الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين مالكِ يومِ الدين، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وليُّ الصالحين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه إمامُ المتقين، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ النبيين.
أيها المؤمنون: ومن مجاعةِ القرنِ الأول الهجريِّ وكيف تجاوزَ المسلمون مِحنةَ الرمادةِ .. أتحدَّثُ إليكم عن مجاعةِ القرنِ الخامسَ عشرَ الهجريِّ .. والكارثةِ الواقعةِ والمتوقَّعة في بلادِ الأفغان، وليس يخفى أنَّ البلاد -وطوالَ ما يقرُبُ من ربعِ قرنٍ تعيش حربًا متواصلة .. فَقَدَ فيها عددٌ من الأُسرِ عائلَها، وهاجرتْ أعدادٌ أخرى من مساكنِها، وأصبح عددٌ ثالثٌ لا يملكُ من الحياةِ إلا خيمةً لا تكادُ تتوفَّرُ فيها عددٌ من ضَرُورياتِ الحياة فضلًا عن كماليّاتِها .. وأصبح مع الأسفِ عددٌ من هذه الأُسَر فريسةً لمنظَّماتٍ تنصيرية جاءتْ إلى أفغانستانَ تحت عباءةِ الإغاثةِ الإنسانية؟
لقد عانى الشعبُ الأفغانيُّ كثيرًا في جهادِه ضدَّ المحتلِّين الرُّوس، ولكن انتصارَه في النهايةِ على الروس -وبدعمٍ من العالم الإسلامي- أنساه بعضَ معاناتِه، لكنه عادَ من جديدٍ يتحمَّلُ ويلاتِ الحرب ويتجرَّعُ بكلِّ مرارةٍ الصراعَ بين الفصائلِ الأفغانية بعد طردِ الروس.
ولم يكدْ يَذُقْ طعمَ الاستقرار بعد إزاحةِ هذه الفصائلِ وتوحيدِ معظم البلاد على يدِ (طالبان) حتى قُرِعَت طبولُ الحربِ الأمريكية ومعها الحلفاءُ ضدَّ هذا البلدِ المسلم؟
أجلْ، لقد أكلتِ الحروبُ السابقةُ الأخضرَ واليابس، ثم جاء الجفافُ ليضربَ كلَّ ما تبقَّى، ويتركَ الأسرةَ الأفغانية مجرَّدةً من معظمِ أسباب الحياة ..
إلا إيمانَها وتوكُّلَها وتقشُّفَها وصبرَها.
ولا يعلم إلا اللهُ ما مصيرُها وما حالُ هذه الأُسر في حال نشوبِ حربٍ جديدةٍ تُستخدَمُ فيها الآلاتُ الحربيةُ المدمِّرةُ من قِبَل الحلفاءِ! !
إن المراقبين يتوقَّعون نزوحَ ملايينِ اللاجئينَ على حدودِ أفغانستانَ .. بل إنهم استَبَقُوا الأحداثَ .. وشاهد الناسُ نماذجَ لهؤلاء اللاجئين المهاجرين وهم يتدفَّقونَ بحثًا عن الملجَأ والغذاءِ، وكم هي مأساةٌ حين تَعجِزُ دولُ الحدودِ عن استيعابِ هؤلاءِ المهاجرين فتمنعُهم من الدخول إلى أراضيها .. وهم لا يَجِدُون ما يأكلون أو يستظلُّون به في بلادِهم .. فيكون الموتُ الجماعيُّ وحَتْفُ الأنفسِ مصيرًا بائسًا لعددٍ من هؤلاءِ المهاجرين اللاجئين المسلمين.
