الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، يُحيي ويميتُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، بدأَ خلقَ الإنسانِ من طينٍ ثم جعل نسلَه من سُلالةٍ من ماءٍ مَهِين ثم سوَّاهُ ونفخَ فيه من رُوحِه وجعل لكم السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ قليلًا ما تشكرون، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أجابَ وحيَ السماءِ الذي قال:{مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (1).
اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ النبيِّين.
عبادَ الله: وهناك في عَرَصاتِ القيامةِ تكون الشفاعةُ العظمى لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم حين يعتذرُ الأنبياءُ عنها -لهولِ الموقفِ وشدَّتِه- وقد صحَّ في الخبرِ عنه صلى الله عليه وسلم: «لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ دعاها لأُمتِه، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأُمتي يومَ القيامةِ» متفق عليه (2).
وكما يُكرَمُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالشفاعةِ في الموقفِ العظيم يُكرمُه اللهُ بإعطائِه حوضًا واسعَ الأرجاءِ، ماؤُه أبيضُ من اللبنِ، وأحلى من العسلِ، وريحُه أطيبُ من المسكِ، وكِيزاُنه كنجومِ السماء، يأتيه الماءُ من نهرِ الكوثرِ، مَن شربَ منه لا يظمأُ بعدَها أبدًا.
روى مسلمٌ في «صحيحه» عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ حَوْضي أبعدُ من من (أيْلَةَ) مِن (عَدَنٍ) و (أيلةُ) مدينةُ العقبةِ في الأردنِّ، وعَدَنٌ
(1) سورة يس، الآيتان: 78، 79.
(2)
جامع الأصول 10/ 475.
في اليمنِ -كما هو معروف.
وعند البخاريِّ: «حَوضِي مسيرةُ شهرٍ، وزواياهُ سواءٌ» .
«لهوَ أشدُّ بياضًا من الثلجِ وأحلى من العسلِ باللبنِ، ولآنيتُه أكثرُ من عددِ النجومِ، وإني لأَصُدُّ الناسَ عنه كما يصدُّ الرجلُ إبلَ الناسِ عن حوضِه» قالوا: يا رسولَ الله، أتعرفُنا يومئذٍ؟ قال:«نعمْ، لكم سيمَا ليستْ لأحدٍ من الأممِ، تَرِدُونَ عليَّ غُرًّا مُحجَّلين من أثرِ الوضوءِ» .
أيها المسلمُ يا عبدَ الله: بشراكَ حين تَرِدُ الحوضَ مع الوارِدِين، وإياكَ أن تُصَدَّ بسوءِ عملِك، فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:«ليَرِدَنَّ على الحوضِ رجالٌ من أُمَّتي حتى إذا رأيُتهم ورُفِعوا إليّ اختُلِجُوا دوني، فأقولُ: أصحابي أصحابي، فيقالُ لي: إنكَ لا تدر ما أَحدَثُوا بعدَك» .. وفي روايةٍ: «فأقولُ: سُحْقًا لمن بدَّلَ بعدي» (1).
وبُشراكَ -يا أخا الإسلام- حيث تَعبُرُ الصراطَ آمنًا، وتَنجُو من جهنمَ سالمًا واللهُ يقولُ:{وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} إنها التقوى، والتقوى وحدَها سببٌ للنجاةِ من النار {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (2).
ما موقفُك عند هذه الآيةِ؟ وما مشاعرُك تجاهَ هذا المشهدِ يومَ القيامة؟ لقد غيَّرتْ هذه الآيةُ أحوالَ الصالحين، فأسهرَت ليلَهم، وعكّرتْ عليهم صَفْوَ عيشِهم، فقد ذُكِر أن أبا ميسرةَ كان إذا أَوى إلى فراشه قال: يا ليتَ أُمي لم تلدْني، ثم يبكي فقيلَ له: ما يُبكيكَ يا أبا ميسرةَ؟ فقال: أُخبِرْنا أنّا وارِدُوها ولم نُخبَرْ أنا صادرونَ عنها.
