الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، هو الحيُّ لا إله إلا هو فاعبدُوه مُخلِصين له الدِّين، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ولو أنَّ السماواتِ السبعَ وعامرَهنَّ غيرَ الله والأرَضِينَ السبعَ وُضِعتْ في كِفّة، ولا إله إلا الله في كفةٍ، لرجحتْ بهنَّ لا إله إلا الله، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، مَن صلَّى عليه صلاةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا، اللهمَّ صلَّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوةَ الإسلام: هنيئًا للذين لا تزالُ شفاهُهم تتحرَّك بذِكْرِ الله في حال خَلْوتِهم أو في حال اجتماعِهم مع الناس، وهنيئًا للذين يَعقِدون أناملَهم بالتسبيحِ والتحميدِ والتكبير والتهليل في حالِ إقامتِهم أو سفرِهم.
إن أُولي الألبابِ هم الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبِهم.
والمؤمنون حقًا هم الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبُهم والذين آمنوا هم الذين تطمئنُّ قلوبُهم بذِكْر الله .. وفَرْقٌ بين هؤلاء وبين مَنْ إذا ذُكِرَ اللهُ وحدَه اشمأزَّت قلوبُهم وإذا ذُكِر الذين من دونِه إذا هم يستبشرون.
أجل يا عبادَ الله، إن المصلِّين أكثرُ الناس ذِكرًا لله وتلاوةً واستغفارًا، كيف لا وفي الصلاة ذِكرٌ ودعاءٌ وتسبيحٌ وتهليل وتكبير وتحميدٌ، بل لقد سمَّى اللهُ الصلاةَ ذِكرًا كما في قوله تعالى:{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1).
أمّا المنافقون فهم أضعفُ الناسِ وأقلُّهم للهِ ذِكرًا {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) لأنهم إذا قاموا إلى الصلاةِ قاموا كُسالى.
(1) سورة الجمعة، الآية:9.
(2)
سورة النساء، الآية:142.
عبادَ الله: كم هو عظيمٌ عندَ الله أن يتذكَّرَ المرءُ عَظَمةَ الله، ويذكرَ آلاءهَ ونعمَه فيخشعَ قلبُه لذِكْر الله وتفيضَ عيناهُ بالدموع حيث لا يراهُ إلا الله، وأحدُ السبعةِ الذين يُظلُّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه رجلٌ ذكرَ الله خاليًا ففاضت عيناه، وربُّنا في محكم التنزيل يقول:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (1).
وكم هو عظيمٌ كذلك أن يُذكِّر المرءُ بذكر الله فيَذكرَ اللهَ في حالِ اجتماع الناس ليذكِّرَهم بالله -وكفى أولئك فخرًا أن الله يَذكُرهم في ملإٍ خيرٍ من الملأ الذين ذكروا اللهَ عندهم .. ذلك وعدٌ غيرُ مكذوب «مَن ذَكَرني في ملإٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منهم» {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (2).
وما أعظمَ الأمرَ حين يشاهِدُ المرءُ خَلقًا عظيمًا أو صُنعًا عجيبًا في الكون فيذكِّرُه ذلك بمَن خلقَ العظيم ومن صنَع العجيب، ومن عجبٍ أن نعجبَ أحيانًا من الطائرة في جوِّ السماء وننسى عظمةَ مَن خلقَ السماء وأمسك السماواتِ والأرضَ أن تزولا .. وهل من قادرٍ على إمساكِهما لو زالتا؟ كلَّا بل هو اللهُ العزيزُ الحكيم.
يا أخا الإيمان: وإذا أثقلتْكَ الخطايا وتلبَّستَ بالمعاصي وأحسستَ بالذنْبِ فعليك بالذِّكر فهو كفَّارةٌ للخطايا، وفي صحيحِ الأدب المفرَد للبخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ غصنًا فنفضَه فلم ينتفض، ثم نفضَه أخرى فلم ينتفضْ، ثم نفضَه فتحاتَّتْ ورقُها، ثم قال:«إنَّ سبحانَ الله والحمد لله ولا إله إلا الله تَنفُضُ الخطايا كما تنفضُ الشجرةُ ورقَها» (3).
