الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من معالم القرآن وقصصه
(1)
الخطبةُ الأولى:
إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسَلِين، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (3).
إخوةَ الإسلام: يؤسسُ القرآنُ في نفوسِ المسلمينَ معانيَ عُظْمى، ومعالمَ كُبْرى، وفي أيِّ وقتٍ عادوا إليها وجدوا فيها ما يروي الظمأَ .. وفي أيِّ مكانٍ تأمَّلوها وجدوا فيها أمنًا وتطمينًا، كيف لا والقرآنُ هُدًى وشفاءٌ ونورٌ ورحمةٌ للمؤمنينَ، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (4)، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (5).
(1) أُلقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 7/ 1422 هـ.
(2)
سورة الحج، الآيتان: 1، 2.
(3)
سورة التوبة، الآية:119.
(4)
سورة الأنعام، الآية:38.
(5)
سورة فصلت، الآية:42.
فالمريضُ يجدُ في القرآنِ شفاءَه، والخائفُ المضطرِب يجدُ في آياتِه ما يطمئنُه ويسلِّيه، والضعيفُ يقفُ في القرآن على ما يقوِّيهِ ويشدُّ من أَزْرِه، والقويُّ المستكبِرُ يجدُ في القرآنِ ما يطأطئ من كبريائِهِ، والظالمُ يضعُ القرآنُ حدًّا لظلمِه .. وهكذا.
وفي سُنن الله الدارجةِ في الكون تأكيدٌ على حقائقِ القرآنِ وشاهدٌ عليها، وتأكيدٌ كذلك على أن الضعيفَ يَقْوى إذا احتمى باللهِ وتوكَّلَ عليه والتزم شرعَه، وهو ما يُسمَّى بـ (قوة الضَّعف).
والقويُّ يَضعفُ إذا طغى وتجبَّر وظنَّ أن القوةَ قوتُه، وأن الكيدَ كيدُه، ولربما زادَ في الطغيانِ فقال:«أنا ربُّكم الأعلى» .
وفي رحلةٍ مع شيءٍ من قَصَص القرآنِ دَعُونا نقرأْ نماذجَ لهذا وذاك، فأهلُ سبإٍ طَغَوْا وتجبَّروا وأعرضوا بعد أن مَكَّن اللهُ لهم ووهبهم من الرزقِ ما وهبهم وكان في جنتَيهِم آيةٌ .. فماذا كانت نتيجةُ طغيانِهم وإعراضِهم؟ قال تعالى:{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (1).
وتأمَّلوا كيف تمَّ التدميرُ بالماء .. وهو في العادة مصدرُ نَماءٍ وحياةٍ، فعاد بقُدْرةِ الله وسيلةَ تدميرٍ وإهلاك؟
أيها المسلمون: وتأمَّلوا طائفةً من الأقوامِ والأممِ يَعرِضُ لها القرآنُ مشيرًا إلى طغيانِها وتمرُّدِها، وكيف صدُّوا عن السبيلِ وكانوا مستبصِرين، وكيف مُكِّن لهم في الأرضِ فما استقاموا على منهجِ الله - وفي النهايةِ وحين بلغ الطغيانُ والجحودُ مبلغَه كانت النهايةُ المؤسفةُ {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ
(1) سورة سبأ، الآيتان: 16، 17.
مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1).
إخوةَ الإيمان: وحين يُقالُ: إن النمرودَ بنَ كنعانَ أحدُ الملوكِ الأربعةِ الذين ملكوا الدنيا، فمن المؤكدِ أن الذي حاجَّ إبراهيمَ عليه السلام في ربِّه وصل غرورهُ وكبرياؤُه إلى حدٍّ قال فيه لإبراهيم:«أنا أُحْيي وأُميت» ، وكُتبُ التفسير تشيرُ إلى نهايةٍ مؤلمةٍ لهذا الملكِ الجبّار، وفيها عِظَةٌ وعِبرة، نقل ابنُ كثير: قال زيدُ بن أسلمَ: وبعثَ اللهُ إلى ذلك الملكِ الجبارِ مَلَكًا يأمرُه بالإيمان بالله فأَبى عليه، ثم دعاه الثانيةَ فأَبى ثم الثالثةَ فأَبى، وقال: اجمعْ جموعَك وأجمعُ جموعي، فجمع النمرودُ جيشَه وجنودَه وقتَ طلوعِ الشمس، وأرسل اللهُ عليهم بابًا من البعوضِ بحيثُ لم يَرَوْا عينَ الشمس، وسلَّطَها عليهم، فأكلتْ لحومَهم ودماءَهم وتركتهم عِظامًا بادية، ودخلت واحدةٌ منها في مَنخِرَي الملِك فمكثتْ في منخريهِ أربعمائةِ سنةٍ، عذَّبه اللهُ بها فكان يضربُ رأسَه بالمِرْزاب في هذه المدةِ كلِّها حتى أهلكه اللهُ بها (2).
