الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، نصرَ عبدَهُ، وأعزَّ جندَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، كلَّ يومٍ هوَ في شأنٍ، وله الحُكمُ وإليهِ تُرجَعونَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، قامَ في ذاتِ اللهِ، وبلَّغَ رسالةَ ربِّهِ، ونصحَ للأمّةِ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادهِ .. صلى الله عليه وسلم وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ.
إخوةَ الإيمانِ:
5 -
ويخرقُ السفينةَ أنانيُّونَ لا يَشعرونَ إلا بأنفسِهم، ولا يُفكِّرونَ إلا بذواتِهمْ، وإن لاحتْ لهمْ بوادرُ الخَطَرِ لا يهمُّهمْ صلاحُ المجتمعِ أو فسادُهُ، ولا تتمعَّرُ وجوهُهمْ للمنكَراتِ تشيعُ هنا وهناكَ، دائرةُ تفكيرِهمْ ضيقةٌ، ومساحةُ الغيرةِ عندَهمْ محدودةٌ.
6 -
ويُسهمُ في خَرْقِ السفينةِ سطحيُّونَ لا يُدرِكونَ حجْمَ الخطرِ، ولا يتصوَّرونَ ضخامةَ المصيبةِ النازلةِ، ولا يَنظرونَ إلى مستقبلِ الأيامِ بعمقٍ وروّيةٍ، لا يَسمعونَ للنداءاتِ المحذِّرةِ، وإنْ سَمعوا لمْ يَستجيبوا، إذا علا صوتُ النذيرِ رأَوْه مبالِغًا، وإذا اتضحَ هدفُ المفسِدينَ لم يُحرِّكوا ساكنًا ولمْ يدفعوا باطلًا.
7 -
ويخرقُ السفينةَ أحمقُ متهوِّرٌ يريدُ أنْ ينتقمَ لنفسِه أوْ ينتقمَ منَ الآخرينَ، فيحاولُ بكلِّ وسيلةٍ إغراقَ أهلِ المركبةِ، وإنْ كانَ هوَ ضمنَ قائمةِ الغرقى، وتضيقُ بهِ مساربُ الحياةِ فيختارُ تحطيمَ نفسِهِ والآخرينَ معهُ.
8 -
ويُسهمُ في غرقِ السفينةِ متعجِّلٌ -وإنْ كانَ هدفهُ خيرًا- وغيرُ حكيمٍ-وإنْ كانَ قصدُه حسنًا-، فقدْ يقودُه اجتهادُهُ إلى نزعِ خشبةٍ في السفينةِ ليسدَّ بها خرقًا آخرَ، فإذا الخرقُ الذي أحدثَ أشدُّ ضررًا وأدعى للغرقِ! وفاتَه أنْ يستشيرَ غيرَهُ قبلَ أن يُحدثَ الضررَ الذي أحدثَ.
أيها المسلمونَ: أمّا حماةُ السفينةِ .. ومَنْ يقفُ في وجهِ هؤلاءِ الخارقينَ: فهمُ الآمرونَ بالمعروفِ والناهونَ عنِ المنكرِ، الذينَ يُتعِبونَ أنفسَهمْ منْ أجلِ أنْ يستمتعَ ويستريحَ غيرُهمُ، الذينَ يَسهرونَ منْ أجلِ أنْ يطمئنَّ غيرُهمْ، والذينَ يُخاطِرونَ بأنفسِهمْ من أجلِ أنْ يأمَنَ غيرُهمْ، بلْ مِنْ هؤلاءِ الحُماةِ المنقذينَ للسفينةِ ومَنْ عليها مَنْ قدْ لا يُجد لسدِّ خرقِ السفينةِ إلا رِجْلَه أو يدَهُ، تنهشُه الأسماكُ، وتُزعجُهُ دوابُّ البحرِ، ومَعَ ذلكَ لا يتحرّكُ حرصًا على سلامة الآخرينَ، وهؤلاءِ الناصحونَ المرابطونَ قدْ يسخرُ منهمْ بعضُ الجُهّالِ في المركبِ، لطولِ وقوفِهمْ على خُروقِ السفينةِ وعظيمِ تضحيتهمْ، بلْ قدْ يؤذيهمْ خارقو السفينةِ، وقدْ يشوِّهونَ سمعتَهمْ ويشكِّكونَ في مصداقيةِ حراستهِمْ للسفينةِ .. وما يضيرُهمْ إذا كانَ اللهُ معهمْ، يعلمُ قصدَهمْ، وهو المطَّلعُ على حُسنِ نواياهمْ، والمقدِّرُ لجهدِهمْ وجهادِهمْ.
