الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوصايا والوقف الناجز
(1)
الخطبةُ الأولى:
إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون: الأوقافُ والوصايا ماذا يُعلَمُ عنها، وبماذا يُعملُ؟
ما هي أغراضُها؟ وما منافعُها؟ كيف كان هديُه صلى الله عليه وسلم فيها؟ وكيف كان هديُ سلفِ الأُمةِ من بعدِه فيها؟ ما الوقفُ الناجزُ وما الوقفُ المؤجَّل؟ ما هي الأخطاءُ والسلبيّاتُ التي تحصلُ في بعضِ هذه الأوقافِ وكيف الحلُّ، وهل يمكن أن تُستثمَرَ الأوقافُ والوصايا لدعمِ الدعوة لدينِ الله والجهادِ في سبيلِه، وتُعمَّمُ مصالحُها؟ إلى غيرِ ذلك من أسئلةٍ مهمَّةٍ تتعلَّقُ بالأوقافِ والوصايا، وهنا وقبلَ الإجابةِ على هذه الأسئلةِ لا بدَّ من القولِ: إن الأوقافَ والوصايا في الإسلامِ مظهرٌ من مظاهرِ البرِّ والإحسان، وصورةٌ رائعةٌ من صورِ التكافلِ الاجتماعيّ .. يستشعرُ معها أهلُ اليَسَارِ والغِنى حاجةَ إخوانِهم المسلمين لأمرٍ من الأمورِ فيُوقِفُون ويُوصُون من أموالِهم ما يَخدُمُ غيرَهم من المحتاجين، ويسدُّ حاجتَهم.
إنَّ الوقفَ سنَّةٌ نبويةٌ سارتْ عليه الأُمةُ في عصورِها الزاهيةِ وإلى يومِنا هذا،
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 24/ 12/ 1422 هـ.
وسيظلُّ ما بقيَ الدِّينُ قائمًا والمسلمون أحياءَ.
والوقفُ نوعٌ من أنواعِ الصدقةِ في الإسلام، ويُعرَفُ بأنه حبسُ الأصلِ وتسبيلُ منفعتِه.
وقد أرشدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليه نفرًا من الصحابةِ جاؤوا يستشيرونَه، ففي ((صحيح البخاريِّ)) وغيره: أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه أصاب أرضًا بخيبرَ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستأمرُه فيها، فقال: يا رسولَ الله، إني أصبتُ أرضًا بخيبرَ لم أُصِبْ مالًا قطُّ أنفسَ عندي منها، فما تأمرُ به؟ قال:((إن شئتَ حَبَستَ أصلَها وتصدَّقتَ بها)) قال: فتصدَّقَ بها عمرُ أنه لا يُباعُ ولا يُوهب ولا يورَثُ، وتصدَّقَ بها في الفقراءِ وفي القُربَى، وفي الرِّقاب، وفي سبيلِ الله وابن السبيل، والضيفِ، ولا جُناحَ على مَن وَلِيَها أن يأكلَ منها بالمعروف ويُطعِمَ غيرَ متموِّلٍ (1).
عبادَ الله: هذه مشروعيةُ الوقفِ وبعضُ منافعِه، كما في وصيةِ عمرَ ومَشُورةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهذا نموذجٌ من نماذجِ الوقفِ في عصرِ النبوة.
وإليكم نموذجًا آخرَ والمشيرُ فيه كذلك رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم في قصةِ أبي طَلْحةَ رضي الله عنه وبَيْرَحاءَ، فعند أحمدَ والبخاريِّ ومسلمٍ عن أنس لما نزلتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (2) جاء أبو طلحةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، يقول تعالى في كتابه:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرَحاءُ، قال: وكانت حديقةً كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدخلُها ويستظلُّ بها ويشربُ من مائِها - فهي إلى الله عز وجل وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم أرجو بِرَّه وذُخْرَه، فضَعْها - أيْ رسولَ الله - حيثُ أراكَ اللهُ، فقال
(1) البخاري (2737)، ومسلم (1632)، وأحمد 2/ 12.
(2)
سورة آل عمران، الآية:92.
