الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقه الجنائز
(1)
الخطبةُ الأولى:
الحمدُ لله ربِّ العالمين جعلَ لكل شيءٍ قَدَرًا، وخَلَق الموتَ والحياةَ ليبلُوَكم أيُّكم أحسنُ عملًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له جعلَ الليلَ والنهارَ خِلْفةً لمن أراد أن يَذَّكَّرَ أو أرادَ شكورًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه توفَّاه ربُّه بعد أن أكملَ به الدينَ ونشر رحمتَه في العالمين - اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلين، وارضَ اللهمَّ عن صحابتِه أجمعين، والتابعينَ ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: حين يكونُ الحديثُ عن الموتِ والجنائزِ فذاك حديثٌ إلى كلِّ واحدٍ منا، وتذكيرٌ بمصيرِنا جميعًا، ولا مَفرَّ من الموتِ ولو رَغِبْنا {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} (2) وإذ كان كأسُ الموتِ مَشربَنا جميعًا، فالسعيدُ منا من زُحزِحَ عن النار وأُدخِل الجنةَ فقد فاز، وما الحياةُ الدنيا إلا متاعُ الغُرور.
إخوةَ الإسلام: ومع ما في ذِكْر الموت من تليين القلوبِ والزهدِ في الدنيا، ولذا كانت وصيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أكثِروا ذِكرَ هاذِم اللذاتِ)) يعني الموتَ (3).
ففي ذكرِ الجنائز تنبيهٌ على أمورٍ يَحسُن التنبُّهُ لها، وتحذيرٌ من أمورٍ ينبغي الحذرُ منها، وقد نَغفُلُ حين تقعُ المصيبةُ عن هذا أو ذاك، وهذه بعضُ الوَقَفاتِ
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 18/ 11/ 1422 هـ.
(2)
سورة الجمعة، الآية:8.
(3)
صحيح سنن الترمذي 2/ 266، صحيح سنن ابن ماجه 2/ 419.
والتنبيهاتِ حولَ الموتِ والجنائز:
أولًا: مَنْ أَكْيسُ الناسِ؟ سألَ رجلٌ من الأنصار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيُّ المؤمنين أفضلُ؟ قال: ((أحسنُهم خُلُقًا)) قال: فأيُّ المؤمنين أَكْيسُ؟ [أي أعقلُ] قال رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثرُهم للموتِ ذِكْرًا، وأحسنُهم لِمَا بعدَه استِعدادًا، أولئك الأكياسُ)) حديث حسن (1).
وهكذا فالكيِّسونَ لا يَكتفُون بذِكْرِ الموت، بل يُحسِنُون الاستعدادَ له.
ثانيًا: لماذا الخوفُ من القبرِ؟ في ((صحيحِ سنن التِّرمذيِّ))، و ((صحيحِ سنن ابن ماجه)): أن عثمان بن عَفَّانَ رضي الله عنه كان إذا وقفَ على قبرٍ بكى، حتى يَبُلَّ لحيتَه، فقيل له: تَذكُرُ الجنةَ والنارَ فلا تبكي وتبكي مِن هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ القبرَ أولُ مَنزِلٍ من منازلِ الآخرةِ، فإنْ نَجَا منه فما بعدَه أَيسرُ منه، وإن لم يَنْجُ منه فما بعدَه أشدُّ منه)) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيتُ مَنظَرًا قطُّ إلا القبرُ أفظعُ منه)) (2).
فهل نتذكَّرُ هَوْلَ هذا المنظرِ ونستعدُّ لما بعدَه، وهل ننظرُ للقبورِ حين نزورُ المقابرَ بهذه النظرةِ الواعيةِ العاملة؟
ثالثًا: حُسْنُ الظنِّ بالله دائمًا ولا سيما عند نزولِ الموت، وهذا الخوفُ من القبرِ وما بعدَه لا ينبغي أن يُغيِّبَ عَنَّا حُسنَ الظنِّ بالله ورجاءَ عفوِه ومغفرتِه، مع الخوفِ منه وحُسنِ العملِ له، فقد دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم على شابٍّ وهو في الموتِ فقال:((كيف تَجِدُك؟ )) قال: أرجُو اللهَ يا رسول الله، وأخافُ ذُنوبي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَجْتمعانِ في قلبِ عبدٍ - في مثلِ هذا الموطنِ - ألا أعطاه
(1) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 419.
(2)
صحيح سنن الترمذي 2/ 267، صحيح سنن ابن ماجه 2/ 421.
اللهُ ما يَرجُو، وآَمَنَه مما يخافُ)) (1)، وفي ((صحيح مسلم)) قال صلى الله عليه وسلم:((لا يَمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسِنُ الظنَّ باللهِ)).