إنَّ هؤلاءِ المنقذينَ أصنافٌ كثيرةٌ، منهمُ الرجالُ والنساءُ، ومنهمُ العلماءُ والعوامُّ، ومنهمُ الدعاةُ وطلبةُ العلمِ، فيهمُ الأغنياءُ والفقراءُ، وفيهمُ المجاهدُ بنفسِهِ ومالِه ومَنْ لا يملكُ إلا الدعاءَ، منهمْ من يعملُ بنفسِه، ومنهمْ مَنْ لا يملكُ إلا المشورةَ والرأيَ، منهمْ مَنْ يتصدَّى لمنْ يخرقُ السفينةَ، ومنهمْ مَنْ يرصدُ ويكشفُ عوراتِ هؤلاءِ الخارقينَ، ومِنَ المنقذينَ للسفينةِ: أصحابُ الغيرةِ على المحارمِ، وإنْ لمْ يكونوا ملتزمينَ بأحكامِ الإسلامِ كلِّها، وأصحابُ العقول المقدِّرةِ لعواقبِ الأمورِ، وإنْ كانوا ظالمينَ لأنفسِهمْ مسبوقينَ في عملِ الصالحاتِ، ففَرْقٌ بينَ من يأتي المنكرَ وهوَ له كارهٌ، ويودُّ ألاّ يقعَ غيرُه فيما وقعَ هوَ فيهِ، وبينَ مَن يُقدِمُ على المنكرِ كما لو أقدمَ على معروفِ، بلْ يودُّ أنْ يكونَ هذا المنكرُ سلوكًا شائعًا في المجتمعِ كلِّه، نَعَمْ فرقٌ بين الانتهاكاتِ السلوكيةِ، والانتهاكاتِ القِيَميةِ.
إنَّ أرقى المجتمعاتِ -مجتمعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمْ يسلمْ منْ ممارسةِ المنكرِ، لكنْ فرقٌ بينَ مَنْ يقولُ: زنيتُ يا رسولَ الله فطهِّرْني، وبينَ مَنْ يزني وهوَ يرى الزنى سلوكًا حضاريًا أو حريةً شخصيةً يتَّهمُ مَنْ ينكرُها!
أيها المسلمونَ: ليجعلْ كلُّ واحدٍ منكمْ نفسَه منقذًا للسفينةِ، لا خارقًا فيها، وليسَ يَخفى أنه ما منْ منكَرٍ يتصدَّى له الناسُ بالإنكارِ، إلا توارى هذا المنكَرُ أو جلُّه، أو دفعَ اللهٌ بهذا الإنكارِ منكَرًا آخرَ سيترتَّبُ على المنكَرِ قبلَه، ولوْ لمْ يكنْ منْ ذلكَ شيءٌ فتكفي المعذرةُ:{قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (1).
وإذا كانَ الناسُ كلُّهم إذا مُسَّتْ مصالحُهمُ الدنيويةُ ثاروا واستنكَروا دونَ أنْ يُنيبَ أحدٌ منهمْ غيرَهُ، فأصحابُ الغيرةِ والذينَ تتمعَّرُ وجوهُهمْ للمنكرِ همُ الذين يَستنكِرونَ ويتحرَّكونَ إذا اعتديَ على الدِّينِ واستُخفِّ بالقِيَمِ والأخلاقِ والسلوكياتِ الحميدةِ.
وتلكَ شهادةٌ عاجلةٌ لهمْ بالإيمانِ في الدنيا، وأجرُهمْ على اللهِ يومَ يلقَوْنه وقدْ قاموا بأمرهِ:{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (2).
إخوةَ الإيمانِ: دعوني أختمْ لكمْ بقصةٍ واقعيةٍ تبيِّنُ أثرَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ في إزالةِ المنكَرِ واستصلاحِ المخطئينَ .. حدَّثَ صاحبي وقالَ:
في صالةِ المطارِ كانَ الشابانِ يَستعدّانِ للسفرِ، وقدْ غيرَّا ملابسَهما، وقصّا شعورَهما، وربَّما خُتمتْ جوازاتُهما .. وهما يستعدّانِ للسفرِ، إذْ أبصرَهما ناصحٌ مشفقٌ عليهما، وسائلَهما قائلًا: إلى أينَ السفرُ يا أحبّائي؟ فتَلَعْثما في
(1) سورة الأعراف، الآية:164.