(1) جامع الأصول 1/ 468.
(2)
سورة مريم، الآيتان: 71، 72.
وقال عبدُ الله بنُ المبارَكِ عن الحسن البصريِّ -رحمهما اللهُ-: قال رجلٌ لأخيه: هل أَتاكَ أنك واردٌ النار؟ قال: نعم، قال: أتاك أنك صادرٌ عنها؟ قال: لا، قال: ففيمَ الضحك؟ قال: ما رُئِيَ ضاحكًا حتى لَحِقَ بالله (1).
أين نحنُ من قومٍ صَحِبُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا في سبيل الله، ثم هم يخافونَ سوءَ الحساب، فقد ذُكِرَ أن عبدَ الله بنَ رَوَاحةَ رضي الله عنه وضعَ رأسَه على حِجر امرأتِه فبكى، فبكتِ امرأتُه، قال لها: ما يُبكيكِ؟ قالت: رأَيتُكَ تبكي فبكيتُ، قال: إني ذكرتُ قولَ الله عز وجل: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} فلا أدري أَنجُو منها أم لا (2).
يا عبدَ الله، أين اليقينُ بلقاءِ الله؟ وأين شواهدُ اليقينِ من الخوفِ والرجاءِ والصدقِ والإخلاص، والرغبةِ في الآخرةِ والزهدِ في الدنيا، أو على الأقلِّ في الاكتفاءِ منها بالحلالِ دونَ الحرام -إنَّ الحساب عسيرٌ، ومن نُوقِشَ الحسابَ عُذِّب، والميزانُ عدلٌ -ولا يظلِمُ ربُّكَ أحدًا- والموقفُ رهيبٌ، والشهودُ منكَ عليك .. فلا مَحيصَ ولا إنكارَ، أخرج مسلمٌ وغيرُه من حديث أبي سعيدٍ وأبي هريرةَ رضي الله عنهما قالا: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يلقى العبدُ ربَّه، فيقول اللهُ: ألم أكرِمْكَ وأُسوِّدْكَ وأزوجْكَ؟ وأسخِّرْ لك الخيلَ والإبلَ، وأَذَرْكَ ترأَسُ وترَبَعُ؟ فيقول: بلى أيْ ربِّ، فيقولُ: أظننتَ أنكَ مُلاقِيَّ؟ فيقول: لا، فيقال: إني أنساكَ كما نَسِيتَني، ثم يلقى الثانيَ فيقولُ له مثلَ ذلك، ثم يلقى الثالثَ فيقولُ له مثلَ ذلك، فيقول: آمنتُ بكَ وبكتابِكَ وبرسولِكَ وصلَّيتُ وصمتُ وتصدقتُ، ويُثْنِي بخيرٍ ما استطاعَ، فيقولُ: ألا نبعثُ شاهدَنا عليك؟ فيفكِّرُ في نفسِه مَن الذي يشهدُ عليَّ، فيُختَمُ على فيهِ، ويقال لفخذِه: انطِقي، فتنطقُ فخذُه وفمُه
(1) أورده ابن كثير -ونسبه إلى ابن جرير- 3/ 217.
(2)
تفسير ابن كثير 3/ 217.
وعظامُه بعملِه ما كان، وذلك ليُعذَرَ من نفسِه، وذلك المنافقُ الذي يُسخَطُ عليه» (1).