والمأساةُ أعظمُ حين تَنشَطُ المؤسَّساتُ الإغاثيةُ التنصيرية لاستقبالِ هؤلاء فتُؤوِيهم وتدعمُهم باليدِ وتُنصِّرُهم أو على الأقل تُفسِدُ عليهم إسلامَهم باليد الأخرى -وقد سمع العالَمُ عن عددٍ من هذه الهيئاتِ بدأتْ تستعدُّ للإغاثة في أعقابِ الحرب .. وعجبًا لهذا التناقضِ، فالذي يضربُ ويُحدِثُ الأذى وينشئ الفقراءَ هو الذي يطعمُ ويُؤْوي ويَظهرُ في أعين البسطاء وكأنه المنقذُ من المأزق .. والمتقدِّمُ حين تأخَّرَ الآخرون.
إن المسلمين أَوْلى بإخوانِهم المسلمين في حالِ السِّلْم أو في حالِ الحرب إذا ما وُجِدَت الحاجةُ عند أحدٍ من إخوانِهم المسلمين بشكلٍ عامّ، فكيف إذا اشتدَّتِ الحاجةُ للمساعدة.
إنَّ التقاريرَ تقولُ: إنَّ أعلى معدَّلٍ لوفياتِ الأطفال في أفغانستانَ وسيراليون وموزمبيق .. ووَفْقًا لتوقُّعات مسئولين بمكاتبِ الأممِ المتحدةِ في إسلام آباد فإن ما بين خمسةِ إلى ستةِ ملايين أفغانيٍّ معرَّضين لخطرِ المجاعة، ونِسَبُ الأطفالِ
فيهم عالية، بل إن ثُلثَ الأطفال دون سنِّ الخامسة.
وتشيرُ التقارير كذلك إلى أن مخزونَ الغذاء والدواء في حالِ حدوثِ ضربةٍ لأفغانستان لن يكفيَ الشعبَ الأفغاني إلا لأسبوعٍ فقط، وسواءٌ صحَّت هذه التقاريرُ أو لم تصحَّ فنحن على ثقةٍ بأن الله هو الرزّاقُ ذو القوةِ المتينُ وأنه المُحْيي والمميتُ .. لكن يا أُمةَ القرآن ماذا نقولُ لرِّبنا إذا سألَنا عن موتِ هؤلاء الأطفالِ المسلمين ونحن قادرونَ على إغاثتِهم؟ هذا في الآخرة .. أمَّا في الدنيا فماذا سيقولُ العالَم عنا -معاشرَ المسلمين- ونحن نتركُ هؤلاءِ الأطفالَ يموتون حتفَ أنفهم .. ولربما سبقتْ إلى استبقاءِ حياة بعضِهم مؤسَّساتٌ لا تَمُتُّ للإسلامِ ولا للمسلمين بأدنى صِلَة.
إن أمريكا أرادت أن تُحرِجَ العالمَ بضربتِها العسكرية، وذلك حين بدأتْ تجمعُ التأييدَ من دولِ العالم -بما في ذلك العالَمِ الإسلاميّ- لضربِ أفغانستان، وهي تُصِرُّ بل ترضى اشتراكَهم بأيِّ شكلٍ من الأشكال، وهي اليومَ تُحرِجُهم في التقدم لإغاثةِ اللاجئين والمهاجرين الأفغان، إذ تُعلِنُ الأُممُ المتحدة عن توجُّهِها لجمع 584 مليونَ دولارٍ من المساعداتِ لمنعِ وقوع كارثةٍ إنسانيةٍ في أفغانستان، وقد وعدَتْ أمريكا بتقديمِ حصَّتِها من هذه المساعدات، وأعلَنتِ اليابانُ عن تحمُّلِها عشرين بالمائة 20% من المبلغ المعلَن من قِبَل الأمم المتحدة.