(2)
سورة آل عمران، الآية:115.
الإجابةِ، فسبقَهما قائلًا: كأنكما تريدانِ السفرَ إلى بلادِ كذا .. حيثُ تشيعُ الفاحشةُ، وتنتشرُ الرذيلةُ، وتوضعُ المصائدُ للشبابِ؟ وإني لكما ناصحٌ وعليكما مشفقٌ، إلَاّ راجعُتما أنفسَكما واستخرتُما اللهَ عنْ هذا السفرِ، فهل تعتقدانَ أنَّ اللهَ غافلٌ عنكما أينما كنتما؟ وما رأيُكما لوْ وافتْكما المنيةُ على حالٍ لا ترضَوْن أنْ تكونَ خاتمةً لحياتِكما؟ أليسَ واردًا أنْ تذهبا أحياءً وتعودا في التوابيتِ أمواتًا؟ ما حجمُ فضيحتِكمْ في الدنيا؟ وكيفَ بكمْ إذا قدمتُما على اللهِ تحملانِ أوزاركما على ظهورِكما يومَ القيامةِ؟
وما زالَ الناصحُ يقرعُ أسماعَهما بالحديثِ ويضربُ لهما الأمثالَ .. حتى التفتَ أحدُهما إلى صاحبهِ قائلًا: ما رأيُك في إلغاءِ السفرِ؟ فتردَّدَ الآخرُ ثمَّ وافقَهُ على إلغاءِ السفرِ .. أما الناصحُ لهما فقدْ تشجَّعَ .. رغمَ أنَّ وقتَ سفرِه قريبٌ، فما كانَ منهُ إلا أنْ ذهبَ بهما إلى صديقٍ لهُ صالحٍ، وأوصاهُ فيهما خيرًا، فاستقبلَهما صاحبُه وأكرمَ ضيافَتهما، ثمَّ عرضَ عليهما أنْ يذهبوا سويًا للطائفِ للمتعةِ والأنُسِ جميعًا، فوافقا، ثمَّ قالَ لهما: وما رأيُكما لو أخذْنا عُمرةً في طريقِ ذهابِنا؟ فوافقا .. وكانَ الوقتُ ليلًا، قالَ: إذًا فاستريحا حتى إذا كانَ الصباحُ تحرَّكْنا .. فتركَهما الضيفُ في مجلسِهِ وذهبَ إلى غرفةِ نومهِ، ولكنَّ الشابين استطالا الليلَ، وربما عاودَهما الشيطانُ بنزغِهِ، فخرجا منَ البيتِ وقرعا الجرسَ في ساعةٍ متأخِّرةٍ منَ الليلِ، ليستأذنا مُضيفَهما في الانصرافِ، وحينَ استيقظَ وسمعَ كلامَهما، قال: ما رأيكما أنْ نبدأَ الرحلةَ الآنَ؟ فوافقا، فأحرمَ الثلاثةُ كلُّهمْ ولبَّوا بالعمرةِ مخلصينَ للهِ، وكانتْ آخرُ كلماتِهم: لبَّيكَ اللهمَّ لبيكَ، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلكَ، لا شريكَ لكَ لبَّيكَ .. ويا لها منْ كلماتٍ لو تأمَّلهَا المُحرِمونَ .. وكانتِ المنيةُ تنتظرُهمْ وهمْ مُحرمونَ، وعلى بضعِ كيلوات وقعَ الحادثُ وتوفيَ الثلاثةُ قبلَ وصولِهمْ
إلى مكةَ .. وحُملوا إلى المستشفى ثمَّ إلى المقبرةِ وأكفانُهم ثيابُ الإحرامِ، وآخرُ عهدِهمْ بالدنيا الذِّكرُ والطاعةُ، وفرقٌ بينَ مَنْ يُبعثُ يومَ القيامة مُلبّيًا، وبينَ من يموتُ في بلادِ الخيانةِ والفجورِ مُجرمًا فاسقًا .. وبعدَ حينٍ اتصلَ صاحبُهما الأولُ على صاحبهِ ليسألَ عنْ حالِ الشابَّينِ .. فأجهشَ محدِّثُه بالبكاءِ وهوَ يَقصُّ عليهِ نهايةَ الثلاثةِ، فما تمالكَ نفسَهُ عنِ البكاءِ ..
لكنهُ حَمِدَ اللهَ أنْ كانَ سببًا في هدايتهِما وحُسنِ خاتمتِهما.