الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النفاق والمنافقون
(1)
الخطبةُ الأولى:
إن الحمدُ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا.
إخوةَ الإيمانِ: يُخطئُ منْ يظنُّ أنَّ النفاقَ الذي أفاضَ القرآنُ في الحديثِ عنْه وأنَّ المنافقينَ الذينَ أسهبَ القرآنُ في التحذيرِ منهُم، كانَ يُمثلُ مرحلةً تاريخيةً انقضَتْ بدخولِ الناسِ في دينِ اللهِ أفواجًا، فالعصرُ الذهبيُّ للبشريةِ عامةً -وللمسلمينَ خاصةً- والذي شهدَتِ الأرضُ طُهرَه أيامَ الرسالةِ المحمديةِ، لمْ يخلُ منْ ظُلمِ النفاقِ وظُلماتِه، فهل تُعصمُ منْه العصورُ التاليةُ؟
إنّ جوهرَ النفاقِ وطينةَ المنافقينَ واحدةٌ على مرِّ العصور، ولكنَّ الفرقَ في الظروفِ المتوفرةِ للمنافقينَ بينَ الأمسِ واليومِ، فالنفاقُ في مراحلِ تمكينِ الدينِ وغلبةِ المسلمينَ كانَ ذُلًا لا يستخفي، وضعفًا يتوارَى، وخضوعًا مقموعًا، يمثلُه عمالقةٌ -في الظاهرِ- وفي الحقيقةِ همْ أقزامٌ ورؤوسُ أزلامٍ، وهمْ حياتٌ وعقاربُ موطوءةٌ تكادُ ألا تنفثَ السمَّ إلا وهيَ تلفظُ الحياةَ.
كانَ تمكينُ الدينِ وقَتها يُمكِّنُ المؤمنينَ من جهادِ أولئكَ المنافقينَ الأسافلِ باليدِ واللسانِ والقلبِ وإقامةِ الحدودِ، وكانَ القرآنُ ينزلُ كاشفًا لخبايا نفوسِهم
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 22/ 2/ 1423 هـ.
وخُبثِ طويَّتِهم، ولذا فلا يُرى أحدُهم إلا وهو محاصَرٌ مكدودٌ، أو محدودٌ أو مجلودٌ .. أو معتذرٌ مكشوفٌ؟
أما اليومَ فالنفاقُ صرحٌ ممرَّدٌ، وقواعدُ وجيوشٌ تتحركُ، وقلاعٌ تُشيَّدُ إنه اليومَ دولةٌ بل دولٌ ذاتُ هيئاتٍ وأركانٍ، وأحلافٌ وتكتلاتٌ ومعسكراتٌ وسلطانٌ .. سلطانٌ سياسيٌّ واقتصاديٌّ وإعلاميٌّ وثقافيٌّ يُمارسُ الضرارَ في كلِّ مضمارٍ؟ !
ومنْ هنا -معاشِرَ المسلمينَ- وجَبَ الحذرُ والتحذيرُ منَ النفاقِ، وكشفُ المنافقينَ ويكفيكَ -يا أخا الإسلامِ- أن تُطالعَ في القرآنِ وفي صحيحِ السنةِ والسيرةِ النبويةِ -كشفَهم وملامحَهم وأساليبَهم- فبضاعتُهم الحَلِفُ والكذبُ {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 15].
وسيماهُم لمزُ المطِّوعينَ منَ المؤمنينَ، أنهُمْ بُخلاءُ جُبناءُ، حائرونَ مترددونَ كالشاةِ العائرةِ بِينَ الغنَميْنِ (1) وهيَ المترددةُ بينَ قطيعينِ لا تدري أيَّهما تتبعُ: مذبذبونَ في توجهاتِهم وسلوكياتِهم لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ منكوسةٌ فطرُهم إذْ يأمرونَ بالمنكرِ وينهونَ عنِ المعروفِ، ومعوجَّةٌ أخلاقُهُم إذ يحلفونَ على الكذبِ وهمْ يعلمونَ، ومطبوعٌ على قلوبِهم فهمْ لا يفقهونَ، مظاهرُ جوفاءُ رعاديدُ عندَ المواجَهةِ واللقاءِ {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4].
أركسَهُمُ اللهُ بما كَسبوا .. وفي الفتنةِ سقَطوا، يُقلِّبونَ الأمورَ، ويسخرونَ بالمؤمنينَ، ومن هَلَعِهم وفَرَقِهم {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجًا أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 57] ألسنتُهُم -ظاهرًا- مع المسلمينَ وقلوبُهم معَ الكافرينَ {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ} [التوبة: 56] يخشَوْنَ الدوائرَ
(1) مسلم والنسائي جامع الأصول («/ 571).
