الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مفهومُ النصر وتوظيفُ الحدث
(1)
الخطبةُ الأولى:
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون: ما حقيقةُ النصر؟ وما مفهومُ الهزيمة؟
يظنُّ بعضُ الناس أن التفوقَ في القوة، وكثرةَ القتلى والجَرْحى، وانتشارَ الدمارِ هنا وهناك، والغلبةَ على الخصمِ مؤشِّرٌ للنصر لمن حصلَ له، ومؤشِّرٌ لهزيمةِ من وقع عليه.
وكلنا حين نعودُ لنصوصِ القرآن والسنة نجدُ مفهومًا آخرَ للنصر، ومعنًى آخرَ للهزيمة.
فالثباتُ على المبدأ الحقِّ نصرٌ وإن أُهلِكَ أصحابُه في سبيله.
والموتُ على الإيمانِ بالله وحدَه نصرٌ - مهما تفنَّن القاتلون في نوعِ القتل، كيف لا وعددٌ من أنبياءِ الله قُتِلوا .. وهم بلا شكٍّ غالبون منتصرون في ميزانِ الحقّ، وفي المقابلِ تعلَّمْنا من نصوصِ الكتابِ والسُّنة أن الاستكبارَ والطغيانَ والتجرُّدَ من القِيَم والأخلاقِ العادلةِ والظُّلم والاستبدادِ هزيمةٌ ماحقةٌ وإن خُيِّلَ لأصحابها أنهم يتربَّعون على موائدِ النصر ويتسلَّوْنَ بمشاهدِ القتلى، ويتشفَّوْن
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 8/ 1422 هـ.
ويتفاخرون بالانتصارِ على الضعفاء؟
وفي القرآنِ الكريم من مثلِ قِصَّة إحراقِ الخليل عليه السلام، وتقطيعِ الأيدي والأرجلِ من خلافٍ والصَّلْب في جُذوعِ النخل حتى الممات لسحرة فرعون .. وإحراقِ أصحابِ الأخدود .. في مثلِ هذه القصصِ نماذجُ لمفهوم النصرِ وحقيقةِ الهزيمة.
كيف لا وقد جاءَ في سياقِ هذه القصص: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (1).
وعن سَحَرةِ فرعونَ خلَّدَ القرآنُ ثباتَهم وتحدِّيَهم لفرعونَ وصراحتَهم بالإيمان وكشفَهم لمفهوم الحياة الحقَّةِ حين قالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (2).
وهكذا انقلب السحرُ على الساحر، وأصبح فرعونُ لا يواجهُ موسى والمؤمنين معه بل يُبتلَى بثُلَّةٍ من أصحابه، ويُصاب بنفورٍ وانشقاقٍ من أقربِ الناس إليه، وكانت تلك بدايةَ النهايةِ لفرعونَ وجنودِه!
أما أصحابُ الأخدودِ فيكفيهم فخرًا وحسبُهم نصرًا أنهم يُساقَوْن إلى الموتِ وتُخَدّ لهم الأخاديدُ وهم ثَابتون على الإيمانِ بالله متحدُّون للجَبَروت والكبرياء، وحين تقاعست امرأةٌ تحملُ صبيًا لها وتردَّدتْ في دخولِ النار .. أنطقَ اللهُ الغلامَ بالحقِّ وليكونَ شاهدًا على مفهومِ النصر:«يا أمَّهْ اصبِري فإنكِ على الحقِّ» (3).
(1) سورة الأنبياء، الآيات: 68 - 70.
(2)
سورة طه، الآيتان: 72، 73.
(3)
رواه مسلم، الزهد .. قصة أصحاب الأخدود/ ح 2093.
وتأمَّلوا كيف جاء التعليقُ في القرآن على أصحابِ الأُخدودِ ومَن فتنَهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (1) هذا عن الفئةِ الأولى - ثم قال عن المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} (2).
فهذا مفهومُ الفوزِ في القرآن .. وتلك حقيقةُ النصرِ والهزيمةِ عندَ أهل الإسلامِ والقرآن.
عبادَ الله: إن الابتلاءَ للناس سُنَّةٌ ربانية ماضيةٌ متجدِّدة، والحكمةُ منها كما قال ربُّنا:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3).
