الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ يُعطي الدنيا مَنْ أحبَّ ومَنْ لمْ يحبَّ، ولا يُعطي الدِّين إلا مَنْ أحبَّ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، يَهديْ منْ يشاءُ، ومَنْ يُضلِلِ اللهُ فما لهُ من هادٍ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه كانَ أحرصَ الناسِ على هدايةِ الأمّةِ للخيرِ في حياتهِ، وما تزالُ سنّتُه تدعو وترغِّبُ وتُبيِّنُ وتَهديْ، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (1).
يا عبدَ اللهِ: يقولُ العارفونَ: إنَّ الإنسانَ يولدُ مرتينِ: مرةً عندما يخرجُ منْ ظلماتِ رَحِمِ أمِّهِ إلى نورِ الدنيا، ومرةً عندما يَخرجُ منْ ظلماتِ المعصيةِ إلى نورِ الطاعةِ.
وإذا كانَ الميلادُ الأولُ يشتركُ فيهِ الخَلْقُ كلُّهمْ مسلمُهمْ وكافرُهمْ، بَرُّهمْ وفاجرُهمْ، فإنَّ الميلادَ الآخَرَ خاصٌّ بمَنْ وفَّقهُ اللهُ للهدايةِ ودلَّه على طريقِ الاستقامةِ وأرادَ لهُ سعادةَ الدنيا والآخرةِ.
إنَّ هذا النوعَ منَ الميلادِ - أعني التحوُّلَ منَ المعصيةِ إلى الطاعةِ، ومنَ الضلالةِ إلى الهدى- لا يتقيَّدُ بزمانٍ محدَّدٍ، فقدْ تُولَدُ ميلادَكَ الجديدَ وأنتَ في العشرينَ أو الأربعينَ من عمرِك أو قبلَ ذلكَ أو بعدَ ذلكَ، وقدْ تُولَدُ ميلادَكَ الجديدَ في نفسِ الساعةِ التي تولَدُ فيها ولادتَكَ الحقيقيةَ.
وهذا النوعُ منَ الميلادِ -وهُوَ التحوُّلُ منْ السيِّئِ إلى الحسنِ- لا يتقيَّدُ بمكانٍ، فلربَّما وُلدتَ وأنتَ في المسجدِ، أو الشارعِ، أو البيتِ، أو السجنِ، أو على فراشِ المرضِ، في البَرِّ أو البحرِ أو الجوِّ، قدْ تُولَد وتهتدي وأنتَ في
(1) سورة الإسراء، الآية:72.
شاهقاتِ الجبالِ أوْ في بطونِ الأوديةِ والشِّعابِ، وكما يُولَدُ أناسٌ بجوارِ البيتِ الحَرامِ فقدْ يولَدُ آخرونَ في أرضِ المادِّيَةِ الغربيةِ .. أوْ في قعرِ اليهوديةِ والنصرانيةِ، أو في الأراضي الشرقية، حيثُ الإلحادُ والشيوعيةُ.
إنه ميلادٌ ليسَ لهُ سببٌ واحدٌ محدَّدٌ، فلعلَّ السببَ في مولدِ الهدايةِ والاستقامةِ موعظةٌ صادقةٌ، أو موقفٌ مؤثِّرٌ، أو قراءةٌ في كتابٍ نافعٍ، أوْ سماعٌ لشريطٍ مؤثِّرٍ، أو لعلَّ السببَ يكونُ خليلًا ناصحًا، أو دعوةً في ظَهْرِ الغيبِ، أو رؤيا في المنامِ .. أو غيرَ ذلكَ منْ عواملِ الهدايةِ بإذنِ اللهِ تعالى.
يا أخا الإسلام: ما أغلى هذا الميلادَ وما أسعدَ الفردَ بهِ، وكمْ منْ أناسٍ عاشُوا فترةً منْ حياتِهمْ في البؤسِ والشقاءِ، ولربَّما ظنُّوا أنَّ الناسَ كلَّهمْ كذلكَ .. بلْ وأنَّ الحياةَ كلَّها تسيرُ على هذهِ الوتيرةِ، فلمّا هداهمُ اللهُ واستنشقُوا عبيرَ الإيمانِ أدركوا نعمةَ اللهِ عليهمْ في الحاضرِ .. وأدركوا ما كانوا فيهِ منْ جحيمٍ في الماضي.
يا أخا الإسلامِ: ومهما مرَّتْ بِكَ هذهِ الشقوةُ منْ عمرِكَ فأنتَ سعيدٌ أنْ ولدتَ مولدَ السعادةِ قبْلَ موتِكَ، وكلَّما تقدَّمتْ هذهِ الولادةُ في عمرِكَ كلَّما ازددتَ هديً وراحةً وسعادةً.