ويسارعونَ في موالاةِ الكافرينَ وشعارُهم {نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} [المائدة: 52] يُحبُّون أن تشيعَ الفاحشةُ في الذينَ آمنوا .. ورؤوسُهم يمارسونَ إكراهَ فتياتِهم على البغاءِ؟ فتاريخُهم حافلٌ بإفسادِ المرأةِ وشرُّهم سابقٌ في إشعال الفتنةِ.
إنهمْ عيونُ الأعداءِ على المسلمينَ -كما وصفَهم الطبريُّ في جامع البيان (30/ 70) وابنُ الجوزيِّ في زادِ المسيرِ (8/ 286) والواقعُ يثبتُ يومًا بعد يومٍ أنَّ نكبةَ الأمةِ بالمنافقينَ تسبقُ كلَّ النكباتِ فالكافرُ الظاهرُ -على خطرِه وضررِه- يعجزُ في كلِّ مرةٍ تواجهُ فيها أمةُ الإسلامِ أنْ ينفردَ بإحرازِ نصرٍ شاملٍ عليها ما لمْ يكنْ مَسْنُودًا بجيشِ المنافقينَ يُخلصُ لهم في النصحِ، ويفتح لهمُ الأبوابَ، ويُذلّلُ أمامَهم العقباتِ .. وقاتلَ اللهُ المنافقينَ كمْ جنَوْا على بلادَهم وأبناءِ جلدتِهم منَ الويلاتِ والنكباتِ، ومن يُهنِ اللهُ فما له منْ مُكرِمٍ، وقاتلَ اللهُ المنافقينَ أنى يؤفكونَ.
معاشرَ المسلمينَ: إنَّ الحديثَ عن المنافقينَ يطولُ، كيفَ لا وآياتُ القرآنِ صرّحتْ بذكرِ النفاقِ والمنافقينَ في نحوِ سبعٍ وثلاثينَ آيةً، وفصلَتْ وفرعَتْ في الكلامِ عنهمْ أضعافَ ذلكَ منَ الآياتِ موزعةً على إحدى عشرةَ سورةً (1).
أما الحديثُ عنْ (منْ في قلوبِهم مرضٌ) فكثيرٌ أيضًا .. وهؤلاءِ مرضَى القلوب فئةٌ منهُمْ منَ المنافقينَ، وفئةٌ أخرى رديفةٌ لهمْ، ومخزونٌ احتياطيٌّ لهمْ .. ومنْ هنا وجبَ الحذرُ منْ مرضِ القلبِ -بالشهوةِ أو الشهيةِ- ومعالجةُ ذلك عاجلًا بالصدقِ والإيمانِ والمجاهَدِة .. ذلكُم أنَّ المتأملَ في حديثِ القرآنِ عنْ مرضَى القلوبِ يمكنُ أن يستنتجَ أنَّ هؤلاءِ لديهمُ الاستعدادُ لأنْ يكونوا
(1) بل قيل إن الحديث عنهم استغرق ما يقرب من ثلاثمائة وأربعين آية (د. عبد الحليم العبد اللطيف: حديث الإفك) وقال ابن القيم رحمه الله: كاد القرآن أن يكون كله بشأن المنافقين (المدارج 1/ 388) ص 40 - 41.
منافقينَ معلومي النفاقِ بما لديهمْ من شهوةٍ أو شُبهةٍ، فهمْ قومٌ ضعيفوا الإيمانِ إلى أدنى حدٍّ، حتى أنَّ أحوالَهم تكادُ تنقلبُ إلى معسكرِ النفاقِ الصريحِ لفرطِ قنوطِهم وفتورِهم وقلِة يقينِهم ولشدّةِ تعلُّقِهم بالدنيا ومطامعِها.
ويُقالُ: إنَّ مرضَى القلوبِ يمارسونَ تطرفًا صارخًا باتجاهَيْنِ، فهمْ يتطرفونَ في بُغضِ أهلِ الدينِ وإساءةِ الظنِّ بهمْ، ويتطرفونَ في الدفاعِ عنِ الكفارِ وحسنِ الظنِّ بهمْ -وهذا جوهرُ مرضَى القلوبِ (1).
