الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كُنتُ في البلقان
(2)
المسلمون في البوسنة والهرسك
(1)
الخطبةُ الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه .. اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلين وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
إخوة الإسلام: ولئِن كان الحديثُ في الجمعةِ الماضيةِ عن الإسلامِ والمسلمين في ألبانيا بينَ آثارِ الشيوعيةِ والانبعاثِ الإسلاميِّ الجديد، فحديثُ اليوم عن فئةٍ أُخرى من المسلمين عاشوا هم الآخرون تحتَ وَطْأة الشيوعيةِ والشيوعيِّين فترةً من الزمن، ثم عاشوا تحتَ حُكْم النصارى العربِ والكُرْوات فترةً زمنيةً أخرى، ثم عادوا اليومَ يحكمُهم الشيوعيون والعِلْمانيون .. كانت
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/ 5/ 1422 هـ.
(2)
سورة النساء، الآية:1.
(3)
سورة فاطر، الآية:5.
أخبارُهم وأحوالُهم غائبةً عن المسلمين فترةً من الزمن، حتى إذا دقَّ النصارى طبولَ الحرب وأرادوا تصفيةَ الوجودِ الإسلاميِّ في البوسنة والهرسك، تحرَّكتْ عواطفُ المسلمين في المشرقِ والمغربِ، وعَرَفَ من لم يعرِفْ من قبلُ أن في البوسنة والهرسك رجالًا ونساءً وأطفالًا يقولون: ربُّنا الله.
عبادَ الله: إلى أرضِ البوسنة والهرسك أنقلُكم -ولو ذِهْنيًا- وعن أحوالِ المسلمين البوسنيين أحدِّثُكم -ولو قليلًا- ومن لم يهتمَّ بأمرِ المسلمين فليس منهم.
ولستُ أدري أمِنْ روائعِ الجهاد وبطولاتِ المقاتلين أَطُوف بكم .. وهناك لو استُنطِقَ الحجرُ لشهدَ على ملاحمِ البطولةِ وكرامةِ الشهداء، وتكادُ الأوديةُ الجاريةُ بالأنهار .. أن تختلطَ بها دماءُ القتلى والجرحى.
يمكنُك في أرضِ البوسنة والهرسك أن تقرأ الحربَ وآثارَها في المُعاقِين والمرضى، وفي كثرةِ القبور الجماعية على جَنَباتِ الطُّرُق، وفي آثار التدميرِ في المنشآتِ والمباني التي لم تُرمَّمْ بعدُ.
أم أتحدَّثُ عن وحشيةِ النصارى وما فعلوه بالمسلمين سواءً من داخلِ أرض البوسنة أم من خارجِها، ولا سيَّما الدولِ الكبرى، أم أتحدَّثُ إليكم عن مكاسبِ المسلمين وخسائرِهم في هذه الحربِ الأخيرة وما هو الدَّورُ المطلوبُ من المسلمين تجاهَ إخوانهم، بعد معرفةِ خُطَطِ النصارى ووجودِهم في البوسنة والهرسك.
أيها المسلمون: وبدأتْ أكثريَّةُ المسلمين تعرفُ عن الإسلام والمسلمين في البوسنةِ والهرسك بعد الحربِ التي استمرَّتْ أكثرَ من ثلاثِ سنوات من عام 1992 م إلى 1995 م .. وكان لوحشيةِ النصارى الصِّربِ بالذاتِ في هذه الحربِ
أثرٌ في تعاطُفِ المسلمين، بل وغيرِ المسلمين مع مُسلِمي البوسنة والهرسك.
كيف لا يتعاطفون وقد خلَّفتِ الحربُ ما يزيدُ عن مائتي ألف قتيلٍ ما بين مسلمٍ ومسلمةٍ وطفلٍ؟
أما الجرحى والمعاقون -بأيِّ نوعٍ من الإعاقة- فهؤلاء يُقدَّرون بمائة ألفٍ، ولا يزال ما يَقرُبُ من ثلاثين ألفَ معاقٍ يُعانُون من أثرِ الإعاقة.
كما خلّفت الحربُ خمسةً وعشرين ألف يتيمٍ، ولا تسأل عن حاجةِ هؤلاءِ للرعاية -لكافةِ جوانبِها.
