الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
وبعد الانتهاء من تحقيق هذا الكتاب، أودُّ أن أجعلَ الخاتمة في بيان عقيدة ابن العطار رحمه الله.
فقد تبين لي من خلال الدراسة، والبحث، والتحقيق أن ابن العطار رحمه الله من العلماء المتمسكين باعتقاد السَّلف الصالح، وبأصول أهل السُّنة والجماعة، وسائر عل منهج أهل الحديث في الاعتقاد، وأن ما ما وقع فيه من مآخذ علمية يسيرة، وأخطاء في بعض الألفاظ، والعبارات، والكلمات، وقع لغيره من أهل العلم من أهل السُّنة والجماعة، ومَن سار على منهج السَّلف، ومع ذلك لم يحكمْ عليهم بالخروج عن هذا المنهج.
ومما يؤكد ما ذكرته، وتوصلت إليه ما يلي:
أولاً: تصريحه رحمه الله أنه صنَّف هذا الكتاب على أصول أهل السُّنة في الاعتقاد، حيث قال في المقدمة:(أما بعد: فهذا كتابٌ صنفته على أصول أهل السُّنة في الاعتقاد من غير زيد)(1).
ثانياً: المنهج الذي اتبعه، وسار عليه في كتابه؛ واضح من خلال عرضه لمسائل الاعتقاد، والاستدلال لها، من اتباع الكتاب والسُّنة، والحرص على أقوال سلف هذه الأمة للوصول إلى الفهم الصَّائب، والمتصفِّح لهذا الكتاب يجدُ حرصه رحمه الله على ذكر أقوال السلف في مسائل عديدة كمسألة النزول، والرؤية، والفوقية، والقول بخلق القرآن،
(1) انظر: (ص 100).
ومسألة اللفظ بالقرآن، ومسائل الإيمان ونواقضه، وقضايا التكفير، وغيرها.
كما نلاحظ أنه في المقابل صَرَّح بالبعد عن مناهج أهل البدع كالتأويل، والتَّحريف، والتَّعطيل، والتمثيل، والتكييف ونحوها من المناهج، يقول رحمه الله بعد أن ذكر جملة من الصِّفات:(لا يشبه في شيء من ذلك شيئاً من مخلوقاته، ولا يشبَّه به شيء من مخلوقاته، ولا يحدَّه سبحانه وتعالى حدّ، ولا يعرَّف إلا بتعريفه، ولا يتصرف إلا بتصريفه، ولا يكيفه سبحانه تكييف، ولا يمثله تمثيل)(1)، وبعد ذكره لتأويل المعطلة ليد الله سبحانه وتعالى بالنعمتين والقوتين ورده عليهم، قال:(فتعيّن القول بتنْزيه الباري عز وجل عن التشبيه والتعطيل، وعدم التحريف والتكييف والتمثيل والأخذ بقوله تعالى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، منًّا من الله سبحانه وتعالى بالتفهيم والتعريف لسلوك التوحيد والتنْزيه، وكذا القول في جميع ما ثبت من ذلك)(2).
وبعد ذكره لجملة من الصِّفات قال: (وجب اعتقاد حقيقته من غير تشبيهٍ لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، والانتهاء إلى ما قاله الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم من غير إضافة، ولا زيادةٍ عليه، ولا تكييف له، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير
…
) (3).
ومما يدلُّ على هذا المنهج الذي سلكه بغضه لأهل البدع ومناهجهم، الذين يعادون أئمة السَّلف وأصحاب الحديث، حيث قال: (وبغض أهل البدع الذين أحدثوا في الدَّين ما ليس منه
…
وعلامات
(1) انظر: (ص 108).
(2)
انظر: (ص 131).
(3)
انظر: (ص 132).
البدع على أهلها تظهر ولا تخفى، وأظهر علاماتهم شدةُ معاداتهم لحملة أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهم، واستخفافهم بهم، وتسميتهم إياهم حشوية، ومشبّهة، وجهلة
…
) (1).