إنَّ من الناس من يَفزَعُ للأحداثِ الكبيرة فزعًا يُفقِدُه صوابَه، وربما أحبطَ نفسَه وأَساء الظنَّ بربِّه ودينِه، فظنَّ أنَّ في تكالُبِ الأعداء على المسلمين وتهديدِهم لبعضِهم وقتلِهم للبعضِ الآخر نهايةً للإسلام وتصفيةً للمسلمين، فينزوي على نفسِه، وأنَّى لمثلِ هذا أن يقومَ بدعوةٍ أو يأمرَ بمعروفٍ أو ينهى عن منكر .. وهو أحوجُ إلى أن يُدعَى ويُؤمرَ ويُنهَى.
ومن الناس من هو على الضدِّ إذ قد يبلُغُ به الحماسُ غيرُ المنضبطِ إلى التسرُّعِ والتصرُّف فيما لا يَسُوغ ولا يجوز سواءٌ بالقول أم بالفعل، وسواءٌ كان حماسُه لهذا العمل أو ذاك، وخسارةٌ فادحة حين ترتدُّ السهامُ على النحورِ، وفتنةٌ عظمى حين يقعُ القتالُ بين فئاتِ المسلمين فتتمزَّقُ أوصالُ الأُمة ويذهبُ ريحُ
(1) سورة البروج، الآية:10.
(2)
سورة البروج، الآية:11.
(3)
سورة العنكبوت، الآية:3.
المسلمين؛ فلنحذَرْ ولنحذِّر من هذا الصنيع.
ولاشكَّ أن أُمةَ الإسلام اليومَ تُمتحَنُ بتكالُبِ الأعداء عليها، وهي أمامَ تحدٍّ كبيرٍ تمارسه القُوى الكافرةُ ضدَّها، وهذه القوى حريصةٌ على إحداثِ الشِّقاق داخلَ الأمةِ المسلمةِ بين شعبٍ وشعب، بل داخلَ الشعب الواحدِ بين فئاتِه وأطيافِه ومؤسَّساتِه .. فهل يدركُ المسلمون هذا التحدِّي ويؤجِّلوا خلافاتِهم - ولو على الأقلَّ إلى حينٍ - ما دام العدوُّ المشترَكُ شاهرًا سلاحَه، إن تمزيقَ الأُمةِ المسلمة باللسانِ أو بالسِّنان لَمِن أعظمِ المخاطر التي يتحمَّلُ الغيورون المدرِكون للعواقبِ مسؤوليةَ دفعِها في ظلِّ هذا التوتُّرِ في المشاعرِ والعواطف.
ولا يَسُوغ بحالٍ أن نُخدعَ وننقلَ المعركةَ إلى داخل بلادِ المسلمين، فإنَّ ذلك يُسَرُّ له الأعداءُ، بل هو نجاحٌ نصنعُه لهم دون ثمن.
أيها المؤمنون: إنَّ التوظيفَ الصحيح للأحداثِ الواقعةِ اليومَ والمتوقَّعةِ غدًا يكون بعدَّة وسائلَ وبرامجَ وخططٍ مدروسةٍ، ومن ذلك:
1 -
إصلاحُ الذات، والنظرُ في العيوب، والتوبةُ من الذنوب، وإخلاصُ العمل وتجريدُ التوحيدِ لله ربِّ العالمين .. فكم غَفَلْنا وكم أسرفْنا على أنفُسِنا بالمعاصي، وهذه الأحداثُ والفتنُ النازلة مؤشراتٌ لأخطائِنا وذنوبِنا، وهي امتحانٌ لتوبتِنا ويَقَظتِنا، واللهُ تعالى في كتابِه الكريم يربطُ بين الذنوبِ والمصائبِ ويقول جلّ ذِكرُه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1).
وعن علي رضي الله عنه: «ما نزل بلاءٌ إلا بذنْبٍ، ولا رُفعَ إلا بتوبةٍ» فيا تُرى مَنْ منّا راجع نفسَه وتاب إلى ربه: «وكلُّ ابنِ آدم خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّاين التوَّابون» أم أن
(1) سورة الشورى، الآية:30.
