الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ خَلَقَ فسوَّى، وقدَّر فهَدَى، وله الحكمُ في الآخرة والأولى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، ما من دابةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتِها ويعلمُ مستقَرَّها ومستودَعَها .. وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله.
عبادَ الله: وثَمّةَ أمرٌ التذكيرُ به والتنبيهُ عليه غايةٌ في الأهمية في كلِّ زمانٍ ومكان .. ولكنّ الحاجةَ إلى التنبيه عليه في الإجازاتِ وحين السفريّاتِ والتنقلاتِ يكون أشدَّ.
5 -
إنه الغَيرةُ على المحارِم .. ذلكم الرباطُ الأُسَريُّ الذي خفّ ميزانُه عند البعض .. فنتج عن ذلك من المفاسدِ والضَّياعِ ما يَنْدَى له الجبين .. وعند رجالِ الأمن والحِسبة الخبرُ اليقين! إنَّ من أبرزِ مظاهرِ ضعف الغَيْرة عدم شعورِ الوليِّ بالمسؤولية .. أو عدمَ ممارسةِ هذه المسؤولية بالشكل المطلوب. ومن آثار ذلك غَفْلةُ الوليِّ أو تساهُلُه في ما يدخل البيوتَ من آلاتِ ووسائلِ اللهو، وأنواعِ الأشرطةِ والمجلات، وفتحِ الباب على مِصْراعيهِ على أنواع القنوات .. وتلك وربِّي تعملُ عملها في الصغير والكبير، والذكرِ والأنثى، والمتعلِّم والأُمي.
ومن الآثار لضعف المسئوليةِ والقِوَامةِ المشروعة ذهابُ الأسرة حيث شاءوا للحدائقِ والمتنزَّهات أو نحوِها، ولربما ذهب بهم الأبُ أو الابنُ أو السائق فوضعهم في أطرافِ النهار ولم يَعُدْ لهم إلا في ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل .. وهو لا يدري ماذا يصنعونَ ولا مَنْ يخالطون؟
وقُلْ مثلَ ذلك عن من يَضَعُون نساءَهم وبناتِهم في الأسواقِ لساعاتٍ طِوَال .. وقد يتعرَّضون لمخاطرَ ومراوداتٍ لا يستسلمون لها في البدايةِ وربما ضَعُفوا
واستسلموا في النهاية .. وهو سببٌ في الإهمال .. وعليه كِفْلُه من الانحرافِ إذا لم يَحفَظِ الأمانةَ ولم يلتزمْ بالمسؤولية والقِوَامة .. وينبغي أن يُعلَمَ أن الثقة شيءٌ وفعلَ الأسباب المشروعةِ والأخذَ بأسبابِ النجاةِ والسلامة شيءٌ آخرُ، ولا تعارُضَ بين الأمرين.
ومن آثار ضعفِ الغَيْرة أن بعضَ البيوت ولا سيَّما النساءِ -باتت تتَّصلُ بمطعمٍ أو آخر لتأمين وجبةٍ والمجيءِ بها للبيت في غَيْبة الرجل، ولا تسأل عن مخاطرِ حديث المرأة مع رجلٍ أجنبيّ .. فكيف إذا جاءَ للبيت وربما استقبلَتْه المرأةُ صاحبةُ الطلب، وسلَّمته المبلغَ واستلمتْ منه الطعام؟ كم من فرصةٍ للشيطانِ في هذه المُداخَلات والمحادَثات .. وهل هذه وتلك من المروءةِ والحياءِ في شيء؟ وهل يرضى بها أصحابُ الشَّهامة .. فضلًا عن أصحابِ الدِّيانة؟
إن الانشغالَ بالدنيا واللُّهاثَ وراءَ المادة .. ربما كان سببًا لبعض هذه المظاهر .. فالأبُ يفرحُ بمن يقضي عنه حوائجَ أهله .. وبأيِّ شكلٍ من الأشكال -دون تنبُّه للمخاطرِ والمفاسد المستقبلية، وكلما باشَرَ الرجلُ أو أحد أبنائه الكِبارِ قضاءَ حوائجِ أهله، واعتنى بذهابهم ومجيئهم، كان ذلك دليلَ النُّبل ومؤشرًا للاهتمامِ بالأهل والأولاد، وحين يَتصوَّرُ الوليُّ أن ذلك جزءًا من واجباتِه، وقد يكون أَوْلَى من بعضِ مسؤولياته التي يمارسُها وينشغلُ بها، كلما كان ذلك دليلًا على الوعي ومؤشرًا إلى إعطاءِ الحقوقِ وصيانة الحُرُماتِ، وحين نلومُ بعضَ النساء التي تتوسَّعُ في الخروج هنا وهناك، وفي كثرة الحديثِ مع الرجالِ الأجانب والاختلاطِ بهم، ينبغي أن نلومَ كذلك الرجالَ الذين يُقصِّرون في واجباتِهم مع أهليهم.