ثالثاً: إثباته للصِّفات الذاتية منها والفعلية، على خلاف أهل البدع؛ الذين نازعوا فيها أو في بعضها، قال رحمه الله: (وأنه سبحانه وتعالى عالم بعلم، قادر بقدرةً، حيّ بحياة، مريد بإرادة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلِّم بكلام
…
) (2).
وقال في الاستواء: (وأنه سبحانه استوى على العرش؛ كما نطق به الكتاب العزيز)(3) وأثبت النُّزول قائلاً: (وأنه سبحانه وتعالى ينْزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، وكذلك يوم عرفة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة)(4).
وقال رحمه الله ذاكراً جملة من الصِّفات، ومثبتاً لها:(فإذا نطق الكتاب العزيز، ووردت الأخبار الصَّحيحة بإثبات السمع، والبصر، والعين، والوجه، والعلم، والقوة، والقدرة، والعِزَّة، والعظمة، والمشيئة والإرادة، والقول والكلام، والرَّضا والسّخط، والحب والبغض، والفرح والضّحك، وجب اعتقاد حقيقته من غير تشبيهٍ لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، والانتهاء إلى ما قاله الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم)(5).
(1) انظر: (ص 323).
(2)
انظر: (ص 108).
(3)
انظر: (ص 110).
(4)
انظر: (ص 113).
(5)
انظر: (ص 132).
وقال عن صفة العلو: (الفوقية ثابتة له سبحانه وتعالى من كل وجهٍ يليق به سبحانه وتعالى)(1).
وقال: (والفوقية المطلقة صفة تفرَّد بها الربّ سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى -فوق كل شيء وليس فوقه شيء)(2).
وقال: (وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا أن الله تعالى على عرشه فوق سمواته)(3).
رابعاً: وقوفه رحمه الله عند النص، والأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به، واتباع سنته وتعظيمها، وعدم تقديم أي شيء عليها من أقوال الرجال، مع الالتزام بما ورد به الدليل، إذ يقول:(فما أثبته سبحانه لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أثبتناه، وما نفاه نفيناه، وما سكت عنه سكتنا عنه، وما ذكره سبحانه وتعالى في الكتاب العزيز، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مفرقاً ذكرناه مفرقاً، وما ذكره مجموعاً ذكرناه مجموعاً)(4).
ونقل عن الصابوني قوله: (ومن تمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بها، واستقام عليها، ودعا الخلق إليها كان أجره وافراً)(5).
ونقل أيضاً عن الطحاوي قوله: (وكل ما جاء من الحديث الصَّحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كما قال، ومعناه على ما أراد)(6).
واستشهد بقول نصر بن إبراهيم المقدسي - مؤكداً ما قاله -: (إنه
(1) انظر: (ص 187).
(2)
انظر: (ص 178).
(3)
انظر: (ص 179).
(4)
انظر: (ص 123).
(5)
انظر: (ص 341).
(6)
انظر: (ص 212).
لا يجوز اعتقاد ما لم يكن له أصل في كتاب الله تعالى، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم من الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسان) (1)، كما نجد أن المؤلف قد عَقَدَ فصلاً كاملاً في فضل التمسك بالسُّنة، وهو الفصل السَّابع والثَّلاثون.
خامساً: أنه أخذ عقيدته المسطرة في هذا الكتاب من كتب علماء أهل السُّنة والجماعة المعروفين، وجعل هذه الكتب مصدراً له في بيان اعتقاده؛ الذي يدينُ الله تعالى به، إذ يكاد يكون أغلب كتاب عقيدة السَّلف للصَّابوني مبثوثاً في كتاب ابن العطار هذا، كما أنه أكثر النقل عن الإمام الطَّحاوي في عقيدته المشهورة، واستشهد بها كثيراً.