(1) سورة الأعراف، الآية:205.
(2)
سورة البقرة، الآية:152.
(3)
صحيح الأدب المفرد للبخاري/ تحقيق الألباني ص 237.
وهل سمعتُم بحديثِ البطاقة وما فيه من عَظَمةِ الذِّكر وعدلِ ربِّ العالمين، فقد روى الترمذيُّ وحسَّنه والنَّسَائيُّ والحاكمُ وصححه ووافقه الذهبيُّ مرفوعًا:«يُصَاحُ برجلٍ من أمتي على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامة فيُنشَرُ له تسعةٌ وتسعون سجلًا، كلّ سِجِلٍّ فيها مدَّ البصرِ، ثم يقال: أتُنكِر من هذا شيئًا؟ أظلمَك كَتَبَتي الحافظون؟ فيقول: لا ياربِّ، فيقال: أفَلكَ عُذرٌ أو حسنةٌ؟ فيهابُ الرجلُ فيقول: لا، فيقال: بلى، إنَّ لكَ عندنا حسنةً وإنه لا ظلمَ عليك اليومَ فيُخرَجُ له بطاقةٌ فيها: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، فيقول: يا ربِّ، ما هذه البطاقةُ مع هذِه السِّجِلاتِ؟ فيقال: إنك لا تُظلَمُ، فتوضَعُ السجلاتُ في كفَّةٍ والبطاقة في كفةٍ فطاشت السجلاتُ وثَقُلَت البطاقةُ» .
قال ابنُ القيِّم رحمه الله: فالأعمالُ لا تتفاضلُ بصُوَرِها وعددِها، وإنما تتفاضلُ بتفاضلِ ما في القلوب، فتكون صورةُ العملينِ واحدةً وبينهما من التفاضل كما بينَ السماءِ والأرض (1).
ألا فاستحضِروا عَظَمَة الله حين تذكرونه، وأحْيُوا قلوبَكم بذِكْره، وإياكم وترانيمَ الأَذكارِ البِدْعيةَ، دون وعيٍ لما يقال، ولا تأثُّرٍ بالأذكار كما يفعلُ المتصوِّفة.
يا أخا الإسلام: عوِّد نفسَك على ذِكْر الله ذكرًا كثيرًا، وذكِّرْ به مَن حولَك فالذِّكرى تنفعُ المؤمنين، وإياكَ أن تكونَ في عِدادِ الموتى وأنت بَعدُ على قيدِ الحياة، فالفرقُ بينَ من يَذكُرُ اللهَ ومن لا يذكرُ الله كالفرقِ بين الحيِّ والميتِ، والناصحون يقولون لك: عُدْ إلى حديثِ الأذكارِ وتأمَّلْ فضلَها واحفظْ واعملْ بها تيسَّرَ لك منها وستجدُ الطمأنينةَ والسعادةَ والحفظَ والعونَ في الدنيا ..
(1) فتح المجيد، تحقيق الفقي ص 52.
وستجدُ الجزاءَ الأكبرَ يومَ تلقى الله .. ولا تكنْ حصيلتُك من الموعظةِ مجرَّدَ سماعها، وما أعظمَ البيوتَ حين تُعمَر بذِكْر الله، بل وما أعظمَ الأماكنَ العامةَ والمؤسساتِ حين يعلو بها ذِكرُ الله، كم نحتاجُ للتذكير بقيمة الذِّكر في وسائل الإعلام ومناهجِ التعليم، وفي المحاضراتِ والنَّدَوات، وفي الخُطَب والمناسبات، في البرِّ والبحرِ وفي جوِّ السماء، بل هناك مَن يرى أنَّ ثوابَ الذِّكر يصلُ الموتى .. تلك ذكرى والذِّكرى تنفعُ المؤمنين، ومن تزكَّى فإنما يتزكَّى لنفسِه، لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير، سبحانَ الله وبحمدِه عددَ خلقِه ورضاءَ نفسِه وزِنَةَ عرشِه ومِدادَ كلماتِه.