أما مَن فرَّ من المسلمين البوسنِّيين نتيجةَ ويلاتِ الحرب فيُقدَّرُون بمليونِ مسلمٍ، على هيئةِ لاجئين إما من قريةٍ إلى أخرى داخلَ البوسنة، أو من دولتِه إلى دولةٍ مجاورةٍ، ومنهم من فرَّ إلى دولٍ بعيدةٍ إسلاميةً كانت أم غيرَ إسلامية.
إخوةَ الإيمان: ولم تقفْ آثارُ الحرب وهجمةُ النصارى على المسلمين في البوسنة عند هذا الحدِّ .. بل طالتِ الآثارُ العزَّلَ من السلاحِ والآمنين في بيوتِهم ولم تَسلَم النساءُ من خُبْثِ النصارى ووحشيَّتِهم .. ويؤكِّدُ البوسنيون أن أكثرَ من أربعين ألفَ امرأةٍ مسلمة فعلَ بها النصارى الفاحشةَ، هذا إنْ سَلِمَتْ من القتلِ والتشريد.
وبيوتُ الله هي الأخرى أُسقطِت مآذنُها ومحاريبُها وهُدِّمت جدرانُها، وقد بلغ عددُ المساجدِ التي سُويِّتَ بالأرض ودُمِّرت تمامًا ستُّمائةِ مسجدٍ تقريبًا، وفوقَ ذلك أُصيبَ ثلاثُمائةِ مسجدٍ بشدوخٍ وتصدُّعاتٍ تحتاجُ معه إلى ترميمٍ وإصلاحٍ، ونال التدميرُ كذلك المنشآتِ والممتلكاتِ، وأُفسدت البُنَى التحتيةُ من طرقٍ وجسورٍ ومولِّداتِ كهرباء ونحوِها فضلًا عن تهديمِ البيوت ليصبحَ ساكنوها بلا مأوى، ويقال: إنه يوجدُ الآن أكثرُ من ثلاثِمائةِ ألفِ مسلمٍ لم يستطيعوا
العودةَ إلى منازلِهم في البوسنة -على أثرِ تدميرِ الحرب وتشريدِ الشعوب.
إخوةَ الإيمان: والمآسي هناك تَعصُر الفؤادَ، ووحشيةُ الصِّرب والكُرْوات والنصارى تظهرُ في أكثرَ من اتجاه .. ولئن نسي العالَمُ أو تناسَوْا هذه المآسيَ والجرائمَ، فلن ينسى المسلمون عامةً ومسلمو البوسنة والهرسكِ على وجه الخصوص تلك المذابحَ الجماعيةَ الغادرة التي تمَّت بتواطئٍ وتخطيطٍ من المجرمين، وما مذبحةُ (سربرنتسا) إلا نموذجًا لهذا الغدرِ الأثيم، فقد كانت مُحصّلةُ القتلى في هذه الحادثةِ وحدَها عشرة آلاف وأربعمائة قتيل وقتيلة، في مدةٍ لا تتجاوزُ الأسبوع! وفي هذه المذبحةِ غابتْ شِعاراتُ حقوقِ الإنسان عند الغربِ، بل وغاب معها قِيَمُ الغرب التي طالما تبجَّح بها، والسببُ أن العنصرَ الخاسرَ مسلمون حتى ولو كانوا أوربيين؟ لكن حقوق هؤلاءِ المسلمين المظلومين محفوظةٌ عند المسلمين، وجزاؤُهم وأجرُهم عند ربِّ العالمين.
أيها المسلمون: وبرغمِ هذه الويلاتِ والخسائرِ المُرَّة لهجمةِ النصارى على المسلمين، إلا أن الأحداث برُمَّتِها لم تكن شرًا محضًا، بل كان في ثناياها من الخيرِ ما يحمل البِشرَ، والفأْلَ لحاضرِ المسلمين في البوسنة والهرسك ومستقبلِهم بإذن الله .. وهنا يَردُ السؤال .. وما هي الآثارُ الإيجابيةُ والمبشِّراتُ الإسلامية في أرضِ البوسنة والهرسك:
1 -
لقد كان من أبرزِ هذه الآثارِ معرفةً عددٍ من المسلمين في العالم بإخوانٍ لهم في العقيدةِ في البوسنة والهرسك، وتعاطُفِهم معهم بالدَّعم والدعاءِ، وهذا في حدِّ ذاتِه مكسبٌ لإحياءِ مشاعرِ المسلمين وترابُطِهم إذا استمرَّ وأُنجِز.