وكأنَّ أمريكا أرادت أن تُشرِكَ العالمَ كلَّه بمُصابِها، وباسمِ محاربةِ الإرهاب وتحقيقِ العدالة؟ وأين جِدِّيتُها في هذه الدعوى في منعِ الإرهاب اليهوديِّ في فلسطين، وأين عدالتُها في التعاملِ مع قضايا المسلمين، وهي التي صنعتْ ما صنعت في (تيمورا الشرقية) في أندونيسيا، وما نسيَ العالمُ العربيُّ والإسلاميُّ ضربَها لمصنعِ الأدويةِ في السودان، وما نسوا مواقفَها المُشينةَ مع الصِّرب
النصارى في (البوسنةِ والهرسك) حين أقامتْ لهم دولةً مستقلةً رغمَ وحشيَّتِهم، بينما تركتِ المسلمين يُحكَمون بالمندوبِ السامي. وما نسيَ العالمُ مأساةَ (هيروشيما ونجازاكي) ولا الضربَ الأمريكيَّ لـ (فيتنام) إلى غير ذلك من حوادثَ ووقائعَ تقومُ بها أمريكا بنفسِها أو تقيمُ غيرَها بالوكالة .. ولذا فثَمَّةَ أصواتٌ عاقلةٌ في أمريكا بدأتْ تدعو لمراجعة النظرِ في السياسةِ الأمريكيةِ في الخارج .. ويقولون: إن هذه الضربةَ الأخيرةَ رَجْعٌ للصَّدى، وإعادةٌ للبضاعةِ المُزْجاةِ على أصحابها؟ ومع ذلك فنصيحتي للمسلمين عمومًا كِبارًا أو شبابًا بضَبْط النفسِ والتعاملِ مع الأحداث بهدوء وروِيَّةٍ ووَفْقَ توجيهاتِ الكتاب والسُّنة .. حتى لا يتصرفَ أحدٌ اليومَ تصرفًا يندَمُ عليه غدًا، وأن تظلَّ أحكامُنا مرتبطةً بميزانِ القرآن من مثلِ قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (1).
معاشرَ المسلمين: إننا في صددِ الحديثِ عن إغاثةِ الشعبِ الأفغانيِّ نذكرُ دعمَ المملكة بمبلغِ عشرةِ ملايين دولار .. ونأملُ أن يكونَ لهذا الدعمِ ما بعدَه، وأن يتحرَّك المسلمون حكوماتٍ وشعوبًا لدعم إخوانِهم في أفغانستان، بل وفي كلِّ مكان يحتاجُ فيه المسلمون إلى دعمٍ ومساندة -وإذ سمعتم أن الفاروقَ رضي الله عنه يعتبرُ نفسَه مسئولًا عن الدابةِ تموتُ في أرضِ العراق: لِمَ لَمْ يُمهِّد لها الطريق؟ فكيف بموتِ آلافٍ بل ملايين من البشرِ المسلمين لا تصلُ إليهم حاجتُهم من الطعامِ أو الكساء؟ أو تصلُ إليهم بجهودِ اليهود والنصارى والمشركين فيُسِدُّون جَوْعَة بطونهم وتظلُّ قلوبُهم من الإيمانِ والإسلام جَوْعى.
(1) سورة البقرة، الآية:217.
إنكم معاشرَ المسلمين تُدعَوْنَ اليومَ للإنفاق، وتُمتحَنون في أموالكم، وكما تُسألون: من أين اكتسبتُموها؟ فتسألون: وفيمَ أنفقتُموها؟
وهنا أَلِفتَ النظرَ إلى حكمٍ شرعيٍّ يقضي بتقديمِ الزكاة عند وجودِ المُوجِبِ لذلك، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميّةَ رحمه الله (1) -:«وأما تعجيلُ الزكاةِ قبل وجوبِها بعد سببِ الوجوبِ فيجوزُ عند جمهورِ العلماءِ كأبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ .. » .
وليس يخفى حاجةُ المسلمين الأفغانِ من قبلِ الحصارِ ومن بعدِه وسواءٌ وقعتِ الضربةُ أم لم تقعْ .. فأَرُوا اللهَ من أنفسِكم خيرًا، وانصُروا إخوانكم .. ولا يَسبِقنَّكم غيرُ المسلمين -اللهمَّ أغْنِ فقراءَ المسلمين وسُدَّ حوائجَهم، وثبِّتْ على الحقِّ أقدامَهم، وانصُرهُم على القومِ الكافرين.
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ ..
(1) الفتاوى 25/ 85.