يا عبدَ الله: هل حضَّرت لهذا السؤالِ جوابًا؟ يا غافلًا عن هذه المقاماتِ تذكَّرْ، جاهِدْ نفسَك على عملِ الصالحات، كيف حالُكَ والصلاةَ؟ وهي أولُ ما يُحاسَبُ عنه العبدُ يومَ القيامة؟ وكيف أنتَ والزكاةَ؟ بل وعنِ المالِ كلِّه من أين تجمَعُه وكيف تُنفِقُه، كيف علاقتُكَ بربِّكَ خاصةً وبالخلقِ عامةً، وما من مَظلِمةٍ إلا وسيَرِدُ عليكَ أصحابُها في يومٍ أنت أحوجُ فيه إلى مِثْقالِ ذَرّةٍ من الحسنات، وما بك حاجةٌ إلى شيءٍ من السيئات؟ هل أنت من أهلِ القرآنِ تلاوةً وعملًا؟ أم أنتَ في عِدادِ من اتخذَ القرآنَ مهجورًا؟ وكيف حالُ لسانِك مع ذِكْرِ الله؟ وهو مما يُثقِّلُ الميزانَ «كلمتانِ خفيفتانِ على اللسانِ ثقيلتانِ في الميزان، حبيبتانِ إلى الرحمن: سبحانَ اللهِ وبحمدِه، سبحانَ الله العظيمِ» .
ما جهودُك في الدعوةِ إلى دينِ الله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} (2).
وماذا تصرفُ من وقتِكَ لطلبِ العلمِ النافعِ «ومَن سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه عِلمًا سهَّلَ الله له به طريقًا إلى الجنة» ، كيف إحسانُك إلى الفقراءِ، «والصدقةُ تُطفِئُ الخطيئةَ كما يطفئُ الماءُ النارَ» ، وكيف أنت وصِلةُ الأرحام «والرحِمُ على جَنَباتِ الصراطِ والرحمنُ يقول: مَن وَصَلَها وصلْتُه، ومن قطعَها قطعْتُه»، وأين أنتَ من حُسْن التعامل مع الجيرانِ وحُسْن الخُلُقِ مع عمومِ خَلْقِ الله، وصاحبُ الخلقِ الحَسَنِ يبلغ درجةَ الصائمِ القائمِ -إلى غير ذلك من أعمالٍ صالحةٍ تُدلِّلُ على
(1) مسلم 4/ 2280، ح 2969.
(2)
سورة فصلت، الآية:33.
ترقُّبِكَ ليومِ الحساب، ومع ذلك كلِّه فلا تغترَّ بعملٍ عملتَه، وأسألْ ربَّكَ القَبُولَ والمغفرةَ والثباتَ على الحقِّ إلى أن تلقاه .. وليكن شعارُك في هذه الحياةِ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (1).
أيها الناسُ: إن نفرًا من المسلمين شَغَلتهُم الحياةُ الدنيا ببهجتِها وزُخرفِها وغرورها عن مَشاهدِ القيامة، وفَرِحوا بالحياة الدنيا وما الحياةُ الدنيا إلا متاعُ الغُرور .. لم يتَّعِظوا بصَرْعاها وفي كلِّ يومٍ لها صريعٌ، ولم يأخذوا العبرةَ من غيرِهم بل كانوا لغيرِهم عبرةً.
ما أَحوجَنا إلى صيحةِ صادقٍ كالذي قال لقومه: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (2).
وما أحوجَنا إلى واعظٍ كالذي قال لأبي ذرٍّ رضي الله عنه: يا أبا ذرٍّ أكثِرْ من الزادِ فالسفرُ طويلٌ، وخفِّفِ الظهرَ فالعقبةُ كَؤُودٌ، وأصلِح العملَ فالناقدُ بصيرٌ.
وما أَحوجَنا إلى ذِكْرى أُويس القَرْني -سيد التابعين- لعمرَ وعليٍّ وهما من ساداتِ المؤمنين وقد قال أويسٌ: إن بيني وبينَكما عَقَبةً كؤودًا لا يتجاوزُها إلا مُخِفّ.
اللهمَّ خفِّفْ أوزارنَا .. وثقِّلْ في عَرَصاتِ القيامة موازينَنا، وارحمْ يومَ العرضِ عليك مقامَنا.
(1) سورة الحجر، الآية:99.
(2)
سورة غافر، الآية:39.