الأكثريةَ منا مشغولةٌ بغيرِها ومتناسيةٌ لنفسها؟ ومَنْ منَّا زاد في عبادتِه لربِّه والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقول: «العبادةُ في الهَرْج - يعني القتل والفِتَن - كهِجْرة إليّ» ، ودَعُونا نطرحُ السؤالَ التالي وعليه يُقاسُ غيرُه على كلِّ واحدٍ منا: هل ما قرأتَ من كتابِ الله - في هذه الأيام - أكثرُ، أم ما قرأتَ من الصُّحف وتابعتَ من القَنَوات؟ وهل شكَوْنا إلى ربِّنا وتضرَّعْنا أم نسينا وقسَتْ قلوبُنا؟
وأنا هنا لا أَدعو إلى قلَّةِ الوعي .. ولكني أُشيرُ إلى خلَلٍ في التوازن بين الواجباتِ والمستحبَّات .. وإلى الاستجابةِ للعواطفِ أكثرَ من عملِ الصالحاتِ الباقيات - والتي بها تُدفَعُ الفتنُ وتُكشفَ النوازلُ والكُرُبات، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1).
ومما يلفت النظرَ أنه برَغمِ التشويهِ الذي حصل للعربِ والمسلمين إلا أن الإسلام بات ينتشرُ في أوساطِ غير المسلمين، ونقرأُ ونسمعُ هذه الأيامَ أن الغربيين أقبلوا على نَسْخِ المصاحفِ يطالعون في القرآنِ ونَفِدَت - أو كادت - الكتبُ التي تتحدَّث عن الإسلام، ومن يدري فقد تكون هذه الأحداثُ بدايةَ انطلاقةٍ كبرى للإسلامِ والمسلمين، فهل يستثمرُ المسلمون ذلك لصالحِ إسلامِهم ودعوتِهم.
2 -
السعيُ لإصلاحِ الآخرين وذلك بالدعوةِ إلى الله بكلِّ وسيلةٍ ممكنةٍ ومع كل طبقةٍ: الصغارِ والكبارِ، الرجالِ والنساءِ، الأغنياءِ والفقراء، المُثقَّفينَ والأُميِّين، داخلَ الحدودِ وخارجَها، وبالعربيةِ أو بغيرِها، وفي هذا الصددِ لابدَّ من إشعارِ المسلمين جميعًا أن قضيةَ الإسلام مسؤوليةٌ مشترَكةٌ لا يُعفَى أحدٌ من
(1) سورة الأنعام، الآيتان: 42، 43.
المساهمةِ في دفعِها ودَرْءِ المخاطر عن المسلمين إذا وقعتْ بهم نازلةٌ في أي مكان.
إننا نخطئُ حين نَحصُر الاهتمامَ بالدِّين والدعوةِ على فئةٍ معيَّنة نسمِّيها بـ (الملتزمين) فالأُمة كلُّها - وفي ظلِّ هذه الظروف - مطالبةٌ بنُصْرة الدين، وكلُّ مسلمٍ لا يخلُو من خيرٍ، والإيمانُ شُعَبٌ منها الظاهرُ ومنها الباطن، ورُبَّ ذي مَظهرٍ إيمانيٍّ وقلبُه خاوٍ أو غافلٍ، ورُبَّ ذي مَظْهرٍ لا يدلُّ على ما في قلبِه من خيرٍ، وما في عقلِه من حكمةٍ ورشد .. فهل نخسرُ هذه الطاقةَ، وهل يَسُوغُ لنا أن نحيِّدَ هذه الفئةَ عن الدعوة أو تُحيِّدَ هي نفسُها عن المشاركةِ في الدعوة بحُجَّة أن لديها تقصيرًا؟ لقد أعلنَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صريحةً عامةً حين قال:«مَن رأى منكم منكم مُنكَرًا فليغيِّرْه بيدِه، فإن لم يستطعْ فبلسانِه، فإن لم يستطعْ فبقلبِه» وأعلَنها كذلك بالبلاغ عنه ولو بآيةٍ: «بلِّغوا عنّي ولو آيةً» ، والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (2).
(1) سورة العنكبوت، الآية:6.
(2)
سورة فاطر، الآية:5.