الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَن يخرق السفينة
؟ (1)
الخطبةُ الأولى:
الحمدُ للهِ يَهدي مَنْ يشاءُ، ومَنْ يُضلِلِ اللهُ فما لهُ منْ هادٍ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، كَتَبَ الفناءَ على هذهِ الدنيا، والخلودَ في دارِ النعيمِ والجحيمِ في الأُخرى، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُهُ، أَمَرَ ونَهى ونصحَ وجاهدَ، وتركَ الأمةَ على مَحجَّةٍ بيضاءَ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، ورضيَ اللهُ عنْ صحابتهِ أجمعينَ والتابعين ومَنْ تبعَهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (2).
أيُّها المسلمونَ: نحنُ في هذهِ الحياةِ في مركبٍ واحدٍ، وكلُّنا مسؤولٌ عنْ سلامةِ هذا المركبِ، ولا ريبَ أنَّ ثمةَ مخاطرَ تُهدِّدُ المركبَ، وهذهِ المخاطرُ خارجيةٌ لا دخلَ لأهلِ المركبِ في إيجادِها -وإنْ كانَ بإمكانهمْ أنْ يخفِّفوا منها وأنْ يصمُدوا لرياحِها- ومخاطرُ داخليةٌ تعودُ إلى مَن همْ بداخلِ المركبةِ، ويُساهمُ رُبَّانُ المركبةِ وراكُبوها في عَطَبِها أوْ إنقاذِها، وذلكَ هوَ الأهمُّ في الحديثِ عنِ المركبةِ وسلامتِها. والحديثُ عنْ هذهِ المركبةِ يُهمُّنا جميعًا،
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/ 3/ 1423 هـ.
(2)
سورة التوبة، الآية:119.
(3)
سورة المائدة، الآية:35.
والرسولُ صلى الله عليه وسلم وصفَ لنا سفينةَ المجتمَعِ، وكشفَ عنْ أسبابِ سلامتِها، وحذَّر مِنْ خَرْقِ السفينةِ ومَنْ يخرِقُ السفينةَ، وحذَّر منَ النتيجةِ المُرَّةِ لغرقِ السفينةِ .. موضِّحًا بذلكَ أهميةَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ عبرَ مثالٍ يَعقلُه العالِمُ والعامّيُّ، والرجلُ والمرأةُ، والصغيرُ والكبيرُ، فتعالَوْا بنا نقرأْ هذا المثلَ النبويَّ، ونسترشدْ بالهدْيِ الربّانيِّ في تشخيصٍ بديعٍ للقائمِ على حدودِ اللهِ، والواقعِ فيها، وحُماةِ السفينة، والخارقينَ لها، يقولُ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الذي أخرجه البخاريُّ في «صحيحه» (2493) عنِ النعمانِ بن بَشيرٍ رضي الله عنه:«مَثَلُ القائمِ على حدودِ اللهِ، والواقعِ فيها كمَثَلِ قومٍ استَهَموا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهمْ أعلاها، وبعضُهمْ أسفلَها، فكانَ الذينَ في أسفلِها إذا استقَوْا منَ الماءِ مرُّوا على مَنْ فَوْقَهمْ، فقالوا: لوْ أنا خَرَقْنا في نصيبِنا خَرْقًا ولمْ نؤذِ مَن فوقَنا، فإنْ يتركوهمْ وما أرادوا هَلكوا جميعًا، وإنْ أخذوا على أيديهم نجَوْا ونجَوْا جميعًا» .
أيها المسلمُ والمسلمةُ: إنَّ منَ الأسئلةِ المهمَّةِ -تجاهَ هذا الحديثِ- سؤالًا يقولُ: هلْ أنتَ منْ حُماةِ السفينة أوْ منَ الخارقينَ فيها؟
وقبلَ أنْ تُجيبَ لا بدَّ أنْ تستيقنَ أنهُ ليسَ منْ طرفٍ ثالثٍ غيرَ هذينِ الصنفَيْنِ يتحكَّمُ في مصيرِ السفينةِ، فإمّا قيادةُ حُماةِ السفينةِ، حيثُ تكونُ سلامةُ المركبِ، وإمّا قيادةُ الخارقينَ لها، حيثُ يكونُ الغرقُ، ومنْ هنا فلا مجالَ للصمتِ والسلبيةِ في وقتٍ يتحركُ فيهِ الخارقونَ للسفينةِ وينشطونَ لإفسادِها .. وإن زَعموا الإصلاحَ أو ظنوا -خطًا- أنهمْ يريدونَ الإنقاذَ!