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((بخ يا أبا طلحةَ، ذلك مالٌ رابحٌ، قَبِلْناه منكَ، ورَدَدْناه عليكَ، فاجعَلْه في الأقربينَ)) فتصدَّقَ بها أبو طلحةَ على ذَوِي رحمِه - وفي لفظٍ: فَقَسَمَها أبو طلحة في أقاربِه وبني عمِّه)) (1).
أيها المسلمون: ومن خلالِ هذينِ النموذجينِ في الأوقافِ والصدقاتِ تتبيَّنُ الأمورُ التالية:
1 -
إن هذا الجيلَ كان حريصًا على الخيرِ والبَذْل، والدليلُ على ذلك أنهم كانوا يَبذُلون أغلى ما يَملِكون، ومن رامَ التشبيهَ بهم فليتخلَّصْ من شُحِّ نفسِه، وليستجيبْ لنداءِ ربِّه:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} .
2 -
وإنَّ الوقفَ أو الصدقةَ الناجزةَ أَوْلى من الوقفِ بعد المماتِ ولماذا؟ لأن في ذلك انتصارًا على شُحِّ النفس، فالحيُّ يخشى الفقرَ ويأملُ الغِنى بعكس الميتِ، فالمالُ من بعدِه للوارثِ.
3 -
ولأن المُوقِفَ يَرى في حياتِه أثرَ وقفِه ويتصرَّفُ فيه بما يُصلِحُه ويُدِيم نفعَه، ومهما بلغَ الوارثُ من الحرصِ على وقفِ مورِّثِه أو وصيتِه فلن يكونَ بدرجةِ حرصِ المُوقِف نفسِه.
4 -
بل ربما تعرَّضَ الوقفُ المؤجَّلُ إلى معوِّقاتٍ ومشاكلَ، والواقعُ يشهدُ على تعطُّلِ منافعِ عددٍ من الوصايا والأوقافِ، بل ربما زادَ الأمرُ فأحدثتْ هذه الوصايا والأوقافُ من المشاكلِ بين الوَرَثةِ والقطيعةِ بين الأرحامِ ما يَندَى له الجبينُ.
إخوةَ الإسلام: ولا نعني بذلك التحذيرَ من الأوقافِ والوصايا المنفَّذةِ بعد الممات، فالوصيةُ بجزءٍ من المال بعد الموتِ أمرٌ مشروعٌ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الثلثُ
(1) البخاري (2758)، ومسلم (998)، وأحمد 3/ 141.
والثلثُ كبيرٌ)) (1)، ولكنّ المقصودَ التنبيهُ إلى ما قد يَغفُلُ عنه كثيرٌ من الناسِ حين يعتقدون أن كلَّ صدقاتِهم لا تُنفَّذ إلا بعدَ المماتِ، أو أن الوقفَ لا تسري منافعُه حتى يموتَ مُوقِفُه - فذلك الخطأُ الذي ينبغي التنبيهُ له، وينبغي أن يستشعرَ الأغنياءُ قيمةَ وأهميةَ ونفعَ الوقفِ الناجزِ، ولئِنْ كان الواقعُ يشهدُ بوجودِ هذا النوع من الأوقافِ الناجزة - فلا يزالُ عددٌ من الأغنياءِ لا يعتمدونَ هذا النوعَ من الأوقاف.
وواقعُ المسلمين الحاضرُ يشهدُ على الحاجةِ لذلك، فكم من الفقراءِ والمحتاجين في الداخلِ أو في الخارجِ يحتاجون إلى إنفاقٍ دائم، ومع ما تقومُ به الجمعياتُ والمؤسساتُ الخيريّةُ، وما يقومُ به الأغنياء من أُعطِيَاتٍ وصدقاتٍ، إلا أنَّ هذه الأوقافَ - حين توجدُ وتتكاثرُ - ستسدُّ حاجةً كبيرةً لهؤلاء.
