المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الدين والتدين عشر معالم (1) ‌ ‌الخطبةُ الأولى: الحمدُ لله {شَرَعَ لَكُم مِّنَ - شعاع من المحراب - جـ ٩

[سليمان بن حمد العودة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء التاسع

- ‌مظاهر وملاحظات في الإجازة الصيفية

- ‌الخطبة الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌الإسلام والمسلمون في مقدونيا

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الغلام الأمريكي المسلم والميلاد الجديد

- ‌الخطبةُ الأُولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌كنتُ في البلقان(1)المسلمون في ألبانيا

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌كُنتُ في البلقان(2)المسلمون في البوسنة والهرسك

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌لغة القوة ماذا تعني وماذا تنتج

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

- ‌أيسر العبادات وأزكاها

- ‌الخطبة الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌من معالم القرآن وقصصه

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌تداعي الأمم «انصر أخاك»

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌الرمادةُ بين الماضي والحاضر

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌مفهومُ النصر وتوظيفُ الحدث

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌الشدائد محن ومنح ومحاذير ومبشرات

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌المسلمون بين فكَّيِ الكمّاشة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبة الثانية:

- ‌مشاريع رمضانية

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌حالُنا وأسلافُنا مع القرآن

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌معالم ووقفات في الأزمة المعاصرة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌الجنائز والقبور مشاهد صامتة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌فقه الجنائز

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌معالم ووقفات في نهاية العام وعلى أثر الحج

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

- ‌الوصايا والوقف الناجز

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانية:

- ‌على هامش الحدث (مقارنات ومفارقات)

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

- ‌النفاق والمنافقون

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

- ‌مَن يخرق السفينة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

- ‌على أسوار القسطنطينية

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

- ‌الإجازة بينَ فئتينِملاحظاتٌ ومقترحاتٌ

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

- ‌من مشاهد القيامة

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

- ‌الدين والتدين عشر معالم

- ‌الخطبةُ الأولى:

- ‌الخطبةُ الثانيةُ:

الفصل: ‌ ‌الدين والتدين عشر معالم (1) ‌ ‌الخطبةُ الأولى: الحمدُ لله {شَرَعَ لَكُم مِّنَ

‌الدين والتدين عشر معالم

(1)

‌الخطبةُ الأولى:

الحمدُ لله {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (2)، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الدينُ واصبًا (أي الطاعةُ دائمًا) وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه بَعَثَه اللهُ بالإسلام دِينًا خاتمًا وحقًا، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3).

اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ النبيِّينَ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (4).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (5).

أيها الناسُ: الدينُ والتدينُ فِطرةٌ ربانيةٌ، وحاجةٌ ملحَّةٌ، ومطلبٌ ينتهي بالمرءِ إلى السعادةِ أو الشِّقْوة (6)، ومَن أبصرَ واقعَ الشعوبِ اليومَ وغدًا، وبالأمسِ وفي

(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 17/ 4/ 1423 هـ.

(2)

سورة الشورى، الآية:13.

(3)

سورة آل عمران، الآية:85.

(4)

سورة التوبة، الآية:119.

(5)

سورة آل عمران، الآية:102.

(6)

وفي التنزيل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وفي الصحيحين واللفظ للبخاري قال صلى الله عليه وسلم:«كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام (الفتح 3/ 248) وإن وردت أقوال أخرى (تفسير القرطبي 14/ 28).

ص: 270

غابرِ الزمن، رأى أنه ما من مجتمعٍ أو أُمةٍ إلا ولها دينٌ ومعتقَد، ولكنَّ هذا الدين قد يكون حقًا فيُفلِحُ معتنِقُوه في الدنيا ويَسعَدُون في الآخرةِ، وقد يكون الدينُ باطلًا فيورِّث أتباعَه الشقاءَ في الدنيا والعذابَ والخزيَ في الآخرة.

إن المتأمِّلَ في حديثِ القرآنِ عن الدين يجِدُ إشارةً لهذا وذاك، ويجدُ توجيهًا ربانيًا بالتزامِ الدين الحقِّ، وتأكيدًا على الإسلامِ على أنه الدينُ الذي أراده اللهُ ونَسَخَ به الأديانَ كلَّها.

تأمَّلوا في عددٍ من آياتِ القرآن في وصفِ الدين الذي يريدُه اللهُ، فاللهُ يقول:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (1)، ويقول:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} (2)، {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3)، ويقول:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} (4)، ويقول:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} (5).

وفي الجانبِ الآخر -وعن الأديانِ الباطلةِ- يقول تعالى:

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (6)، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَاّ الْحَقَّ} (7)، {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} (8)، {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (9).

(1) سورة الزمر، الآية:3.

(2)

سورة الروم، الآية:3.

(3)

سورة يس، الآية:105.

(4)

سورة آل عمران، الآية:19.

(5)

سورة البقرة، الآية:193.

(6)

سورة الشورى، الآية:21.

(7)

سورة النساء، الآية:171.

(8)

سورة غافر، الآية:26.

(9)

سورة البقرة، الآية:217.

