الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانيةُ:
أيها المسلمونَ: ولا تقتصرُ جهودُ المنافقينَ على التعاونِ مع المشركينَ أو اليهودِ أو النصارى، بلْ همْ جاهزونَ للتعاونِ مَعَ كلِّ من تحزَّب ضدَّ الإسلامِ والمسلمينَ، وفي معركةِ الخندقِ وحينَ تحزَّبَ الأحزابُ على المسلمينَ في المدينةِ في جمعٍ لمْ تشهدْه المدينةُ مِنْ قبلُ، وبلغَ الكربَ بالمسلمينَ مَبْلغَه -كانَ للمنافقينَ دَورُهم وسهامُهم مَعَ أولئكَ الأحزابِ، حتى ابتُلي المسلمونَ وزُلزلوا زلزالًا شديدًا، وفي ظلِّ هذه الظروفِ الصعبةِ كانَ المنافقونَ يقولون:{مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَاّ غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَاّ فِرَارًا} (1).
وهكذا شكَّلَ المنافقونَ دورَهم مَعَ الأحزاب في الإرجافِ والتخذيلِ، ومحاولةِ التسللِ والاعتذارِ عنْ حَفْرِ الخندقِ أولًا، وعن مجابهةِ العدوِّ ثانيًا، وأنَّى لأولئكَ المنافقينَ أنْ ينكأوا في العدوِّ وهمُ القائلونَ لإخوانهم:{هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَاّ قَلِيلًا} (2) فلمّا استحكمَ الخوفُ بهمْ {رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (3).
عبادَ اللهِ: وظلّتْ مسيرةُ النفاقِ في عصورِ الراشدينَ، وساهموا بإشعالِ فتيلِ الفتنةِ، واستمرَّ دَورُهم في عصرِ الأمويِّينَ والعباسيينَ يُسمَّونَ بالمنافقينَ حينًا، ويوصفُونَ بالزنادقةِ حينًا آخرَ، وبالباطنِّينَ فترةً وبالعِلْمانيينَ أخرى .. وليستْ تُهمُّ الأسماءُ؛ فالمسمَّيات تتغيَّرُ، ولكنّ السِّماتِ والوسائلَ والأساليبَ تكادُ تتكرَّرُ
(1) سورة الأحزاب، الآيتان: 12، 13.
(2)
سورة الأحزاب، الآية:18.
(3)
سورة الأحزاب، الآية:19.
وتتجدَّدُ .. وكلُّهم تعرفُهم في لَحْنِ القولِ (1)، وجميعُهم يزعمُ الإصلاحَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (2).
والقواسمُ المشتركةُ بينَ المنافقينَ قديمًا وحديثًا هي: بُغضُ المؤمنينَ والسخريةُ بالمتديِّنينَ، وموالاةُ الكفارِ والمسارعةُ فيهم، لا يَثبتونَ على مبدأٍ، ولا يستمرُّونَ في الصداقةِ لأحدٍ، بلْ يتقلَّبونَ ويتلوَّنونَ كالحرباءِ، وأينما هبَّتِ الريحُ لمصلحتهمْ هبُّوا مَعَها، فلديهمُ استعدادٌ للتعاونِ مَعَ شياطينِ الإنسِ والجنِّ لتحقيقِ أغراضِهم، ولديهمَ استعدادٌ للتضحيةِ بأقربِ الناسِ إليهمْ إذا خالفوهمْ في توجُّهِهم!
والمرأةُ وَتَرٌ طالما ضربوا عليه، ورغبوا في إشاعةِ الفاحشةِ منْ خلالْها، وفي قولِه تعالى:{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} (3)، وقولِهِ:{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} (4) نموذجانِ بلْ وجهانِ قبيحانِ للمنافقينَ مَعَ المرأةِ.
وموتُ الصالحينَ يسرُّهم، وإذا مات المجرمونَ والفسقةُ نعَوْهمْ وأسِفُوا لموتِهمْ! وهلْ تعلمونَ أنَّ المنافقينَ همُ العنصرُ الشاذُّ الذي فرحَ بموتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قالَ ابنُ عمرَ: وكانَ المنافقونَ قدِ استبشَروا بموتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم (5).
