الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كنتُ في البلقان
(1)
المسلمون في ألبانيا
(1)
الخطبةُ الأولى:
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئات أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون: كنتُ مع مجموعةٍ من إخوانٍ لي فضلاءَ في أرضِ البَلْقان، وفي جزءٍ مهمٍّ منها، حيث للإسلامِ تاريخٌ، وللمسلمين وجودٌ قديمٌ - ومن خلالِ مشاهداتي سأُحدِّثكُم .. ولستُ أدري أأحدِّثُكم عن غيابِ الهُويَّةِ الإسلامية وجهودِ الأعداءِ ومَكْرِهم وخُطَطِهم لسَلْخِ المسلمين عن دينِهم عبرَ عقودٍ خلتْ .. كيف آلَ إليه أمرُ المسلمين في ظلِّ هذه الظروفِ الصعبة؟ أم أحدِّثُكم عن الانبعاثِ الإسلاميِّ الجديد، والعودةِ إلى أصولِ الإسلام وتعاليمِه، وماذا يحتاجُه المسلمون العائدون من إخوانِهم المسلمين في كلِّ مكان .. ولا سيَّما في بلادِ الحرمينِ الشريفينِ حَرَسها الله.
ولن أحدِّثَكم عن جمالِ الطبيعةِ هناك في ألبانيا، ولا عن الوِدْيانِ المتدفِّقة، والأنهارِ الجارية، ولا عن العيونِ الزرقاءِ ومياهِها العجيبة وظِلالِها الوارفة،
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/ 5/ 1422 هـ.
فذاك دأْبُ أصحابِ كتب الرِّحلات، لكني سأحدِّثُكم عن شيءٍ من واقعِ المسلمين هناك، والصعوباتِ التي تواجهُهم، والحلولِ وأنواعِ الدعمِ التي يمكن أن تُقدَّمَ لهم.
إخوةَ الإيمان: في أَلبانيا للإسلام جذورٌ وللمسلمين تاريخٌ، ولكنّ البلادَ حين حُكِمت بالشيوعية مؤخَّرًا مع العقودِ الأخيرة الخمسةِ من القرنِ الميلاديِّ المنصرمِ، عادت إليها غُرْبةُ الإسلام، وكانت خمسون عامًا حتى سنة 1990 م كفيلةً بمَسْخِ صورةِ الإسلامِ ومحاصرةِ المسلمين والتضييقِ عليهم، حتى هُدمَت المساجدُ العامرةُ بالمصلِّين، وما بقي فيها -وهو نَزْرٌ يسيرٌ- كان يُستخدَم لِلَّهو واللعبِ ولدورِ السينما، بل ربما هُدِمَ المسجدُ وأُقيمَ مكانه دوراتٌ للمياهِ لمزيدِ النكاية بالمسلمين وأماكنِ عبادتِهم؟
والقويُّ من المسلمين -وهم قِلَّة كذلك- مَن باتَ يُصلِّي سرًّا، ويصومُ رمضانَ خُفْية- حتى إن المصابيح لتُطفَأُ، والنوافذَ تُغلَق ويوضعُ عليها ما يسترُ الأنظارَ حين يقومُ المسلمون في الأسحارِ لتناولِ طعام السحور.
ووصَلَ سوءُ الحالِ والتضييقُ على المسلمينَ إلى السجن .. ليس لمن يقول: ربِّيَ الله، فقط، بل ولمن يقول: هناك ربٌّ؟ ! إذ يُروِّج الشيوعيون لفكرةِ الإلحاد القائلة: لا إلهَ والكونُ مادَّة .. تعالى اللهُ عما يقولُ الظالمون علوًّا كبيرًا.
وفي ظلِّ هذه الأجواءِ الصعبةِ والقبضةِ الحديديّة الشيوعيةِ نشأ جيلٌ من أبناءِ المسلمين لا يعرفُ من الإسلام إلا اسمَه، ولا من القرآنِ إلا رسمَه، وما يسمعُه من أبويهِ -إن قُدِّر له أن يسمعَ شيئًا من ذلك- إذْ بلغ الحالُ ببعضِ الآباء أن يمنعَ أولادَه من تعلُّمِ شيءٍ من القرآن حتى لا يتعرَّضَ الابنُ أو تتعرضَ الأسرةُ كلُّها لعقوبةِ الشيوعيين، والجريمةُ تعلُّمُ القرآن؟ !