وكذلك نقل من كتاب (الحجة على تارك المحجة) لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي؛ والذي قال عنه وعن مؤلفه: (وروينا بإسنادنا إلى الشيخ الزاهد أبي الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي رحمه الله المتفق على إمامته، وجلالته، ودينه، وورعه، وتفرّده بذلك في زمنه بالشام وغيره، في كتابه (الحجة على تارك المحجة)، في عقيدته التي أجمع عليها علماء الإسلام) (2).
وكذلك نقله عن ابن جرير في كتابه (صريح السنة)، والحافظ أبي بكر الإسماعيلي في كتابه (اعتقاد أهل السنة)، ونقله كذلك لكلام ابن حبان، وتعليقاته في كتابه (الصحيح).
وهذا من الأدلة الواضحة على سلامة اعتقاد ابن العطار رحمه الله.
أما نقله عن القاضي عياض، فقد أخذ منه ما وافق أهل السنة في مسألة الرؤية، وقضايا ومسائل التَّكفير.
(1) انظر: (ص 180).
(2)
انظر: (ص 180).
سادساً: ثناء أهل العلم عليه، وذكره بالصلاح، وسلامة المنهج، بل وعدّه من أهل الحديث والأثر والمحبين لِسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه من المبغضين لأهل البدع، ومناهجهم، وآرائهم، ومن أبرز من أثنى عليه تلميذه شمس الدِّين الذَّهبي - كما سبق -.
سابعاً: تفصيله وذِكْره لبعض المسائل؛ التي امتاز بذكرها أهل السنة عن غيرهم، مثل: عدم تكفير المسلم بكل ذنب، والصلاة خلف كل برٍّ وفاجر، والجهاد مع الأئمة، والدعاء لهم، وعدم الخروج عليهم، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والكفّ عما شَجَر بين الصحابة، وحكم السِّحر والسَّحرة، وتحريم المسكرات والسَّماع، والمسارعة إلى الصَّلوات، والتواصي بفعل الخير، والحب في الله والبغض فيه، وذِكْر علامات أهل البدع، وكذلك علامات أهل السُّنة، وفضل التمسُّك بالسُّنة، والوقوف عند أمر الله ونهيه، ونواقض الإيمان، ومسائل التكفير، ويضافُ إلى ذلك ردوده على الصوفية، والمسائل المتعلقة بالوعظ، وتربية النفوس.
ثامناً: ومما يؤكد أن ابن العطار رحمه الله على مذهب أهل السُّنة والجماعة، أن هذه العقيدة التي كتبها تخالفُ السَّائد المنتشر في بيئته وعصره، من طغيان المذهب الأشعري، وكثرة علمائه ومدارسه، وكذلك انتشار الفكر الصُّوفي، ومع ذلك صنَّف هذا الكتاب المصادم للمذهب الأشعري؛ الذي اكتمل في زمنه، ثم إنَّ رسالته في السَّماع فيها ردّ على الصُّوفية.
تاسعاً: إن شيوخه ومعاصريه وأقرانه وتلاميذه الغالب أنهم أشاعرة، وكذلك بالنسبة للمدارس العلمية التي دَرَسَ ودرّس فيها، ومع ذلك لم يظهرْ تأثيرُ ذلك عليه، بل خالف ذلك كله، والتزم بمنهج السلف، ولو كان أشعرياً أو كان على مذهب قدماء الأشاعرة لظهر ذلك
في كتابه؛ الذي فصّل فيه أبواب الاعتقاد، أو لنقل من علماء الأشاعرة، واعتمد على كتبهم ومصنفاتهم، ولكن نجد أنه أخذ عقيدته من أعلام أهل السُّنة والجماعة، واعتمد على مصنفاتهم ومؤلفاتهم؛ كما مرّ بنا سابقاً.
وأخيراً فهذا ما توصلتُ إليه، وما ظهر لي من خلال البحث والدِّراسة، والله أسال أن يرحمَ أبا العلاء ابن العطار، وأن يغفر له، ويعفو عنه، وأن يجزيه خير الجزاء، وأن يعلي درجته في الآخرة، والله أعلم، وما توفيقي إلا بالله، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.