إنَّ المتأملَ في أيِّ مجتمعٍ منَ المجتمعاتِ لا يَراهُ يخرجُ عنْ إحدى حالاتٍ ثلاثٍ: فإمّا أن ينتشرَ المعروفُ ويَكثرَ المصلِحونَ، وإمّا أنْ يشيعَ المنكَرُ ويتطاولَ المبطِلونَ، وإمّا أنْ يكونَ دُولةٍ بين الأخيارِ والأشرارِ، ويشيعَ فيهِ المعروفُ والمنكرُ على حدٍّ سواء.
ولكنَّ الشيءَ الذي ينبغي أنْ يُدرَكَ جيدًا، أنَّ ضعفَ الأمرِ بالمعروفِ وانحسارَ النهيِ عنِ المنكرِ في مجتمعٍ ما منَ المجتمعاتِ ذو خطورةٍ بالغةٍ ومضاعفةٍ، فليستِ المشكلةُ في ضعفِ الأمرِ والنهيِ وقلّةِ الخيرِ وضعفِ الأخيارِ، بلْ فوقَ ذلكَ قوةُ المنكرِ وسيطرةُ الأشرارِ والنهيُ عنِ المعروفِ وغيابُ الأخيارِ .. وحينَ يبلغُ الفسادُ بالمجتمعِ هذا المبلغَ فقُلْ: على الفضيلةِ السلامُ، وصلِّ صلاةَ الغائبِ على الأخيارِ، إلا أنْ يتداركَهمُ اللهُ برحمتهِ، ويبعثَ فيهمْ مَنْ يوقظُهمْ منْ رقدتِهمْ.
عبادَ اللهِ: وإذا اختلفَ الناسُ في أسبابِ الفلاحِ، وعواملِ البقاءِ، وأسبابِ الشقاءِ، وعواملِ الفناءِ، فالحُكمُ للهِ، والمرجعُ شرعُ اللهِ .. واللهُ يقصُّ الحقَّ وهوَ خيرُ الفاصلينَ، ويقولُ في مُحكمِ التنزيلِ (موضِّحًا أسبابَ النجاةِ والهلاكِ):{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (1).
ويقولُ تعالى في سورةٍ أخرى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (2).
أيُّها الناسُ: ومنذُ القِدَم والناسُ منهمْ مؤمنونَ ومؤمناتٌ يأمرونَ بالمعروفِ
(1) سورة الأعراف، الآيات: 96 - 100.
(2)
سورة الجن، الآيتان: 16، 17.
وينهَوْنَ عنِ المنكرِ .. ومنافقونَ ومنافقاتٌ يأمرونَ بالمنكرِ وينهَوْنَ عنِ المعروفِ، وفضلُ اللهِ يؤتيهِ مَنْ يشاءُ، فمنهمْ مفتاحٌ للخيرِ مغلاقٌ للشرِّ، وآخرونَ مغاليقُ للخيرِ مفاتيحُ للشرِّ، يَضعفُ إيمانُهمْ باللهِ ويستبعِدونَ الجزاءَ في اليومِ الآخرِ، فتنتكسُ فِطرُهمْ، ويزعمونَ أنهمْ مصلحونَ، وهمْ مفسدونَ، ويَسحبونَ أنهمْ يُحسنونَ صُنعًا، وهمْ يَجنُونَ على أنفسِهمْ وعلى مجتمعِهمْ شرورًا وفِتَنًا، والمنافقونَ بلا ريبٍ ممنْ يخرقُ السفينةَ ويُغرِقُ أهلَها، على أننا حينَ نستقرأُ الواقعَ نجدُ أصنافًا أخرى غيرَ هؤلاءِ المنافقينَ يُسهمونَ في خرقِ السفينةِ .. ولذا لا بدَّ أنْ نفتِّشَ عنْ مَنْ يخرقونَ السفينةَ، ونحدِّدَ ملامحَهمْ ونُحذِّرَ مِن صنيعِهم، ومِنْ هؤلاءِ:
1 -
المُتَّبعونَ للشهواتِ الغارقونَ في الملذَّاتِ سواءٍ صحَّ طريقُها أوْ لمْ يصحَّ، وسواء كانتْ شهواتٍ مباحةً أوْ محرَّمةً، أولئكَ يُنقِّبونَ في السفينةِ، ولوْ مالتْ بأهلِها مَيْلًا عظيمًا، وصدقَ اللهُ:{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (1).
