الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
النفاق الذي واجهته الدعوة:
لم يظهر النفاق في العقيدة والسلوك، إلا في المجتمع المدني بعد الهجرة فقد ظهرت قوة المسلمين في المدينة، والنفاق ينمو كثيراً في ظل القوة، فلجأ فريق من الكفار والمشركين لإخفاء كفرهم وشركهم، وتظاهروا بأنهم مسلمون رهبة ورغبة: رهبة من قوة المسلمين، ورغبة في دفع الشر عن أنفسهم، وجلب النفع لها، وبذلك استطاع المنافقون أن يندسوا في تجمعات المسلمين، ويغشوا مجالسهم ويؤدون معهم شعائر الدين من صلاة وحج، ويحضرون مجالس مشورتهم ويطلعون على أسرارهم ولا يتراخون لحظة في تدبير المؤامرات ضد الإسلام والكيد له بما استطاعوا من الحيل بعد أن اتخذوا من النفاق غطاء لكفرهم وسء مقاصدهم، ولا ريب أن نفاق العقيدة كفر بل هو أشنع من الكفر الظاهر، لأنه جمع الكذب والخداع إلى أصل الكفر.
ونفاق العقيدة الذي واجهته الدعوة لم ينسلخ عن نفاق السلوك، فالمنافقون كانوا يحرصون على أن يبدوا أمام الناس في سمت الصالحين من عباد الله؛ يذكرون الله بألسنتهم وقلوبهم أحلك من سواد الليل. وهم - في الواقع - أشد خطراً على الإسلام وعلى المسلمين من الذين أعلنوا كفرهم أمام الله والناس واعتزلوا المسلمين.
* * *
*
كيف واجه الإسلام ظاهرة النفاق والمنافقين
؟
لم يُصِدر حكماً بإعمال السلاح في رقاب المنافقين، للقضاء على دابرهم، ولم يحل بينهم وبين حقوقهم في الحياة، ولم يصادر حرياتهم لا في قول ولا في فعل، ولكنه وقف منهم موقفاً سلمياً فاقتصر دوره عالى فضح مؤامراتهم، وكشف أسرارهم، وتحذير المسلمين من الإنخداع بهم، وتهديدهم بسوء المصير، ونهى الله صاحب الدعوة عن الركون إليهم والصلاة عليهم إذا ماتوا، ثم الاستغفار لهم أحياءً وأمواتاً.
كما أمره بجهادهم والإغلاط عليهم في الجهاد، والجهاد - هنا - لا يعني القتل والقتال وإسالة الدماء في كل حال. وإنما هو جهاد بالكلمة والدليل والبرهان، وهذا هو منهج
الإسلام مع خصومه، ما لم يبدأوا هم بالعدوان {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
وفي سورتي الأحزاب والتوبة تصدى القرآن - سلمياً - لكثير من ألاعيب المنافقين في حدود الإطار العام لموقف الدعوة منهم.
فقد أرجف المنافقون إرجافاً شنيعاً وقت غزوة الخندق التي تحالفت قريش مع من استطاعت من قبائل العرب على غزو المدينة مقر الدولة الإسلامية الناشئة، وهي المعروفة بغزوة الأحزاب. وكان هدف المنافقين صد الناس عن الخروج مع صاحب الجعوة، لإضعاف قوته، وتمهيداً لانتصار قريش وحلفائها عليه.
فكانوا يشيعون روح التخاذل ويكذّبون وعد الله ورسوله ويقولون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} .
ثم يُحرّضون الناس على الإنسلاخ من قوات الجعوة وينصحونهم بالعودة إلى المدينة ويقولون: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} .
ويبدأون بتنفيذ مؤامرتهم الدنيئة فيستأذنون النبي في الرجوع إلى المدينة من ميدان القتال بدعوى حمايوة أموالهم واسرهم من اللصوص: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} .
فماذا صنع القرآن إزاء هذا كله؟ لم يخط نحوهم خطوة واحدة فيها أمر بقتالهم والإطاحة بأعناقهم، وسبى نسائهم وذراريهم ومصادرة أموالهم ودورهم، أو حتى حرمانهم من حقوقهم المدنية، بل أقتصر دوره على تكذيبهم وكشف الأسباب الحقيقة لهروبهم ولتثبيط همم الناس
…
ادعوا أن بيوتهم عورة فقال القرآن: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} ، ثم أفصح عن السبب الحقيقي الذي حملهم على ما صنعوا:{إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} ، وأنهم بسبب نفاقهم
لو اقتحم عليهم العدو دورهم ثم طلب منهم الانقضاض على النبي وصحبه، والإعلان عن كفرهم صراحة لما تلكأ والحظة في إجابة ما طلبه العدو منهم:{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} .
ثم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {.... لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} .
ثم تابعت السورة كشف خباياهم حتى الآية رقم (20) ، ومع هذا ظل المنافقون في المدينة بعد هذه الجرائم يتمتعون بكل حقوقهم في الحياة ويتنقلون بين أرجائها في حريات كاملة.
ترى: لو حدث مثل ما فعلوه ضد أي نظام حكم معاصر، ماذا يحدث من النظم الحاكمة؟
المصير معروف: عمالة -تعاون مع العدو - هروب من الميدان - خيانة كبرى للوطن - التحريض ضد النظام. ثم اعتقالات وتوجيه التهم المذكورة ثم تحقيقات، ثم محاكمات، وسعيد الحظ من يُحكم عليه بالمؤبد. والشقي ليس له مصير إلا الإعدام شنقاً أو رمياً بالرصاس. ولا تنفعهم شفاعة الشافعين إن جرؤ أحد على الشفاعة لم، ولو باسم القانون!!
فليسأل خصوم الإسلام في الخارج والداخل، ليسألوا أنفسهم هل فعل الإسلام شيئاً من ذلك مع ألدّ خصومه؟ وأخطر أعدائه؟ حين كان الإسلام يطبق على أيدى قادة يعرفون حقيقة الإسلام، ويحرصون كل الحرص على الإلتزام بأوامره ونواهيه؟ نازلين على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، تاركين هوى أنفسهم، ماضين على أمر الله فكان واقعهم هو الإسلام في أجلى معانيه.
* * *