عبادَ الله: تأملوا فالفرقُ كبيرٌ بين رجلٍ يدَّعي الربوبيةَ وبين بعوضةٍ يتسع لدخولها المَنخِرُ، والمسافةُ هائلةٌ بين الدعوى الجائرةِ وبين النهاية بهذه البعوضةِ؟ وكذلك يمحَقُ الله الكافرين ويُنهي الظلم وينتقمُ من الظالمين.
(1) سورة العنكبوت، الآيات: 38 - 40.
(2)
تفسير ابن كثير، 1/ 464.
أُمةَ الإسلام: لا تخافوا البغيَ في الأرض، حين ترتبطوا بخالقِ الأرضِ والسماء، ولا تخافوا الضَّيعةَ من قُوى الأرض، فمِن فوقِها قوةُ السماء، ومهما بلغتْ قوةُ البشرِ فثِقُوا أن القوةَ لله جميعًا، وإذا توكَّلتم على اللهِ حقّ توكُّلِه فلن يستطيعَ أحدٌ أن يَكيدَكم، ولقد تحدَّى فردٌ أُمةً من الناس -لكنه كان مؤمنًا وهم مشركون، ونجح المتحدِّي وأبلَسَ المجرمون {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1).
إخوةَ الإسلام: وعلى مشارفِ ولادةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم هدَّد الأحباشُ النصارى العربَ بل أَتَبعوا التهديدَ بالغزو، وجاء أصحابُ الفيلِ ليهدِموا البيتَ الحرامَ ويُزِيلوه من الوجود، ويحوِّلوا الحجاجَ والمعتمرين إلى كنيسة القُلَّيس (2)، وما كان للعربِ كافةً ولأهل مكةَ خاصةً قِبَلٌ بهذا الجيشِ العَرَمْرَمِ، وما كان أهلُ مكةَ حينها مسلمين، بل كانوا وثنيِّين ولكن الله وحدَه تولَّى الدفاعَ عن بيتِه والدفاعَ عن أُمةٍ قدَّر وقضى أن يبعثَ من رَحِمِها رحمةً للعالمين.
وانتهى الظلمُ على أعتابِ مكةَ وردَّ اللهُ الظالمينَ وجعل كيدَهم في تضليل، وأرسل الله عليهم جندًا من جندِه - وللهِ جنودُ السماواتِ والأرض، وما يعلمُ جنودَ ربِّك إلا هو - فعادوا يجرُّون ذيولَ الهزيمةِ وجعل الله من حَدَثِهم عِظَةً وذِكْرى تُتلى في كتاب الله إلى قيامِ الساعة.
إخوةَ الإيمان: وفي غُضونِ هذه الحادثةِ وُلِدَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم يتيمًا عائلًا فخَلَقَ له ربُّه من الضعفِ قوةً، ومن القِلَّة كثرةً، ومن الفقرِ غنىً {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى
(1) سورة هود، الآيات: 54 - 56.
(2)
سمَّتها العرب بذلك لارتفاعها، لأن الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها. تفسير ابن كثير عند سورة الفيل.
(6)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}.
لقد كان فردًا فصار أُمةً، وكان أُميًا فعلَّم الملايينَ من البشرِ، وكان فقيرًا ففتح اللهُ له كنوزَ الأرض، وأبصرَ مفاتيحَها قبلَ أن يفتحَ أصحابُه مواطنَها .. وما ذهب الجيلُ الذي صَحِبَه حتى زَعزَعَ أركانَ الأكاسرةِ والقياصرةِ .. وفتحوا بلادَ الفُرْس والروم .. وأورثَهم اللهُ أَرضَهم وديارَهم وأموالَهم واستبدلوا حضارتَهم القائمةَ على الظلمِ والطُّغيانِ والجحودِ والإنكارِ والتحريفِ لرسالاتِ السماء بحضارةٍ أشرقت شمسُها فاستضاء الكونُ كلُّه بضيائِها .. وطوى فجرُ الإسلام قرونًا من الظلمِ والطغيان، وساد العدلُ والرَّخاءُ شعوبَ الأرض، وكذلك يصنعُ الإسلامُ، وتلك من ثَمَراتِ الإيمان.
(1) سورة الأعراف، الآيات: 96 - 99.