(1) واللاحق منهم أسوأ من السابق، حتى قال حذيفة رضي الله عنه -خبير المنافقين-: المنافقون الذين فيكم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم وإن هؤلاء يعلنون! (الفريابي: صفة المنافق/ 53).
وإذا قال حذيفة هذا عن المنافقين في عصر الصحابة والتابعين وفي ظروف انحطاط المسلمين، فماذا عساه يقول لو أبصر المنافقين في العصور المتأخرة؟
(2)
سورة البقرة، الآية:11.
(3)
سورة النور، الآية:33.
(4)
سورة النور، الآية:11.
(5)
رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (المغازي) ص 410.
إخوةَ الإسلامِ! وماذا بعدُ؟ وما الدورُ المطلوبُ تجاهَ المنافقينَ؟
أولًا: لا بدَّ منَ العلمِ بهمْ ومَكْرِهمْ، وأساليبِهمْ، وقراءةِ تاريخِهمْ ونماذجِهمْ بوعي في الماضيْ والحاضرِ، فالعلمُ بالشيءِ فرعٌ عنْ تصوُّرِه، والوعيُ خطوةٌ أُولى، وما زالَ القرآنُ يَنزلُ ويقولُ تعالى فيهمْ وفيهمْ حتى كشفَ اللهُ النفاقَ والمنافقينَ في قرآنٍ يُتلى إلى يومِ القيامةِ.
ثانيًا: وبعدَ العِلْمِ لا بدَّ مِنَ الحذرِ منهمْ والتحذيرِ منْ مخطَّطاتِهمْ وأهدافِهمْ، وقدْ نزَّلَ اللهُ على رسولِهِ صلى الله عليه وسلم {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} (1) والخطابُ عامٌ للأمَّةِ في الحذرِ منَ المنافقينَ.
ثالثًا: والنهيُ عنْ طاعتِهمْ توجيهٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأمّتُه تَبَعٌ لهُ، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2)، قالَ القرطبيُّ: ودلَّ بقولِهِ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} على أنه كانَ صلى الله عليه وسلم يميلُ إليهمْ استدعاءً لهمْ إلى الإسلامِ، أي: لو علمَ اللهُ عز وجل أنَّ مَيْلَكَ إليهمْ فيهِ منفعةٌ لَمَا نهاكَ عنهُ؛ لأنهُ حكيمٌ عليمٌ، ثمَّ قيلَ: الخطابُ لهُ ولأمّتِه (3).
رابعًا: جهادُ المنافقينَ كما يُجاهَدُ الكفارُ، بلْ والإغلاظُ عليهمْ، قالَ تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (4).
عنْ عليٍّ رضي الله عنه قالَ: بُعثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأربعةِ أسيافٍ: سيفٍ للمشركينَ:
(1) سورة المنافقون، الآية:4.
(2)
سورة الأحزاب، الآية:1.
(3)
الجامع لأحكام القرآن 14/ 115.
(4)
سورة التوبة، الآية:73.
{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (1)، وسيفٍ للكفارِ أهلِ الكتابِ:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2)، وسيفٍ للمنافقينَ بهذهِ الآيةِ، وسيفٍ للبُغاةِ:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (3). ثمَّ علَّقَ ابنُ كثيرٍ: وهذا يقتضيْ أنهمْ يُجاهَدونَ بالسيوفِ إذا أَظهروا النفاقَ، وهوَ اختيارُ ابنِ جريرٍ (4).
لقدْ فهمَ البعضُ أنَّ هذهِ الآيةَ في المنافقينَ تدلُّ على أنَّ النفاقَ سيظلُّ موجودًا وسيظلُّ محسوسًا ملموسًا منْ أشخاصٍ ترىُ فيهمْ آياتُ النفاقِ (5)، وإذا رأى طائفةُ أهلِ العلمِ مجاهدةَ المنافقينَ بالسيفِ -إذا أَظهروا نفاقَهمْ- فلا شكَّ أنَّ مجاهدتَهمْ باللسانِ والحُجةِ والبيانِ منْ بابِ أَولى، وقالَ القرطبيُّ: وهذهِ الآيةُ نَسختْ كلَّ شيءٍ منَ العفوِ والصُّلحِ والصفحِ.