يا أخا الإيمانِ: دعني أقصَّ عليكَ واحدةً منْ قصصِ التائبينَ، منْ أهلِ الميلادِ (1) الجديدِ، كانتْ هديتُه للنجاحِ رحلةً وسفرًا للخارجِ، يُحدِّثُنا عنْ مشاعرِه وأحاسيسهِ في هذهِ الرحلةِ ويقولُ: أخيرًا تركتُ أرضي إلى البلادِ المفتوحةِ، وصلْنا، كلُّ شيءٍ مُعَدٌ: الاستقبالُ، والفندقُ، وجدولُ الزياراتِ .. الأرضُ خضراءُ، والجوُّ جميلٌ، والمشاهدُ ساحرةٌ .. ولكنَّ العالمَ منْ حولي
(1) انظر: «الميلاد الجديد» إبراهيم الغامدي 24 - 28، مع شيء من التصرف.
غريبٌ! تختلطُ فيهِ أصواتُ السكارى مَعَ آهاتِ الحيارى، لا تسألني: ماذا فعلتُ هناكَ؟ لقدْ فعلتُ كلَّ شيءٍ إلا الصلاةَ والقرآنَ، فلمْ يكنْ في البرنامجِ المعدِّ وقتٌ لهما!
لقد مرَّ الوقتُ سريعًا ولمْ يبقَ على انتهاءِ الرحلةِ إلا يومٌ واحدٌ، وكانَ منْ فقراتِ حفلِ التوديعِ اختيارُ الشابِّ المثاليِّ في الرحلةِ، ووقعَ الاختيارُ عليَّ، وكانَ الوسامُ صليبًا ذهبيًّا، ولا غرابةَ! فعددٌ منَ المشتركينَ معنا في هذهِ الرحلةِ نصارى. فكّرت وقدّرتُ لماذا اختاروني وَحْدي وهناكَ الكثيرُ ممّنْ هو على دينِهمْ .. ألأنِّي مسلمٌ اختاروني؟
توالتِ الأسئلةُ في ذهني وترددتْ حيرتي، وزادَ عَجَبي، وهنا في هذا الموقفَ تذكرتُ أبي وصَلاتَه، وأمّي وتسبيحَها، وخطيبَ الجمعةِ وتحذيرَه منَ السفرِ للخارجِ .. بلْ قفزَ إلى ذِهْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكأنَّهُ يزجرُني ينهى عنْ مّا وصلتُ إليهِ.
ولكنْ قطعَ هذا التفكيرَ كلَّه صوتُ المقدِّم للبرنامجِ يطلبُ مني التقدمَ إلى المنصّةِ لاستلامِ الصليبِ وهُوَ يُمسِكُ بهِ. وفي هذهِ اللحظاتِ تخيَّلتُ الصليبَ يلمعُ كالحقدِ، ويسطعُ كالمَكْرِ .. اقتربَ القائدُ وأمسكَ بعنقي ليُقلِّدَني الوسامَ وليلبسَني الصليبَ .. !
هنا وفي هذا الموقفِ الرهيبِ ولدتُ، وكأنني أسمعُ صارخًا يقولُ: قفْ إنكَ مسلمٌ! وتذكرْ أنكَ مغزوٌّ، وعُدْ إلى ربِّكَ مادامَ في الحياةِ مهلةٌ، فقدْ لا تعودُ منْ سفرِكَ، وماذا سيكونُ مصيرُكَ لوْ نزلَ بكَ رَيْبُ المَنُونِ وتلكَ حالُكَ، وتعالى شعورُ الإيمانِ وجذوةُ اليقينِ، وتخيّلتُ مشاهدَ الآخرةِ والبعثِ والحسابِ وكأنَها طيفٌ يمرُّ بي .. وهنا تشجَّعتُ وأمسكتُ بالصليبِ الذهبيِّ وقذفتُهُ في وجهِ القائدِ، بلْ ودستُه تحتَ قدميَّ، وأخذتُ أَجْري وأَجري وهمْ يظنُّونَ بي شيئًا منَ
الجنونِ، وما بين جنونٌ، حتى صعدتُ إلى ربوةٍ مرتفعةٍ، وحينَ وصلتُ إلى قمّتِها صرختُ في آذانِهمْ، بلُ وفي أُذنِ الكونِ كلِّهِ، وأشهدُت الأرضَ والسماءَ على مولدي الجديدِ وأنا أقولُ: اللهُ أكبرُ .. اللهُ أكبرُ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأشهدُ أنّ محمدًا رسولُ اللهِ، حينَها علمَ القومُ السرَّ، وخيَّمَ على وجوهِهمُ السكونُ .. فمنهمْ مستغربٌ، ومنهمُ المستهزئُ، ولكنني على ثقةٍ أن هذهِ الصرخةِ ستحضرُ في قلوبِهمْ ولوْ بعدَ حينٍ، وهيَ بكلِّ حالٍ ستكونُ -بإذنِ اللهِ- مولدًا لآخرينَ يَسمعونَ قصَّتي ويأخذونَ العبرةَ منْ موقفي.