والدعوةُ إلى اللهِ بمشاريعِها الواسعةِ وبنفقاتِها المتعدِّدةِ تقومُ اليومَ في عددٍ من الدولِ والمؤسَّساتِ على صدقاتٍ مقطوعةٍ، ومعوناتٍ متقطِّعةٍ يُؤثِّرُ توقفُها أو ضعفُها على انتشارِ الدعوة ونشاطِ الدعاة، وحين تتكاثرُ الأوقافُ الناجزةُ والهِبَاتُ والعطايا العاجلةُ، لا شكَّ أنها تُسهِم في نشاطِ الدعوة وحيويةِ الدعاة. وستظلُّ هذه الأوقافُ المحبوسةُ الأصولِ مورِدًا للدعمِ ما بقيتْ هذه الأوقافُ.
إنَّ طباعةَ الكتبِ وتوزيعَ الأشرطةِ النافعةِ تحتاجُ إلى دعمٍ مستمرٍّ، وإطعامَ الجَوْعى وسقيَ العَطْشى، وتأمينَ الغذاءِ والكساءِ لمن يحتاجُ إلى استمرارِ الصدقاتِ وتدفُّقِ التبرُّعات، والأوقافُ والوصايا ينبغي أن تُسهِمَ بتمويلِ هذه المشاريع لصالحِ الدعوةِ وحمايةِ المسلمين من مَعُونةِ غيرِ المسلمين، إذِ المعونةُ من غيرِ المسلمين تسيرُ في الغالبِ لأهدافٍ تنصيريةٍ أو على الأقلِّ لطمسِ معالمِ الهُويةِ المسلمةِ.
أيها المسلمون: إنَّ المتأملَ في تاريخِ المسلمين يرى أنَّ هذه الأوقافَ
(1) البخاري (1295)، ومسلم (1628).
ساهمتْ في بناءِ المساجد، والإنفاقِ على المجاهدين وأصحابِ الثُّغور، وإصلاحِ الطرق، وشقِّ الأنهار، وحفرِ الآبار، وإطعامِ الطعامِ وخدمةِ المسافرين، وفي خلافةِ عمرَ رضي الله عنه أمر باتخاذِ دورٍ للطعامِ من دقيقٍ وغيرِه لعابِرِي السبيلِ والمنقطِعين (1). وشَمِلَتْ هذه الوصايا والأوقافُ خدمةَ الموتى، وذلك بوقفِ المقابرِ، بل تجاوزتْ وصايا وأوقافُ المسلمين إلى غيرِهم من أهلِ الذِّمَّة رحمةً وتأليفًا لهم ودعوةً للإسلام، فقد نُقِلَ أمرُ عثمانَ وعليٍّ رضي الله عنهما بحفرِ أنهارٍ لأهل الذمة، ويُروى أن عليًا رضي الله عنه كتبَ إلى أحدِ أمرائِه يقول:((أما بعدُ، فإن رجالًا من أهلِ الذمةِ من عملِك ذكروا نهرًا في أرضِهم قد عَفَا وادَّفنَ، وفيه عِمارةٌ على المسلمين، فانظُرْ أنتَ وهُم، ثم اعمُرْ وأصلِحِ النهرَ، فلَعَمْري لأنْ يعمروا أحبُّ إلينا من أن يخرجوا، وأن يَعجِزوا أو يُقصِّروا في واجبٍ من صلاحِ البلادِ، والسلام)).
نعم إنَّ الأوقافَ كما تكونُ من الأفرادِ تكونُ من الدولِ، وكما تكون من الأغنياءِ تكونُ من غيرِهم، وهذا خالدُ بنُ الوليدِ رضي الله عنه لا يملكُ كما يملكُ غيرُه من الضِّياع والأموال .. لكنه يُوقِفُ أغلى ما يملكُ آلتَه وسلاحَه وعتادَه الحربيَّ، ويُثْني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على خالدٍ ويقول:((إنَّكم تَظلِمونَ خالدًا وقد احتَبَسَ أدراعَه وأعتادَه في سبيل الله .. )) رواه مسلم (2).
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (3).
(1) تاريخ عبد الملك بن حبيب، 106.
(2)
في كتاب الزكاة: باب تقديم الزكاة، ح (983).
(3)
سورة البقرة، الآية:177.