الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشاريع رمضانية
(1)
الخطبةُ الأولى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ تفضّلَ على عبادِه بمواسمِ الطاعةِ ليتميزَ أُولو العزمِ والهمةِ .. ولينكشفَ على الحقيقة أصحابُ التراخي والمهانة، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، أثنى على نفسِه خيرًا، وثنَّى بالتحيةِ على عبادِه الذين اصطفى، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} (2)، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه خيرُ البريةِ وأزكاها، صلى اللهُ عليه وعلى إخوانِه وآله، ورضيَ اللهُ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ ومَن تَبعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
معاشرَ المسلمينَ: بُشراكم جميعًا بشهرِ الصيامِ، أهلَّهُ اللهُ علينا بالأمنِ والإيمانِ والسلامةِ والإسلامِ، وجعله اللهُ علينا وعلى المسلمينَ شهرَ بركةٍ وخيرٍ ومغفرةٍ للذنوبِ ورفعةٍ للدرجاتِ.
عبادَ الله: يحقُّ لنا أن نفرحَ بهذا الضيفِ العزيزِ بعدَ طولِ عناءٍ، وبعدَ رحلةٍ شاقةٍ في دروبِ الحياةِ الدنيا، تُملأُ بالصدودِ والإعراضِ، والإسرافِ في الذنوبِ، والظلمِ للنفسِ أو للآخرينَ، يشهدُ الكونُ فيها على الجِراحِ النازفة، والبلايا والخطوبِ النازلة، والفتنِ والملاحمِ المتتابعةِ، والضعفِ والفُرقةِ والتخاذُلِ بين المسلمينَ - إلا من رحمَ ربُّكَ وقليلٌ ما همْ - كيفَ لا نفرحُ فيكَ يا شهرَ الصيامِ ونفرٌ من المسلمينَ لا يُحِسُّون بآلامِ الجوعِ إلا حينَ يصومونَ! ! ومِنْ إخوانهمْ مَنْ يتضوَّرونَ جوعًا وهمْ مفطرونَ! !
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/ 9/ 1422 هـ.
(2)
سورة النمل، الآية:59.
وكيف لا نفرحُ فيك يا شهرَ رمضانَ ونفرٌ من المسلمين تكادُ صِلتُهم بالقرآنِ مقطوعةً إلا في شهرِ رمضان! !
أجل لقد جَفّت مَآقِينا عن البكاء، فهل نجدُ فيك يا شهرَ الصيامِ باعثًا للبكاءِ من خَشْية الله؟
وطال سُباتُ نومِنا! فهل يكون شهرُ الصيام مُوقِظًا لقلوبِنا بالقيام، واختلط اللغوُ وكادت أصواتُ الخَنَا والغِناء أن تُصِمَّ الآذان، فهل تكونُ يا شهرَ الصيام سببًا لسلامةِ أسماعِنا؟ وتفنَّنَ الأعداءُ وأصحابُ الأهواء في إخراج الصُّورِ الفاضحةِ ليصدُّوا الناسَ ويَفتِنوهم - فهل يكون شهرُ رمضان سببًا في حفظِ أبصارِنا {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1).
معاشرَ الصائمين: إننا قبلَ الصيام وبعدَ الصيام مدعوُّون لأمرٍ عظيم هو غايةُ الصيام وحِكمتُه - وهو وصيةُ الله وكلمتُه - وسوقُه تَرُوج في الصيام أكثرَ من غيرِه، كيف لا وقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2).
إن التقوى وصيةُ الله للأوَّلين والآخِرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (3).
وهي وصيتُه سبحانه لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} (4).
(1) سورة الإسراء، الآية:36.
(2)
سورة البقرة، الآية:183.
(3)
سورة النساء، الآية:131.
(4)
سورة الأحزاب، الآية:1.
تَقْوى الله وصيتُه سبحانه للمؤمنينَ خاصةً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (1).
وهي وصيتُه للناس كافةً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (2).
وبالتقوى أَوصى محمدٌ صلى الله عليه وسلم على الدوامِ حيثما كان الزمانُ والمكانُ: ((اتقِ اللهَ حيثُما كنتَ)).
إنَّ تقوى اللهِ نورٌ في القلوب تظهرُ آثارُه على الجوارح .. إنها سببٌ للفلاح والنجاح {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3)، ومنبعٌ للصلاح والإصلاح {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (4)، التقوى عِمادٌ للمؤمن في الدنيا وأَنيسُه في القبر، ودليلُه إلى جناتٍ ونَهَر.
تقوى الله حِصنٌ حَصِين في الأزَمات، وذخيرةٌ عند الشدائدِ والمُلِمّات، وتثبِّتُ الأقدامَ في المزالق، وتربطُ القلوبَ في الفتن .. إنها أعظمُ كنزٍ يملكُه ويحملُه الإنسانُ في الدنيا، وأعظمُ زادٍ يَرِدُ به على اللهِ يومَ المَعادِ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (5).
أفلا تستحقُّ بضاعةٌ تلك بعضُ صفاتِها وآثارِها أن يُسعَى لها؟ فهذا أوانُها وذلك الشهرُ خيرُ مُعينٍ على تحقيقِها، كم يدخلُ علينا من رمضان ولم نمتحِنْ أنفسَنا على اكتسابِ التقوى، فهل يكونُ العامَ - بآلامِهِ وآمالِه - فرصةً أكبرَ للتفطُّنِ
(1) سورة آل عمران، الآية:102.
(2)
سورة النساء، الآية:1.
(3)
سورة المائدة، الآية:100.
(4)
سورة الأنفال، الآية:29.