رابعًا: حضورُ الميِّت وتلقينُ المحتضَرِ، كم يتهاونُ البعضُ منّا، أو يتخوَّفُ في حضورِ المُحتضَرِين! أو نَحضرُ دون أن يستفيدَ الأمواتُ من حضورِنا، وفي صحيح مسلمٍ قال صلى الله عليه وسلم:((لَقِّنُوا مَوتاكُم لا إله إلا الله)) (2)، وهذه الساعاتُ لها ما بعدَها.
وفي حديث معاذٍ رضي الله عنه: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَن كان آخرُ كلامِه لا إله إلا اللهُ، دَخَلَ الجنةَ)) (3).
ومِن هنا يتبيَّن أهميةُ حضورِ الموتى وإعانتِهم وتذكيرِهم على النُّطقِ بالشهادة، فذلك من حقوقِ المسلمِ على أخيه، قال القُرْطبيُّ رحمه الله: وفي أمرِه عليه الصلاة والسلام بتلقينِ الموتى ما يدلُّ على تعيُّنِ الحضورِ لتذكيرِه وإغماضِه والقيامِ عليه، وذلك من حقوقِ المسلمِ على المسلمين (4).
والتلقينُ ينبغي أن يكونَ برِفْقٍ ودونَ إكثارٍ على المحتَضَر، فقد رُوي عن ابن المبارَك رحمه الله أن رجلًا حَضَرَه عند الوفاةِ فجعل يُلقِّنه لا إله إلا الله، وأكثَرَ عليه فقال له عبدُ الله: إذا قلتُ مرةً فأنا على ذلك ما لم أتكلَّم بكلام (5).
(1) حديث حسن: صحيح سنن ابن ماجه 2/ 420، السلسلة الصحيحة 1051.
(2)
حديث رقم (916).
(3)
رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي في المستدرك 1/ 351.
(4)
المفهم 2/ 570، أحكام الجنائز، الزومان/ 4.
(5)
سنن الترمذي 3/ 307، 308، الزومان/ 3. وعلى من حضر عند من به نَزْعُ الموتِ أن يدعوَ له ولا يقولَ في حضوره إلا خيرًا قال صلى الله عليه وسلم:((إذا حضرتم المريضَ أو الميتَ فقولوا خيرًا فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون)) رواه مسلم 917.
خامسًا: والوصيةُ لا تقرِّبُ الموتَ ولا تبعدُه، ويخطئُ بعضُ الأموات حين يتراخَوْنَ في الوصيةِ حتى يَبغَتَهم الموتُ فجأةً، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يُذكِّر المسلمين بهذه الوصيةِ ويقول:((ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يُوصِي فيه يَبِيتُ ليلتينِ إلا ووصيَّتُه مكتوبةٌ عندَه)) (1).
ويَحرُمُ الإضرارُ بالوصيةِ كأن يُوصِيَ لبعضِ الوَرَثةِ أو يُفضِّلَ بعضَهم على بعض، وعلى مَن عَلِمَ من مُوصٍ جَنَفًا أو إضرارًا أن يذكِّرَه ويخوِّفَه بالله، وعلى الموصَى له أن يُصلحَ الوصيةَ لتكونَ وَفْقَ المشروعِ كما قال تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
قال ابن كثيرٍ: وأحسنُ ما وردَ في النهيِ عن الحَيْفِ في الوصيةِ قولُه صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الرجل ليعملُ بعملِ أهلِ الخير سبعينَ سنةً، فإذا أوصَى حافَ في وصيِته فيُختَمُ له بشرِّ عمله فيدخلُ النارَ، وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ الشرِّ سبعينَ سنةً فيعدِلُ في وصيتِهِ فيُختَمُ له بخيرِ عملِه فيدخلُ الجنةَ)) قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (3).
سادسًا: فإذا مات الميتُ شَخَصَ بصرُه إلى السماء؛ لأنَّ البصرَ يَتبعُ الروحَ، ولذا يُسَنُّ تغميضُ عينَي الميت، وأن يُغطَّى بما يَستُر جميعَ بدنِه إلا من كان مُحْرِمًا فلا يُغطَّى رأسُه ولا وجهُه، ويُعجَّل بتجهيزِه والإسراع في دفنِه، وفي الحديث:((أَسرِعوا بالجَنازةِ، فإنْ تكُ صالحةً فخيرٌ تُقدِّمونَها إليه، وإنْ تكُ سوى ذلك فشرٌّ تَضعُونَه عن رقابِكم)) متفق عليه (4).
(1) رواه البخاري 3/ 186.
(2)
سورة البقرة، الآية:182.
(3)
سورة البقرة، الآية:229. وانظر تفسير ابن كثير عند آية البقرة 182 - 1/ 305.
(4)
صحيح الجامع الصغير 1/ 325.