خامسًا: الحذرُ منْ سِماتِ المنافقينَ، والبُعدُ عنْ كلِّ ما يؤدِّي إلى النفاقِ، قد سمعتُمْ أنَّ مرضَ القلوبِ درعٌ للمنافقينَ، ويمكنُ أنْ يتحوَّلوا إليهمْ ويَنخرطوا في سِلْكِهمْ، فلْيحذرِ المسلمُ ولْيعالجْ نفْسَه ويفطمْها عنْ أمراضِ الشهواتِ والشبهاتِ، ومَن رعى حولَ الحِمى أوشكَ أن يَقَعَ فيهِ!
وأنتَ أيها المسلمُ والمسلمةُ مطالبٌ بمجاهدةِ المنافقينَ على قَدْرِ طاقِتكَ، فإنْ لمْ تستطعْ فلا أقلَّ منْ بُغضِهمْ والحذرِ منْ أفعالِهمْ، والتحذيرِ منْ شرورِهمْ.
(1) سورة التوبة، الآية:5.
(2)
سورة التوبة، الآية:29.
(3)
سورة الحجرات، الآية:9.
(4)
تفسير ابن كثير 4/ 118.
(5)
عبد العزيز كامل/ البيان.
سادسًا: عدمُ موالاةِ المنافقينَ والحذرُ مِنِ اتخاذِهمْ بطانةً للمؤمنينَ، وكفى بالقرآنِ حَكَمًا وواعظًا، واللهُ يقولُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1).
سابعًا: عدمُ المجادلةِ والدفاعِ عنهمْ: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} (2).
ثامنًا: وعظُ المنافقينَ وتذكيرُهمْ برقابةِ اللهِ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} (3).
تاسعًا: وإذا كانَ المنافقونَ بالكثرةَ التي قالَ عنها حذيفةُ رضي الله عنه: لوْ هَلكَ المنافقونَ لاستوحشتُمْ في الطرقاتِ لقلَّةِ السالكينَ -فالأمرُ يستدعيْ تجييشَ الأمّةِ والمجتمعِ كلِّه لمجاهدةِ المنافقينَ برجالِهِ ونسائهِ، بكبارهِ وصغارهِ، بعلمائهِ وعامّتهِ، وكلٌ حَسَبَ استطاعتهِ.
عاشرًا: ونحنُ لا نتألَّى على اللهِ ولا يحقُّ لأحدٍ أنْ يقولَ: لا يهديْ اللهُ فلانًا
(1) سورة آل عمران، الآيات: 118 - 120.
(2)
سورة النساء، الآيتان: 107، 108.
(3)
سورة النساء، الآية:63.
ولن يصلحَ فلانًا منَ الناسِ، فالهدايةُ بيدِ اللهِ، وقلوبُ العبادِ بينَ أصبعَيْنِ منْ أصابِعِهِ يُقلِّبُها كيفَ يشاءُ، وأهلُ الخيرِ والعلمِ والدعوةِ يفرحونَ بتوبةِ التائبِ ويُسَرُّونَ لعودةِ الشاردِ، ويودُّونَ أنْ يفتحَ اللهُ على قلوبِ العُصاةِ والمستنكِرينَ بأسرعِ حالٍ، وإنهمْ حينَ يتحدَّثونَ عنِ النفاقِ والمنافقينَ لا يتشفَّون بأحاديثِهمْ ولكنهمْ مؤتمَنونَ على البلاغِ وكشفِ الباطلِ واستبانةِ سبيلِ المجرمينَ، وهمْ مَعَ ذلكَ يَدعُونَ مَنْ لُبِّسَ عليهِ، ومَنْ غلبتْ عليهِ شهوتُه أو أصرِّ على الخطأِ حفاظًا على شهرتِه، أو استحوذَ عليهِ الشيطانُ فأضلَّه .. يدعُونَ كلَّ هؤلاءِ للتبصُّرِ في أحوالِهمْ والنظرِ في عاقبةِ أمْرِهمْ، والتوبة لخالقهم. و {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} (1) .. اللهمَّ اهدِ ضالَّ المسلمينَ، وبصِّرْنا بالحقِّ.
(1) سورة الإسراء، الآية:15.