عبادَ الله: هذه الصورةُ المظلِمة، وهذا الكبتُ الرهيبُ، والتضييقُ على الناس في كل شيء، حتى غدا الناسُ كلُّهم وكأنهم في سجنٍ داخلَ ألبانيا -كما يقول الألبان- هذه الحالةُ ما كان لها أن تستمرَّ، فقد ضَجِرَ الناسُ وضاقوا ذَرْعًا بالشيوعيةِ والشيوعيين، وكان في سقوطِ الشيوعية في الاتحاد السوفيتي- ثم ما تلاها من دولٍ أُخرى كانت تابعةً لها- متنفسٌ لهؤلاء الألبان، إذْ قاموا عامَ تسعين وتسعمائة وألف بثورةٍ شعبيةٍ عارمةٍ ضدَّ الشيوعية والشيوعيين وسرَتْ هذه الحركةُ الشعبية في طولِ البلادِ وعرضِها حتى سقطت الشيوعيةُ في ألبانيا وعاد الحكمُ ديمقراطيًا -كما يقولون- من عام ثنتين وتسعين وتسعمائة وألف، وهنا تنفَّس الألبانُ الصُّعَداءَ، وعادُوا للحياةِ من جديد .. وكأنهم من قبلُ كانوا في عِدادِ الموتى، وعاد المسلمون يمارِسون عبادتَهم التي طالما مُنِعوا من أدائِها .. إلَّا من ضَعُفَ أو انسلخَ من تكاليفِ الإسلام فأولئك ظلُّوا في غيِّهم يعمهون، وفي حَيْرتِهم يتردَّدون، ولذا فلا غرابةَ أن تسمعَ الرجلَ أو المرأةَ يعتَّزانِ بالانتماء إلى الإسلامِ، فإذا سألتَ عن الصلاةِ أو الصيامِ أو نحوِها من واجباتِ الإسلام لم تجدْ لها وجودًا عند هؤلاء؟
أيها المسلمون: وبرغم هذه الغُرْبة عن الإسلام، ووجودِ مسلمينَ بلا إسلامٍ حقيقي -هناك فَثمَّةَ صورةٌ مُشرِقة تقابلُ هذه الصورةَ، إذ يوجدُ نفرٌ من المسلمين والمسلماتِ يلتزمونَ بالإسلامِ عقيدةً وسلوكًا، انتماءً وواقعًا، أولئك يَعمُرونَ المساجدَ بالطاعة، ويذكُرون الله ويشكرونَه على تغيُّرِ الحال، أولئك حريصون على الخيرِ، وقائمون بما يستطيعون من تكاليفِ الإسلامِ وواجباتِه -بل وسُنَنِه- ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، والجميلُ في هذه الصحوةِ أن عمادَها الشبابُ، وهؤلاء الشبابُ حريصون على الخيرِ وعلى دعوةِ قومِهم وأهلِيهم، ولديهم من الهِمَّة والحيويَّة والجِدّيَّة ما يجعلُهم بإذنِ الله أملًا يُرجَى نفعُه في ألبانيا -بل
وفيما جاوَرَهم من أرضِ البَلْقان.
إخوةَ الإسلام: إن الزائرَ لألبانيا قبل عقدٍ من الزمن أو يزيد قليلًا .. والزائرَ اليوم يجدُ فرقًا كبيرًا في أوضاعِ المسلمين عمومًا، وفي أوضاعِ الشباب خُصوصًا، فمِن قَبلُ كان الشرودُ والضياعُ والقهرُ والاستبدادُ وفُقدانُ الهُويةِ، والعيشُ بلا هدفٍ، والسجنُ والأذى لمن يَحمِل همَّ الإسلام أو يُحدِّد أهدافًا غيرَ أهدافِ الشيوعية في الحياة.
أما اليوم فالانتماءُ للإسلام مفخرةٌ، والمسلمون يعيشون لأهدافٍ نبيلة، والدعوةُ إلى الله يَرُوجُ سوقُها، ويشتدُّ ساقُها، والمساجد تُعمَر حِسًّا ومعنىً .. والمؤسساتُ الإسلامية والهيئاتُ الدعويّة تجدُ لها مجالًا في الدعوة، والدعاةُ إلى الله يَجِدُون من يُرحِّب بهم ويسمعُ إليهم.
أيها المسلمون: وبشكلٍ عامٍّ ومعَ هذه المبشِّرات والإرهاصات، فالمسلمون في ألبانيا يواجهون صعوباتٍ تُحِيطُ بهم ومعوِّقات، ومن المناسبِ أن يعلمَها إخوانُهم المسلمون ليساهموا في حلِّها وتذليلِها، ومن هذه الصعوباتِ ما يلي:
1 -
غربةُ الإسلامِ الماضية لا تزال آثارُها باقيةً، ومهما قيل عن نفرٍ من المسلمين وفَّقهم اللهُ وتجاوزوها، فَثمّةَ أكثريةٌ من المسلمين لا يزال الإسلامُ فيهم غريبًا، وتشكِّل الغُربة والجهلُ بالدِّين أكبرَ المعوِّقاتِ للدعوة ونشرِ الخير في ألبانيا.
2 -
والوجودُ النصرانيُّ قويٌّ في ألبانيا، لا بكثرةِ النصارى، فنسبةُ المسلمين هناك بين خمسةٍ وسبعين إلى ثمانين بالمائة من تعدادِ السكان، بينما يشكِّل النصارى ما بين عشرين إلى خمسةٍ وعشرين بالمائة. ولكن قوة النصارى بالدَّعمِ والمساندةِ سواءٌ من داخلِ ألبانيا أو من القُوى النصرانيةِ خارجَ ألبانيا .. وحتى
تتضحَ الصورةُ وإن كانت مأساويةً، يُقال: إنه يوجد الآنَ في ألبانيا أكثرُ من مائةٍ وثلاثين مؤسسةً تنصيريةً، على حين تُعدُّ المؤسساتُ الإسلاميةُ العاملةُ هناك على الأصابعِ، وليس يخفى أنَّ ألبانيا تُحاطُ بالدولِ النصرانية من جميعِ جهاتِها.
3 -
الفسادُ الخُلُقيُّ هناك كثيرٌ، والمحرَّمات منتشرةٌ، والفتنةُ كبيرة، لا سيَّما مع تبرُّجِ النساءِ الفاضحِ، وانتشارِ الخمورِ والمخدّراتِ ونحوِها من موادِّ الفسادِ الفكرية عبرَ القنواتِ الغازيَةِ، والمسلمون في ألبانيا هدفٌ يُراهِنُ عليه الأعداءُ بكلِّ وسيلة. ولكن {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (1).
(1) سورة الأنفال، الآية:8.