وفي ((صحيحِ البخاريَّ)) وغيرِه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا وُضِعَتِ الجنازةُ واحتملَها الرجالُ على أعناقِهم، فإنْ كانت صالحةً قالت: قَدِّموني وإن كانت غيرَ صالحةٍ قالت لأهلها: يا ويلَها أين تذهبونَ بها؟ يَسمَعُ صوتَها كلُّ شيءٍ إلا الإنسانَ، ولو سمعَها الإنسانُ لصَعِقَ)) (1).
وحين تُوضَعُ الجنازةُ في القبر يُسنُّ القولُ: باسمِ الله على سنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم (2).
ومن السُّنة إدخالُ الميتِ القبرَ من قِبَلِ رِجْلَي القبرِ.
سابعًا: ويجوزُ الإخبارُ عن الميتِ ليكثُرَ المصلُّون عليه، لا للمباهاةِ بل للدعاءِ له، وفي الحديث ((ما من ميّتٍ تُصلِّي عليه أُمّةٌ من المسلمينَ يَبلُغونَ مئةً كلُّهم يَشفَعُون له إلا شُفِّعوا فيه)) رواه مسلم.
وروى مسلمٌ - أيضًا - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما مِن رجلٍ مسلمٍ يموتُ فيقومُ على جنازتِه أربعونَ رجلًا لا يُشرِكُون بالله شيئًا، إلا شَفَّعَهم اللهُ فيه)).
ومن فاتته الصلاةُ على الميتِ في المسجد فليصلِّ عليها في المقبرةِ أو على القبرِ بعد دفنِه - وكَرِهَ بعضُهم ذلك وقتَ النهي بعد دفنِه؛ كابن عثيمين رحمه الله.
ومن فاتته بعضُ صلاةِ الجنازة فإنه يقضيهِ في الحالِ، فإذا أدركَ مع الإمام التكبيرةَ الثالثةَ فإنه يُكبرُ ويقرأُ الفاتحةَ، وإذا كبَّر الإمامُ الرابعةَ فإنه يُكبِّر الثانيةَ - بالنسبة له - ويُصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإذا سلَّمَ الإمامُ كبّرَ الثالثةَ ودعا للميتِ، ثم يُكبّر الرابعةَ ويُسلِّم (3).
وفي الصلاةِ على الجنازةِ وحضورِها حتى تُدفنَ قِيراطانِ، وفي الصلاةِ
(1) صحيح الجامع 1/ 289.
(2)
صحيح الجامع الصغير 1/ 289.
(3)
نُقل ذلك عن الشيخ ابن باز رحمه الله، الشيخ صالح الخضيري، فقه الجنائز (خطبة).
قيراطٌ، والقِيراطُ مثل أُحدٍ، ولا بدَّ من الإخلاصِ والاحتسابِ في ذلك لقولِه صلى الله عليه وسلم:((مَن تَبعَ جنازةَ مسلمٍ إيمانًا واحتسابًا))، وحين سمع ابنُ عمرَ رضي الله عنهما من أبي هريرة رضي الله عنه حديثَ القيراطَينِ في الجنائز قال: لقد فرَّطْنا في قراريطَ كثيرةٍ.
وإذا قال هذا أمثالُ ابنِ عمرَ، فماذا يقولُ أمثالُنا؟ ممّن يُفرِّط في قراريطَ كثيرةٍ.
ثامنًا: إخوةَ الإيمان: وعلى أهل الميتِ أن يَصبِرُوا عند المصيبةِ وأن يحتسبوا الأجرَ على الله، فلا تَسخُّطَ ولا جَزَعَ ولا نياحةَ؛ بل رضا وصبرٌ وحَمْدٌ واسترجاعٌ ألا وإنها البِشارةُ للصابرين {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن مُسلمٍ تُصِيبُه مصيبةٌ فيقولَ ما أمرَه اللهُ: إنا للهِ وإنا إليه راجعونَ، اللهمَّ أجُرْني في مُصِيبَتي، وأَخلِفْ لي خيرًا منها، إلا أخلفَ اللهُ له خيرًا منها)) رواه مسلم.
وتَحرُم النياحةُ على الميت، وهي من كبائرِ الذنوبِ ومن صفاتِ أهل الجاهلية، وهي فوقَ البكاءِ، وذلك بوقوفِ النساءِ متقابِلاتٍ يَصِحْنَ ويضربنَ وجوهَهنَّ ويَحثيِنَ الترابَ على رؤوسهنَّ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال عن النائحةِ:((النائحةُ إذا لم تَتُب قبلَ موتِها تُقامُ يومَ القيامةِ وعليها سِرْبالٌ من قَطِرانٍ ودِرْعٌ من جَرَبٍ)) رواه مسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (2).
(1) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157.
(2)
سورة الأنبياء: الآيتان: 34، 35.