الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيسر العبادات وأزكاها
(1)
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ العليِّ الأعلى، أحمدُه تعالى وأشكرُه وله الأسماءُ الحُسْنى والصفاتُ العُلى، وأشهدُ أن لا إله إلا هو بذِكْرِه تطمئنُّ القلوب، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه خيرُ الذاكرين وخيرُ الشاكرين وما زال لسانُه رطبًا بذِكْرِ الله حتى لحقَ بالرفيقِ الأعلى.
اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عبادَ الله: كم نُفرِّط في ثواب الآخرة وهو عظيم والآخرة خيرٌ وأبقى {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (4).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 6/ 1422 هـ.
(2)
سورة الحج، الآيتان: 1، 2.
(3)
سورة المائدة، الآية:35.
(4)
سورة العنكبوت، الآية:64.
وكم نُجهِدُ أنفسَنا في سبيلِ حُطامِ الدنيا واللهُ يقول: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (1).
والفرقُ كبيرٌ بين مُريدِ العاجلةِ ومُريدِ الآخرة، وعنهما قال ربُّنا:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (2).
أيها المسلمون: وثَمّةَ طريقٌ سهلٌ من طرقِ الآخرة طالما غَفَلَ عنه نفرٌ من المسلمين. وهناك عبادةٌ ميسَّرة وعظيمةُ الأجرِ وطالما زهدَ فيها نفرٌ من المسلمين.
إنها عبادةُ الذِّكرِ لله .. يَصِلُ بها الذاكرُ إلى درجاتِ المجاهدين - بل يفوق - وإلى درجاتِ المنفقين والمتصدِّقين بل تزيد.
يقول عليه الصلاة والسلام: «ألا أنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم وأزكاها عندَ مَلِيكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاقِ الذهب والورِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلقَوْا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويَضرِبوا أعناقَكم؟ ذِكرُ اللهِ» رواه الترمذي وابنُ ماجه والحاكم بسند صحيح (3).
أجل إن الذِّكرَ بشهادةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم خيرُ الأعمالِ وأزكاها عند المِلك العلام، وأعظمُها في رِفْعةِ الدرجات.
هل يُعجِزُك يا أخا الإسلام أن تقولَ: سبحانَ اللهِ وبحمدِه؟ وهل تدري أنَّ هؤلاء الكلماتِ المعدوداتِ طريقٌ لمغفرةِ الذنوبِ والخطايا مهما عَظُمَت، وفي
(1) سورة الحديد، الآية:20.
(2)
سورة الإسراء، الآيتان: 18، 19.
(3)
صحيح الجامع الصغير 1/ 370 ح 2626.
صحيح البخاري وغيره: «مَن قال: سبحانَ الله وبحمدِه، في يومٍ مائةَ مرةٍ حُطَّت خطاياه وإنْ كانت مثلَ زَبَدِ البحرِ» .
يا أخا الإيمان، ويا مَن تبحثُ عن الحمايةِ والتحرُّزِ من الشيطان .. أنت واجدُه في ذِكْر الله .. وواجدٌ معه مزايا ومِنَحًا ربانيةً أُخرى، وفي الحديث المتفق على صحته قال صلى الله عليه وسلم:«مَن قال: لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يومٍ مائةَ مرةٍ، كانت له عَدْلَ عشرِ رقابٍ، وكُتِبتْ له مائةُ حسنةٍ، ومُحِيَتْ عنه مائةُ سيئة، وكانت له حِرزًا من الشيطانِ يومَه ذلك حتى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا أحدٌ عَمِلَ أكثرَ من ذلك» .
أيها المسلمون: إن الذِّكرَ حِرزٌ وأمانٌ وحِصن وسِيَاج .. وهل يخفى أن للسفرِ أذكارًا وللمنزلِ دخولًا أو خروجًا أذكارًا، وللأكلِ والشربِ والنوم والاستيقاظ أذكارًا وعند نزولِ المنزل، وعند قضاءِ الحاجة وعند إتيانِ الرجِ أهلَه. كلّ ذلك وسواه من الأحوالِ له أذكارٌ تَحفَظُ وتُبارِك .. والموفَّق من عَلِمَ فعَمِل، وما زال لسانُه رَطْبًا بذِكْر الله بُكْرةً وعشيًّا .. ذلك نداءُ الرحمن لأهلِ الإيمان:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (1).
أيها المسلمون: كم تَضِيقُ الصدورُ أحيانًا وكم تمرضُ قلوبُنا أحيانًا - ثم نظلُّ نبحثُ عن العلاجِ المكافحِ للضِّيقِ والقلقِ هنا وهناك .. وأعظمُ علاجٍ للقلوبِ ذِكرُ الله، وتلك شهادةُ الذي خَلَقَ وهو أعلمُ بمن خلق {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (2).
(1) سورة الأحزاب، الآيتان: 41، 42.
(2)
سورة الرعد، الآية:28.
نعم إنَّ المكروبَ يجدُ في ذِكْر الله ما يفرِّجُ عنه كُربتَه، وفي ذِكْر الله إنقاذٌ حين يغيبُ المنقذون:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (1).
والمريضُ يجدُ في ذِكْر الله ما يُسرِّي عنه ويخفِّف آلامَه، والغريبُ يجدُ في الذِّكر إيناسًا له وتخفيفًا لآلام غُرْبته، إن الذِّكْر يجعلُ من القليلِ كثيرًا ومن الضعيفِ قويًا، ييسِّر العسير ويخفِّفُ المَشَاقَّ، ومن شكَّ فليُجرِّبْ مع استحضارِ عَظَمةِ الله حالَ الذِّكر، والثقةِ بعونِه وتفريجِه.
