وزيَّن لهم سوء اعتقادهم وعملهم، فصدُّوا عن السبيل وهم مستبصرون.
* * *