ص: 271

أيها المسلمون: إننا بإزاءِ هذه الآياتِ القرآنيةِ، أو سواها من آياتٍ وأحاديثَ نبويةٍ، نقفُ على عِدَّة (معالمَ) حول الدِّينِ والتديُّن.

المَعْلَم الأول: حاجةُ الإنسانِ إلى الدين، فلا اليهوديُّ ولا النصرانيُّ، ولا الوَثَنيُّ، ولا البُوذيُّ، ولا المجوسيُّ، ولا الصابئيُّ ولا سواهم -ممن أضلَّهم الله- يعيشُ بلا دينٍ .. ولكنَّ فضلَ الله في الهدايةِ والتوفيقِ يُؤْتيه من يشاءُ، وعلى من وفَّقه اللهُ للدينِ الحقِّ أن يشكرَ اللهَ على هذه النعمةِ التي سُلِبَها وضلَّ عنها أممٌ وشعوبٌ كثيرة، قال اللهُ عنهم:{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (1).

وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (2).

إنَّ الإسلامَ والإيمان مِنَّةٌ ربانيةٌ، وعلى المسلمين أن يَشكُروا ربَّهم عليها، وأن يعترفوا له بالفضلِ سبحانه إذْ هداهم إليه.

{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَاّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (3).

{وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (4).

{اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (5).

المعلم الثاني: ومِن عجبٍ أَن ترى أو تسمعَ عن حماسِ أصحاب الدياناتِ

(1) سورة الأنعام، الآية:116.

(2)

سورة يوسف، الآية:103.

(3)

سورة الحجرات، الآية:17.

(4)

سورة الأعراف، الآية:43.

(5)

سورة الشورى، الآية:13.

ص: 272

الباطلة، والمِلَلِ المنحرفةِ، لأديانِهم ومِلَلِهم إلى حدِّ الغلوِّ في الدين والرهبانيةِ المبتدَعَة، بل يبلغُ الحماسُ إلى التواصي بالصبرِ على هذه الآلهةِ وإن كانتْ فاسدةً؟

أجلْ، إنَّ من يقرأُ ما قصَّهُ اللهُ في كتابِه من أخبار الأُمم الماضيةِ يجدُ غُلوًّا عندَ أهلِ الكتاب قال اللهُ عنه:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَاّ الْحَقَّ} (1)، وقال عنها:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَاّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (2).

ويجدُ حماسًا وصبرًا عند المشركين على آلهتِهم الباطلةِ: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} (3).

{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَاّ ضَلالًا} (4).

فهل يَسُوغُ أن يتحمَّسَ أصحابُ الباطلِ لأديانِهم ومعتقَداتِهم ويتراخى ويَضعُفَ أصحابُ الدين الحقِّ عن الصدقِ والحماسِ لدينِهم؟

المَعلَمُ الثالث: بل يجدُ المُطالعُ لآياتِ القرآنِ وأخبارِ الأمم السالفةِ واللاحقةِ محاوَلةً من أهلِ الباطل لتشويهِ الدِّين الحقِّ، ورَمْيِ المؤمنين بالباطل واتهامِهم بالفسادِ، بل ومحاولةِ قتلِهم والتخلُّص منهم.

لفد حفِظَ القرآنُ مقولةَ فرعونَ الآثمةِ الكاذبةِ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى

(1) سورة المائدة، الآية:77.

(2)

سورة الحديد، الآية:27.

(3)

سورة ص، الآية:6.

(4)

سورة نوح، الآيتان: 23، 24.

ص: 273

وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} (1).

وفي قصةِ إبراهيمَ عليه السلام مع قومِه: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} (2)، وقوم لوطٍ قالوا لِلُوطٍ عليه السلام:{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (3).

أما ثمودُ فكان جزاءُ صالحٍ عليه السلام حين دعاهم إلى عبوديةِ الله وحدَه أن يُقسم الرهطُ المفسِدون {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (4).

ولا يزالُ المفسِدونَ من اليهودِ والنصارى والمشركين يتربَّصونَ بالمسلمين الدوائرَ يقتلون ويُحاصرون ويَسخَرون ويتَّهمون {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} (5). ولا تزالُ التهمُ تُكال جُزَافًا للإسلام والمسلمين بالتطرُّفِ والإرهابِ ونحوها.

المَعْلَم الرابعُ: وهل تعلمونَ أن هؤلاءِ الكفَّارَ -قديمًا وحديثًا- الذين يتهمون المسلمين بالتطرُّف هم المتطرُّفون، لقد قال فرعونُ -مرة أخرى- لقومه:{مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (6) وهذه قِمَّةُ التطرفِ والانحراف.

وفي المقابل استهجنَ موسى عليه السلام وازدَرَاهُ قائلا: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} (7).

(1) سورة غافر، الآية:26.

(2)

سورة الأنبياء، الآية:68.

(3)

سورة النمل، الآية:56.

(4)

سورة النمل، الآيتان: 49 - 50.

(5)

سورة البروج، الآية:20.

(6)

سورة القصص، الآية:38.

(7)

سورة الزخرف، الآية:52.