والمرأةُ تجدُ في ذِكْر الله عونًا لها على مسؤولياتِها، وهذه فاطمةُ بنت محمد صلى الله عليه وسلم شَكَتْ ما تلقى من أثرِ الرَّحى، فانطلقتْ حين علمتْ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتاه سَبْيٌ لتأخذَ منه خادمًا لها، فلم تجدْ أباها ووجدتْ أمِّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها فأخبرتها بحاجَتِها، فلما جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشةُ بمجيءِ فاطمةَ، فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بيتِ عليٍّ وفاطمة وقد أخذا مضجعَهما، فقدَ بينهما .. ثم قال:«ألا أعلِّمُكما خيرًا مما سألتُماني، إذا أخذتُما مضاجعَكما فكَبِّرا أربعًا وثلاثين وسبِّحا ثلاثًا وثلاثين وتَحمَّدا ثلاثًا وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادمٍ» .
يا أخا الإسلامِ: وحين تضيقُ عليك الدنيا وتَقِلُّ ذاتُ يدِك فلا مالَ عندَك ولا عَقَار، فاعلمْ أن بإمكانك أن تعوِّضَ بالذِّكْر ما فاتك من الدنيا لتزرعَ ما شئتَ للآخرة، وفي وصيةِ إبراهيمَ لمحمدٍ عليهما الصلاة والسلام ليلةَ الإسراءِ والمعراجِ قال إبراهيمُ: يا محمدُ أَقْرِئ أُمتَك مني السلامَ وأخبِرْهم أنَّ الجنةَ قيعانٌ، وأنها طيِّبةُ التربةِ عَذْبةُ الماء، وأن غِراسَها: سبحانَ اللهِ، والحمدُ لله،
(1) سورة الأنبياء، الآيتان: 87، 88.
ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبر .. رواه الترمذيُّ وحسَّنَه.
فأينَ الذين يَغرِسون بالذِّكْر اليومَ ما يغتبطون له غدًا في الجنةِ؟ وغرسُ الآخرةِ لا مُنازعَ له ولا مانعَ منه، بل هو فضلُ الله يؤتيهِ مَن يشاء.
يا عبدَ الله: وإذا وفَّقكَ اللهُ للذِّكْر في سحابةِ النهار، وحين تكونُ يقظانَ فلا تفرِّط في الذِّكر حين يَجِنُّ الليلُ وتستيقظُ من النوم، وإليك هذا الحديثَ النبوي فاعقِلْه واعملْ به، يقول صلى الله عليه وسلم:«مَن تَعارَّ من الليلِ - يعني استيقظ - فقال: لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له المُلْكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، الحمدُ لله، وسبحانَ الله، ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، ثم قال: اللهمَّ اغفِرْ لي، أو دعا استُجِيب له، فإن توضَّأَ وصَلَّى قُبِلَت صلاتُه» . رواه البخاري
يا أخا الإسلام: وبشكلٍ عامٍّ فالذِّكرُ عبادةٌ ميسَّرة، وهي ذاتُ مكارمَ وفضائلَ والمغبونُ من كان نصيبُه من الذِّكر قليلًا -لا سيَّما والذكرُ لا يحتاجُ إلى تفرُّغٍ، بل يمكنُ العاملُ أن يذكرَ الله وهو يزاول مهنتَه، والموظفُ بإمكانه أن يذكرَ الله دون أن يؤثِّر على وظيفتِه، وهكذا وهو يقودُ سيارتَه أو بين أهلِه وأولاده .. بل تستطيعُه المرأةُ وهي تزاولُ عملَ بيتِها، ولا يحتاجُ الذِّكرُ إلى طهارةٍ ولا وقتَ يُنهَى فيه عن الذِّكر .. بل يُمارَسُ في كلِّ حينٍ حتى وهو مستلقٍ على فراشِه .. وما أجملَ المرءَ يغيبُ عن الحياةِ ويودِّعُ الدنيا بالنوم وهو ذاكرٌ لله، ثم يستقبلُ الحياةَ بالاستيقاظ بذِكْر الله.
وهل علمتَ أن الذِّكرَ من أحبِّ الأعمالِ إلى الله وأكبرِها عندَ الله، قال تعالى:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (1) وقد سأل معاذُ بن جبلٍ رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:
(1) سورة العنكبوت، الآية:45.
أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله عز وجل؟ قال: «أن تموتَ ولسانُكَ رطبٌ من ذِكْرِ الله عز وجل» (1).
وفي الذِّكر تعويضٌ عما يَفُوتُ المرءَ من صدقةٍ وحجٍّ وعمرةٍ وجهاد .. كما في حديثِ فقراءِ المهاجرين الذين جاؤوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ذهبَ أهلُ الدُّثورِ بالدرجاتِ العُلى والنعيمِ المقيم، فقال صلى الله عليه وسلم:«وما ذاكَ؟ » قالوا: يُصلُّون كما نصلّي، ويصومون كما نصومُ، ولهم فضلُ أموالِهم يحجّون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدَّقون؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أُعلِّمُكم شيئًا تُدرِكون به من سَبَقَكم وتَسبِقُون به مَن بعدَكم، ولا أحدَ يكون أفضلَ منكم إلا من صَنعَ ما صنعتُم؟ » .
قالوا: بلى يا رسول الله، قال:«تُسبِّحون وتَحمَدُون وتكبِّرون خلفَ كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين» متفق عليه (2).
وحَسْبُ الذاكرين اللهَ كثيرًا والذاكراتِ أنَّ الله وعدَهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا، كما قال تعالى في آخرِ آية الأحزاب:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (3).
(1) أخرجه ابن حبان في الموارد، والبزار في كشف الأستار، وسنده حسن. صحيح الوابل الصيب/ 79.
(2)
رياض الصالحين/ 536.
(3)
سورة الأحزاب، الآية:35.