(5)
سورة البقرة، الآية:197.
لها ومَلءِ القلوبِ بها، وتسييرِ الجوارحِ على مقتضاها - إنه كسبٌ عظيمٌ وتجارةٌ رابحة - نسألُ الله أن يُعِينَنا على تحقيقِ التقوى؛ ومساكينُ مَنْ دخل عليهم رمضانُ وخرج ورصيدُ التقوى جامدٌ لا يتحرَّك، أو يتحرَّكُ ببطءٍ لا يكاد يُرى، إنني أدعو نفسي وإياكم إلى تحقيقِ التقوى، وأفتحُ لنفسي ولكم مشاريعَ تُسهِمُ في تحقيق التقوى، ومَن عمل صالحًا فلنفسِه ومَن أساءَ فعليها.
أيها المسلمون: وأولُ هذه المشاريعِ الجالبةِ للتقوى التوبةُ النَّصُوحُ، فالتوبةُ هي بدايةُ الطريقِ ونهايتُه، وهي وظيفةُ العمر، وبدايةُ العبدِ ونهايتُه، ودليلُه إلى الخيرِ وسائقُه. وهي المنزلةُ التي يفتقرُ إليها السائرون إلى اللهِ في جميعِ مراحلِ سفرِهم، وحيث حلُّوا أو ارتحلوا.
إنَّ التوبةَ ليست من منازلِ العُصاةِ والمُخلِّطين فحسبُ كما يظنُّ كثيرٌ من الناس - وإن كان هؤلاء العصاةُ أَحْوجَ من غيرِهم إليها - بل هي عامَّةٌ للطائعين والعابدين، وهذا سيدُ الطائعين وإمامُ العابدين محمدٌ صلى الله عليه وسلم يخاطبُ الناسَ كافةً ويقول:((يا أيُّها الناسُ تُوبُوا إلى اللهِ، فإني أتوبُ إلى الله في اليوم مائةَ مرةٍ)) رواه مسلم.
وأهلُ الإيمان يُدعَوْنَ للتوبةِ ويقول سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1).
إنه نداءُ الرحمن، أفلا تستجيبُ للديَّان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} (2).
(1) سورة النور، الآية:31.
(2)
سورة التحريم، الآية:8.
نعم يا عبادَ الله، كلُّنا محتاجٌ إلى التوبةِ النَّصُوح - فكلُّنا مخطِئون، وكلُّنا مُقصِّرون، وما أعظمَ ربَّنا وأرحمَه، وهو يَدعُونا إلى التوبةِ ليغفرَ لنا ذنوبَنا ويكفِّرَ سيئاتِنا وبها يدخلُنا ويُعِيذُنا من النار!
إنها - أعني التوبةَ - تبدأُ بالهمةِ الصادقةِ وتستمرُّ بالعزيمةِ القوية، لتتحوَّلَ الشهواتُ المحرَّمة إلى طاعاتٍ وقُرُبات نأنَسُ بها في الدنيا، ونجدُ أجرَها يوم نرِدُ على الله.
يا مَنْ غَلَبتْهم شهواتُهم وأهواؤُهم في رجبَ وشعبانَ - أفلا تَغلبِونها في رمضانَ ومِن بعدِ رمضان؟ ويا من سوَّفتَ في التوبة وأرجأتَ الإقلاعَ عن المعصية .. ها هو شهرُ رمضان حلَّ وما تدري أتدركُه عامًا آخرَ أم لا، بل ولستَ تدري أتُتِمُّ شهرَ الصيام حَيًّا .. أم تكونُ في عِدادِ الموتى وشهرُ الصيام لا يزال حيًّا؟
إنني أَدْعو نفسي وإياكَ للتوبةِ دائمًا .. وفي شهرِ الصيام فابدأْ وتوكَّلْ على الله، واعلمْ بأنك تَرِدُ على كريمٍ غفَّار يَبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيءُ النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل - فلا تستكثرْ معاصِيَك عن التوبة .. وفتِّش وأنت أدري بنفسِك وبمعاصيك واعقِدِ العزمَ على التوبة، واحمَدْ ربَّك على أن بلَّغَك شهرَ رمضان، وستجدُ له طعمًا آخرَ حين تبدؤُه بالتوبةِ وتختمُه بالشكرِ والحمدِ لله، فما بكم من نعمةٍ فمِنَ الله .. ومَن شَكَر فإنما يشكُر لنفسه.
أيها الراغبُ في التوبة، فإن قُلتَ: فما الطريقُ إلى التوبة، وهل من أمورٍ تُعِينُ على التوبة؟ فإليك عشرين طريقًا وسببًا للتوبة وهي: الإخلاصُ لله، وامتلاءُ القلبِ من محبَّتِه، المجاهدةُ، قِصَرُ الأمل، العلمُ، الاشتغالُ بما ينفعُ، البُعْدُ عن المُثِيراتِ ودواعي المعصية، غضُّ البصر، مصاحبةُ الأخيار، مجانبةُ الأشرار، النظرُ في العواقبِ، هجرُ العوائدِ، هجرُ العلائقِ - من دونِ الله -
إصلاحُ الخواطر، استحضارُ فوائدِ تَرْك المعاصي، استحضارُ أنَّ الصبرَ على الشهوةِ أسهلُ من الصبرِ على ما تُوجِبُه الشهوةُ، الدعاءُ، الحياءُ، شرفُ النفسِ وزكاؤها، عرضُ الحالِ على من يُعِين ويُشِير بالخير (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2).
(1) محمد الحمد: التوبة وظيفة العمر/ الفصل الأول من الباب الثاني.
(2)
سورة الفرقان، الآية:70.