ص: 274

وقريشٌ الوثنيّةُ كانت في وجهِها الآخَرِ متطرِّفةً في الدين حين ألزمتْ نفسَها بتشريعاتٍ لم يأْذنْ بها اللهُ، وخصَّت نفسَها بخصائصَ وابتدعت (الحُمْسَ) وما أدراك ما الحُمْسُ؟

قال أهل اللغة: الحُمْس: قريشٌ؛ لأنهم كان يتحمَّسونَ في دينِهم، أي: يتشدَّدون (1).

وروى ابنُ سعدٍ في الطبقات: «التحمُّس أشياءُ أحدثُوها في دينِهم، تحمَّسوا فيها، أي: شدَّدوا على أنفسِهم فيها» (2).

ومن الجاهلياتِ الأولى إلى الجاهلياتِ المعاصرةِ حيث لا يكتفي أهلُها بالتُّهم الباطلةِ بل يمارِسونَ القتلَ والحصارَ بكلِّ أشكالِه الماديةِ والمعنويةِ، وتجتمعُ وتتحالفُ قُوى الكفرِ كلُّها -اليومَ من يهودَ ونصارى وشيوعيين وهندوسٍ ووثنيين على حربِ المسلمين وإبادتِهم، ويَمكُرون ويمكرُ الله.

ولم يكن تطرُّفُ قريشٍ في الحجِّ وحدَه، بل إن تسييبَ السوائب، وهي ما يُسيِّبونَه من الأنعامِ لآلهتِهم إن شُفِيَ لهم مريضٌ أو قُضِيتْ لهم حاجةٌ، وجَعْلَ (البحَيرة) و (الوَصيلة) و (الحامِ) من معتقَداتٍ لم يأذنْ بها الله تطرُّفٌ قرشيٌّ أنكره القرآنُ {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَآئِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (3).

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (4).

(1) معجم مقاييس اللغة 2/ 104 مادة (حمس).

(2)

الطبقات 8/ 720 عن الواقدي.

(3)

سورة المائدة، الآية:103.

(4)

سورة المائدة، الآية:104.

ص: 275

ومن تطرُّفِ قريشٍ وافترائِها على الله ما قَصَّه الله عليهم في سورة الأنعام: {وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} إلى قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} .

{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَاّ يَطْعَمُهَا إِلَاّ مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَاّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} إلى قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)} (1).

روى البخاريُّ ومسلمٌ رحمهما الله -في صحيحيهما- عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانت قريشٌ في الجاهليةِ ومن دانَ بدينِها يَقِفُونَ بالمزدلِفَةِ عند المَشعَرِ الحرام، وكان سائرُ العربِ يقفونَ بعرفاتٍ» (2).

والمعنى أن قريشًا خصَّتْ نفسَها وميَّزتْها بالوقوفِ -في الحجِّ- في مزدلِفةَ دونَ سائرِ العربِ التي كانت تُفِيضُ من عرفاتٍ -يعني من الحِلِّ- وهي تمارسُ هذا التطرُّفَ الدينيَّ كانت تعلمُ أن الوقوفَ بعرفةَ من مشاعرِ الحجِّ التي مضى عليها إبراهيمُ عليه السلام، ولكن قريشًا تريدُ أن تُميِّزَ نفسَها عن الآخرين، ولم تكن هذه هي وحدَها أفكارَ قريشٍ في التطرُّف والتشريع بما لم يأذنْ به اللهُ، فقد كان من آرائِهم البِدْعيةِ الحُمْسيةِ أنهم حرَّموا على أنفسِهم في حالِ إحرامِهم: ألا يأْتطِقُونَ الأقِطَ -أي: لا يصنعونه وهم مُحرِمون-، ولا يَسْلُون السمنَ -أي: يذيبونه- ولا يأكلونه وهم مُحرِمون، ولا يأكلون اللحمَ أو شيئًا من نباتِ الحَرَم وهم مُحرِمون .. في جملةٍ من المحرَّماتِ ابتدعوها وأَلزمُوا بها أنفسَهم ومن وافقَهم،

(1) سورة الأنعام، الآيات: 136 - 140.

(2)

البخاري رقم 4520، ومسلم رقم 1218.

ص: 276

ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ وكانوا لا يَطُوفون بالبيتِ إلا وعليهم ثيابُهم، وألزموا غيرَهم من أهل الحِلِّ ألا يطوفوا بالبيتِ إذا قَدِموا -أولَ طوافِهم- إلا في ثيابِ الحُمْس، ومن لا يجدُها شِراءً أو إعارةً، فعليه أن يطوفَ بالبيتِ عُرْيانٌ- واستمرَّتْ هذه العوائدُ الجاهليةُ المتطرِّفةُ حتى أعلَنَ منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ألَّا يحجَّ العامَ مشرِكٌ ولا يطوفَ بالبيتِ عُرْيانٌ، وأبطلَ اللهُ عوائدَ قريشٍ وما ابتدعتْه في الحج حين نزلَ القرآن:{فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1).

(1) سورة البقرة، الآيتان: 198، 199.

ص: 277