2 -
البطَّالونَ الضائعونَ، الذينَ لا يريدونَ أنْ يَبذلوا جُهدًا لمدافعةِ الشرِّ أو يَدفعوا مالًا لنصرةِ الحقِّ، بلْ ربَّما سرقوا مالًا، أوْ روَّجوا مُخدِّرًا، أوِ ارتكبوا محظوراتٍ أخرى، فأولئكَ كذلكَ يَخرِقون في السفينةِ ولا يُصلِحونها.
3 -
أهلُ الغرورِ والكبرياءِ الذينَ يرَوْن الرشدَ بعقولِهمْ وحدَهمْ دونَ أنْ يَلتفتوا إلى عقولِ الآخرينَ، بلْ ربَّما حَكَموا على عقولِ غيرِهم قبلَ أنْ يَعلموها، وربما صادروا آراءَ الآخرينَ قبلَ أنْ يَستبينوها، وقدْ عابَ القرآنُ على فرعونَ مقولتهَ:{مَا أُرِيكُمْ إِلَاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (2)، وما نفعه الوعي حين جاء
(1) سورة النساء، الآية:27.
(2)
سورة غافر، الآية:29.
الغرق {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلَاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1)، قال اللهُ له:{آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (2).
4 -
ويخرقُ السفينةَ عالِمِونَ آكلونَ بعِلْمهمْ، مستفيدونَ لأنفسِهمْ، مضلِّلونَ لأمتهم، يَنسلخونَ منَ العلمِ، ويتخلَّونَ عنْ نُصحِ الخَلْق، إنهمْ لا يَجهلونَ لكنْ يتجاهلونَ، وهمْ لا يُخدعونَ لكنهمْ يَخدَعُونَ، يعرفونَ الحقَّ ولا يَدعُونَ إليهِ، ويعرفونَ المنكرَ ولا يستنكرونهُ .. أولئك خَرْقُهمْ في السفينةِ عظيمٌ، وفتنُتهمْ للناسِ كبيرةٌ، ونماذجُهمْ في الأممِ السالفةِ:
{إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (3){وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4).
وتتكرَّرُ هذهِ النماذجُ في أمّةِ الإسلام، ويكونُ أحدَ الثلاثةِ الذينَ همْ أولُ مَنْ تسعَّرُ بهمُ النارُ يومَ القيامة رجلٌ جَمَعَ القرآنَ، فيقولُ اللهُ لهُ يومَ القيامةِ: ألمْ أعلِّمْكَ ما أنزلتُ على رسولي؟ فيقولُ: بلى يا ربِّ، قال: فماذا عَمِلتَ فيما عَلِمتَ؟ قالَ: كنتُ أقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، فيقولُ اللهُ له: كذَبتَ، وتقولُ
(1) سورة يونس، الآية:90.
(2)
سورة يونس، الآيتان: 91، 92.
(3)
سورة التوبة، الآية:34.
(4)
سورة الأعراف، الآيتان: 175، 176.
لهُ الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ له: بلْ أردتَ أنْ يُقالَ: فلانٌ قارئٌ، وقدْ قيلَ ذلكَ (1).
وعندَ مسلمٍ: «إنَّ أولَ الناسِ يُقضى عليهِ يومَ القيامةِ .. إلى قوله: «ورجلٌ تعلَّمَ العلمَ وعلَّمهُ، وقرأَ القرآنَ .. » وفيه: «تعلمتَ العلمَ ليُقالَ: عالمٌ، وقرأتَ القرآنَ ليُقالَ: هوَ قارئٌ، فقدْ قيلَ، ثمَّ أُمرَ بهِ فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقيَ في النارِ» (2).
وفي محكم التنزيل بيانٌ ووعيد: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3).
اللهمَّ انفعْنا بهَدْيِ القرآنِ وسنّةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام، اللهمَّ إنّا نستغفرُكَ فاغفرْ لنا، ونستهديكَ فاهدِنا، أنتَ الهادي وأنتَ الغفورُ الرحيمُ.
(1) أخرجه الترمذي «جامع الأصول» 4/ 540.
(2)
«جامع الأصول» 4/ 541.
(3)
سورة هود، الآيتان: 15، 16.