عبادَ الله: لا ينبغي أن نكتفيَ بالتحسُّر على الواقعِ والتأثرِ لسماع الأخبار السيئة، ونُطأطأَ الرؤوسَ ونُحوقلَ عند سماع أنواعِ الجرائم الواقعة لمن حولَنا،
بل ينبغي أن نحاسِبَ أنفسَنا ونمارسَ الرقابةَ والقِوامة داخلَ بيوتنا، هذا على مستوى الأفراد.
أما على المستوى الآخَر فينبغي أن يكون للعلماءِ والدُّعاةِ وطلبةِ العلم دورٌ أكثرُ مما هم عليه في التحذيرِ من الجريمةِ وبيان سُبُل الوقاية في المدن والقرى والمناطقِ النائية، وإذا وُجِدَ فقراءُ يحتاجون لسدِّ جَوْعتِهم وستر عوراتِهم .. فثَمّةَ فقراءُ يحتاجون إلى نوع آخر من الطعام واللباس .. إنهم محتاجون إلى غذاءِ الإيمانِ ولباسِ التقوى، محتاجون إلى من يأخذُ بأيديهم إلى برِّ الأمن والإيمان .. ويُحذِّرهم من الفتنِ والشرورِ والآثام والحَيْرِة والقلق.
وعلى صعيد آخرَ، فالجهاتُ المعنيةُ بالأمن وتخفيضِ معدَّلات الجريمة عليها كِفْلٌ كبير من المسؤولية، فهل تَرصدُ أبرزَ مظاهرِ الانحراف بأسبابها وآثارها، ونِسَبها؟ وهل تقوم باقتراح وتنفيذِ البرامج التي تُعالج وتحذِّر .. وتُرغِّب وترهِّب .. أم إن دورها ينتهي عند حدود المتابعةِ للجريمة إذا وقعت .. دون وضعِ حلولٍ مستقبليةٍ تمنع مَثيلاتِها -أو تمنع ما هو أعظمُ منها؟
وباختصارٍ أقول: إن حمايةَ المجتمع من أيِّ انحرافٍ مسؤوليتنا جميعًا أفرادًا ومؤسَّساتٍ، وحين نَصدُق ونُخلِص ونُفكر ونُخطط لابدَّ أن نُنتج.
معاشرَ المسلمين: إن عجلةَ الزمان تدور، والوقتُ يمضي سريعًا، والموفَّق من حَفِظَ وقتَه واستثمرَه لعملِ الصالحات، والكيِّسُ من عَظَّم حُرماتِ الله في حالِ سفره أو إقامته، وفي حال قوّتِه أو ضعفه، والسعيدُ من جاءته منيَّتُه وهو مُستعدٌّ للقاءِ ربِّه، وإذا كان الكثيرُ منا يجهدُ ويخطِّط لدنياه، فكم هم الذين يُفكِّرون ويخطِّطون للآخرة بالقَدْر المناسبِ لطولِ الإقامة فيها، ولنوعِ النعيم أو الجحيمِ الموعودِ فيها؟
لابدَّ من مجاهدةِ النفسِ والصبرِ على طولِ الطريق، وتحمُّل عناءِ السفر، ومن وصايا الصالحين أسوق لكم هذه الوصية: «مَنْ لم يحتملْ ألمَ التعلُّم لم يَذُقْ لذةَ العلم ومَن لم يَكدَحْ لم يُفلح، إذا خلوتَ من التعلم والتفكيرِ فحرِّك لسانَك بالذكر وخاصةً عند النوم، وإذا حَدَث لك فرحٌ بالدنيا فاذكر الموتَ وسرعةَ الزوال وكثرةَ المنغِّصات، إذا حَزَبَك أمرٌ فاسترجِعْ، وإذا اعتَرَتْكَ غفلةٌ فاستغفِر، واعلم أن للدِّين عَبِقةً وعَرَقًا يُنادي على صاحبه، ونورًا وضيئًا يُشرِق عليه ويدلّ عليه. يا مُحيِي القلوبِ المَيْتةِ بالإيمان خُذْ بأيدينا من مَهْواة الهَلَكة وطهِّرنا من دَرَن الدنيا بالإخلاص لك (1).
(1) تهذيب سير أعلام النبلاء 3/ 1561.