2 -
وفي نفوسِ البوسنيين أَيقظتِ الحربُ بويلاتِها وشراسةِ النصارى وحِقْدِهم كوامنَ العقيدة في النفوس، فعادوا يتذكَّرون هويتَهم المفقودةَ ردحًا من الزمن، وبدؤوا يعدون إلى دينِهم ويعتزُّون بإسلامهم، في مقابلِ تعصُّب النصارى لدينِهم
وحربِهم للمسلمين على عقيدتِهم، وبدأ يرتادُ المساجدَ مَنْ لم يكن يعرفُ طريقَها من قبلُ.
3 -
أما الأثرُ الأعظمُ فهو عودةُ عددٍ من شبابِ البوسنة للإسلام بمفهومِه الصحيحِ الشامل، وبالالتزامِ الصادق، بل والحماسِ للدعوة لهذا الدِّين، وبَعْثِه من جديدٍ في نفوس قومِهم البوسنيين، {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (1)، وقد رأينا بأمِّ أعينِنا -نماذجَ لهؤلاءِ الشبابِ الملتزمين زادهم اللهُ هدى وبصيرةً، وثبتَّهم وحَفِظَهم ونفعهم ونفعَ البلادَ والعبادَ بهم.
4 -
وأمرُ الوعي كذلك بدأَ في صفوفِ النساء -وإن كان بنسبٍ أقلَّ- فبدأتَ تسمعُ عن عددٍ من الملتزماتِ بل الداعياتِ، ولم يعُدِ الحجابُ -كما كان من قبلُ- مظهرًا من مظاهرِ التخلُّفِ والرجعيةِ، بل رمزًا للعِزَّةِ والكرامةِ والأصالةِ الإسلامية، وإن كان لا يزال نِسبٌ كبيرةٌ من النساءِ هناك يمثِّلنَ الضياعَ والانحرافَ ويشكِّلنَ عنصرًا من عناصرِ الفسادِ والفتنة، ثبَّت الله المهتدياتِ، وهدى الضالاتِ والمتبرِّجاتِ إلى الحقِّ والهدى.
5 -
وفي مقابل هدمِ النصارى للمساجدِ تعاطفَ المسلمون مع إخوانِهم في البوسنة، فعُمِّرت المساجدُ من جديدٍ وبمساحاتٍ أوسعَ وببناءٍ أقوى وأفخم، بل وبُنيَ إلى جانبها المراكزُ الإسلاميةُ للدعوةِ والتعليمِ ويُعدُّ مسجدُ ومركزُ خادمِ الحرمين الشريفين في سراييفو أكبرَ وأفخمَ مسجدٍ ومركزٍ، لا في البوسنةِ والهرسك وحدَها، بل ربما على مستوى البلقانِ، وحين يُفتَحُ المركزُ بخدماته وتقنيتِه العاليةِ ويُدعَم ويوفَّقُ لعاملين نَشِطِين مخلِصين، فسيكون له أثَرُه بإذنِ الله هناك، وهناك مساجدُ ومراكزُ أخرى، جزى الله العاملين المخلِصين المنفِقين عليها خيرَ الجزاء.
(1) سورة النساء، الآية:19.
6 -
ورغم ظروفِ البوسنيين وفقرِهم فقد تعاطَفُوا وشاركوا في بناءِ المساجدِ والمراكزِ هناك.
7 -
ودوَّتْ صيحاتُ الإغاثةِ في مشرقِ العالَم الإسلاميِّ ومغربِه للتعاطفِ مع الأيتام والأراملِ والمحتاجين من المسلمين في البوسنةِ، فقامت عددٌ من المؤسساتِ الإسلامية والهيئاتِ الإغاثية، ونفرٌ من أثرياءِ المسلمين وأهلِ الخير بكفالةِ عددٍ من الأيتام، ورعايةِ عددٍ من الأسر المحتاجة هناك -ولكنَّ الحاجة لا تزالُ قائمةً، وقائمةُ اليتامى التي تنتظرُ ربما تفوق قائمةَ المكفولين- وهذا التعاطفُ نوعٌ من تلاحُمِ المسلمين وأسلوبٌ من أساليبِ وَحْدتِهم، وهو مغيظٌ للأعداءِ بكلِّ حال.
أعوذُ باللهِ من الشيطان الرجيم: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (1).
(1) سورة البلد، الآيات: 11 - 16.