ألا ففتِّشوا عن أنفسِكم ومدَى ولائكمْ ومحبتِكم للمؤمنينَ -وإنْ كانوا ضعفاءَ مقهورينَ -وبغضِكم وبراءتِكم منَ الكافرينَ، وإنْ كانوا ظاهرينَ متسلطينَ وخلّصوا أنفسَكم من قلوبِكم منَ النفاقِ وسماتِ المنافقينَ.
عبادَ اللهِ: ومنْ واقعِ السيرةِ النبويةِ .. ومواقفِ المنافقينَ في عهدِ النبوّةِ يستطيعُ القارئُ الفطِنُ أَنْ يرصدَ تعاونَ المنافقينَ مع أكثرِ منْ طرفٍ، فهمْ معَ المشركينَ على المسلمينَ، وهمْ حلفاءُ بلْ إخوانٌ لليهودِ - بنصِّ القرآن- وهمْ متحالفونَ معَ الأحزابِ وهمْ عونٌ للنصارَى في حربِهم ضدَّ المسلمينَ وإليكُمُ البيانَ:
ففي غزوة أحُدٍ -حينَ جاءَتْ قريشٌ بكبريائها تريدُ الثأرَ لقَتلاها في بدرٍ، قامَ المنافقونَ وفي أحلَكِ الظروفِ بخذلانِ المؤمنينَ، وانسحبَ زعيمُهم عبدُ الله بنُ أبيٍّ بثلثِ الجيشِ ودخلَ المدينةَ بأتباعِهِ تاركًا المسلمينَ وحدَهم في ساحاتِ الجهادِ يُواجهونَ عدوًا يفوقُهم في العدَدِ والعُدةِ الحربيةِ، وهذا الانسحابُ المخزي أوشكَ أنْ يوقعَ الفشلَ في طوائفَ منَ المؤمنينَ؛ قال اللهُ عنهمْ:{إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (2) وأحدث
(1) عبد العزيز كامل، جهاد المنافقين، البيان شهر 11/ 1422 هـ.
(2)
سورة آل عمران، الآية:122.
هذا التراجعُ المُذلُّ منَ المنافقينَ اختلافًا بينَ المؤمنينَ في التعاملِ مع المنافقينَ. فرقةٌ تقولُ: نقتلُهم، والأخرى تقولُ: لا نقتلُهم، فأنزلَ اللهُ:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} (1)، وحينَها قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إنها طيبةُ» وإنها تنفي الخبثَ كما تنفي النارُ خَبَثَ الفضةِ» (2).
أما المنافقونَ فقدْ ظنوا باللهِ الظنونَ السيئةَ وكشفَ القرآنُ خبيئَتَهم فقالَ تعالى: {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ} (3)، وحينَ انكشفَتِ المعركةُ وأصيبَ منْ أصيبَ منَ المؤمنينَ تشفّى المنافقونَ وسُرُّوا لمصابِهم، واشتركوا معَ اليهودِ في المشاعرِ الفاسدةِ، قالَ ابنُ حجرٍ: «حينَ بكَى المسلمونَ على قتلاهُم سُرَّ المنافَقونَ، وَظَهرَ غشُّ اليهودِ، وفارت المدينةُ بالنفاقِ، فقالَت اليهودُ: لو كانَ نبيًا ما ظهروا عليهِ -يعني المشركينَ- وقالَ المنافقونَ: لو أطاعونا ما أصابَهم هذا؟ (4).
بلْ جعلوا يقولونَ لأصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لو كانَ منْ قُتِلَ منكُمْ عندَنا ما قُتِلَ، وهم يهدفونَ إلى تفريقِ المؤمنينَ والتخذيلِ عن صحابة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّى لهم ذلكَ معَ قومٍ قالوا لمَنْ قالَ لهُمْ:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (5).
(1) سورة النساء، الآية:88.
(2)
أخرجه أحمد والشيخان. (خ)(في تفسير سورة النساء ومسلم في المنافقين).
(3)
سورة آل عمران، الآية:154.
(4)
الفتح 7/ 347.
(5)
سورة آل عمران، الآية:173.
عبادَ اللهِ: أما علاقةُ المنافقينَ باليهودِ فيكفي تعبيرُ القرآنِ عنها بقوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (1).
إنهُمْ بحُكْمِ القرآنِ إخوانٌ لليهودِ، وهمْ جاهزونَ للخروجِ معَهم لو أُخرِجوا ومستعدّونَ للقتالِ معهُمْ -ولوْ باللسانِ- إنْ قوتِلوا؟ فهلْ بعدَ هذا منْ نصرةٍ وتقاربٍ بينَ المنافقينَ واليهودِ، ومن رامَ تفصيلَ ذلكَ فليقرأ في تفسيرِ الآيةِ، وليقفْ عندَ حوادثِ السيرةِ النبويةِ.
والمنافقونَ كذلكَ مصانعونَ للنصارَى وفي غزوةِ العُسرةِ ظهرَ تخذيلُهم للمسلمين وتعظيمُهم للنصارَى، فقدْ قالَ أحدُهم:«يغزو محمدٌ بني الأصفرِ (أي الرومَ) واللهِ لكأني أنظرُ إلى أصحابِه مُقرّنينَ في الحبالِ» .
وما سلمَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم منْ شرهمْ في هذه الغزوةِ، مَنْ قعدَ منهم عنِ الخروجِ ومَنْ خرجَ فلم يزد إلا خبالًا وفتنةً .. أجلْ، لقدْ أرجفَ نفرٌ منهُمْ بالمؤمنينَ عنِ الخروجِ وقالوا:{لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} وقالوا: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي} ولمَزَوا المؤمنينَ المطّوِّعين في الصدقاتِ فمن أنفقَ بسخاءٍ قالوا: أنفقَ رياءً، ومن أنفقَ القليلَ الذي يجدُ قالوا: إنَّ الله غنيٌ عنْ صدقة هذا؟ ومَنْ خلّفَهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في المدينةِ لغرضٍ كعليٍّ رضي الله عنه قالوا: إنما خلَّفَهُ استثقالًا لَهُ؟ وهكذا لمْ يسلَمِ المسلمونَ منْ شرِّهم في مجابهةِ النصارَى، فالذين خرجوا نفاقًا استهزؤوا بالصحابة، وكفَّرهم اللهُ وإن اعتَذَروا، بلْ وصلَ الأمرُ بهم أنْ خطَّطوا
(1) سورة الحشر، الآية:11.
لقتلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مرجعِه منْ تبوكَ كما في قصةِ أصحابِ العقبةِ الواردةِ في صحيحِ مسلمٍ (1).
أما الذينَ بَقُوا فوجدوها فرصةً للتخطيطِ والاجتماعِ بأطرافٍ معاديةٍ منْ خارجِ المدينةِ، وكانَ المشروعُ النكِدُ في بناءِ مسجدِ الضرارِ بتنسيقٍ بين منافقي المدينةِ وأبي عامرٍ الفاسقِ الذي يُقيمُ عندَ الرومِ، وهذا الرجلُ منَ الخزرجِ وقد تنصَّرَ، فلما جاءَ الإسلامُ ودخلَ فيه الأنصارُ شَرِقَ أبو عامرٍ بالإسلامِ، فخرجَ إلى قريش وألَّبَهم على المسلمينَ، وحينَ لمْ يفلحْ، خرجَ إلى هرقلَ ملكِ الرومِ واسنتصرَهُ على ضربِ المسلمينَ، واتخذَ منَ المنافقينَ في المدينةِ أداةً للتخطيطِ، فأمرهم أنْ يتخذوا لهُ معقِلًا يقدمُ عليهِم فيهِ مَنْ يقدُمُ مِنْ عندِه لأداءِ كُتبِهِ ويكونُ مرصدًا لهُ إذا قدمَ عليهمْ بعدَ ذلكَ، فشَرَعَ المنافقونَ في بناءِ مسجدٍ مجاورٍ لمسجدِ قباءَ وأحكموهُ وفرَغوا منه قبلَ خروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوكَ وطلبوا منه أن يُصليَ فيه ليحتجُّوا بصلاتِهِ على إقرارِهِ وإثباتِهِ، فاعتذرَ إليهمْ بالسفرِ، فلما رجعَ منْ تبوكَ نزلَ الوحيُ عليهِ مسميًا هذا المسجدَ بمسجدِ الضرارِ كاشفًا ما اعتمدوهُ فيه من الكفرِ والتفريقِ بينَ المؤمنينَ، فبعثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم للمسجدِ مَنْ هَدَمَهُ وأحرقَه (2).
وبقيَ وحيُ السماءِ موعظةٍ وذكرى لكلِّ عملٍ ظاهرُه الحُسنَى وباطُنه النفاقُ والكفرُ.
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ الْحُسْنَى
(1)(4/ 2144).
(2)
تفسير ابن كثير لآيتي التوبة (107 - 108).
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (1).
نفعني اللهُ وإياكُمْ بهدْيِ القرآنِ وسنِةِ محمد عليه الصلاة والسلام.
(1) سورة التوبة، الآيتان: 107، 108.