الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين حكَمَ بإعجازِ القرآن فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (1).
وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه، لا شريكَ له، أبَانَ عن شفاءِ القرآن ورحمتهِ فقال:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (2).
وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه كان جبريلُ عليه السلام يدارسُه القرآنَ في رمضان، وحين يدارسُه القرآنَ يكونُ صلى الله عليه وسلم أجودَ بالخيرِ من الريحِ المرسَلَةِ - اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين.
إخوةَ الإسلام: إنَّ القرآنَ الكريمَ كتابُ هدايةٍ لمن أراد السيرَ على الصراطِ المستقيم: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3).
وكم ضَلَّت الأمّةُ المسلمةُ حين تنكَّبَتْ عن هَدْيِ القرآن، وكم ضاعَ المسلمون حين أضاعوا تعاليمَ القرآنَ؟
وفي القرآنِ أمانٌ واطمئنان، وراحةٌ وأنسٌ بالمَلِكِ الديّان، قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: إنَّ هذا القرآنَ مأدُبَةُ اللهِ، فمن دخل فيه فهو آمنٌ (4).
(1) سورة الإسراء، الآية:88.
(2)
سورة الإسراء، الآية:82.
(3)
سورة الشورى، الآية:52.
(4)
رواه ابن المبارك في الزهد (787)، وابن أبي شيبة 10/ 484.
ولقد كانَ المسلمون في أزمانِ العِزَّة يعيشون هذا الأمنَ بالقرآن، روى ابنُ المبارَكِ ووكيعٌ في ((الزهد)) بإسنادٍ صحيح عن أبي الأحوصِ الجُشَميِّ قال: إنْ كان الرجلُ ليَطرُقُ الفُسْطاطَ طُروقًا - أي: يأتيه ليلًا -، فيسمعُ لأهلِه دويًّا كدَوِيِّ النحل - أي: بالقرآن - قال: فما بالُ هؤلاء يَأمَنُون، ما كان أولئك يخافون (1).
وهذا رسولُ الهُدى صلى الله عليه وسلم يَشهَدُ للأشعريِّين بتميُّزِ أصواتِهم في القرآن، ويشهدُ لهم بالتلاوة، ويَعرِفُ بها منازلَهم من غيرِهم إذ يقول:((إني لأعرفُ أصواتَ رُفْقةِ الأشعريِّين بالليلِ حين يدخلون، وأعرفُ منازلَهم من أصواتِهم بالقرآنِ بالليل وإن كنتُ لم أرَ منازلَهم حين نزلوا بالنهار)) رواه البخاري ومسلم (2).
فأين الذين يُحْيُونَ الليلَ بالقرآنِ في رمضانَ أو غيرِ رمضان؟ أينَ الذين يُعطِّرون بيوتَهم بآياتِ القرآن، وهذا أبو هريرةِ رضي الله عنه يقول:((البيتُ الذي يُتلَى فيه كتابُ الله كَثُرَ خيرُه، وحضَرتْه الملائكةُ، وخرجتْ منه الشياطينُ، والبيتُ الذي لا يُتلَى فيه كتابُ الله ضاقَ بأهلِهِ، وقلَّ خيرُه، وحضرتْه الشياطينُ، وخرجت منه الملائكةُ)) (3).
آهٍ على بيوتِ المسلمين حين تَعُجُّ بالأصواتِ المُنكَرة، والصُّوَرِ الفاضحةِ، وتَرى فيها كلَّ شيء إلا بالقرآنَ .. أو ترى القرآنَ ولكن لا ترى عليه أثرًا للقراءةِ وكأنَّ البَرَكةَ تكفي لوجودِه ولو اتُّخِذَ مهجورًا.
يا أُمةَ القرآنِ: كتابُ الله تتسعُ له الصدورُ، وهو لها نورٌ وشفاءٌ، فكم في
(1) الزهد لابن المبارك 98، وكيع/ 52.
(2)
البخاري ح (4232)، مسلم ح (2499).
(3)
المحمود: خطب جمعة، ص 556.
أجوافِنا من القرآن؟ ولن يُعذِّبَ اللهُ قلبًا وَعَى القرآنَ، ومَن كان معه القرآنُ فلا أحدَ أكثرُ منه اغتِباطًا وعطاءً.
قال عبدُ الله بنُ عَمْرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما: مَن قرأَ القرآنَ فقد أُدرِجَتِ النبوةُ بين جنبيهِ إلا أنه يُوحَى إليه، ومَن قرأَ القرآنَ فرأى أحدًا من خَلْق اللهِ أُعطِيَ أفضلَ مما أُعطِيَ فقد حَضَرَ ما عظّمَ اللهُ وعظَّمَ ما حَضَرَ اللهَ، وليس ينبغي لحاملِ القرآن أن يَجهَلَ فيمن يجهَلُ، ولا يَحِدُّ فيمن يَحِدّ، ولكن يَعفُو ويصفحُ (1).
ألا فاعرِفوا قَدْرَكم يا أهلَ القرآن - والبابُ مفتوحٌ من الهِمّةِ والصِّدق والإخلاص لمن أرادَ أن يكونَ من أهلِ القرآن. ومساكينُ من يُمْضُون في قراءةِ الجرائدِ ونحوِها - كلَّ يوم - أضعافَ ما يُمضُونَه لقراءةِ القرآن.
ومساكينُ من يقفون على أقدامِهم أو يَجلِسون على الأرائِكِ الساعاتِ الطوالَ - بأحاديثَ أقلُّ ما يقالُ عنها: إنها ليست ذاتَ فائدةٍ كبيرةٍ، ثم هؤلاء تراهم يتضايقون حين يَجلِسون دقائقَ معدودةً لقراءةِ القرآن؟
كم هو مؤلمٌ حين يُفرِّطُ الدعاةُ وطلبةُ العلم في وِرْدِهم اليوميِّ من كتابِ الله لأدنى الأسباب!
وكم هو مؤلمٌ حين تتقلَّصُ صِلةُ أقوامٍ بالقرآنِ من رمضانَ إلى رمضانَ أو من الجمعةِ إلى الجمعةِ؟ أو في المناسباتِ والاحتفالات؟ وكم هو مؤلمٌ حين تسمعُ لقراءةِ طالبٍ أو طالبةٍ في الجامعة .. وكأنه أعجميٌّ إذ يقرأُ القرآنَ، وأشدُّ من ذلك إيلامًا حين يقعُ اللَّحنُ في القرآنِ من المعلِّمين والمعلِّمات .. وكيف يَفقَهُ القرآنَ ويتدبَّرُه من لا يقيمُ حروفَه ويستقيمُ له نُطْقُه؟
إننا بحاجةٍ جميعًا إلى أن نراجعَ صِلَتَنا بالقرآنِ رجالًا ونساءً مُعلِّمين
(1) الزهد لابن المبارك (275).
ومتعلِّمين، دعاةً ومُربِّين، وعلماءَ وعامَّةً .. ألا فلنجعلْ من رمضان نقطةَ الانطلاق، ولنأخُذْ على أنفسِنا أن يكونَ لنا وِرْدٌ يوميٌّ في القرآنِ .. أولئك يَحفظُهم اللهُ بالقرآن، وتستنيرُ قلوبُهم - كلَّ يومٍ - بالقرآن.
عبادَ الله: وحين نَغبِطُ الذين يُعلِّمون القرآنَ والرسولُ صلى الله عليه وسلم يشهدُ لهم بالخيريّةِ ويقول: ((خيرُكم مَن تَعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَه)) نشدُّ على أيديهم بعدمِ المللِ واليأسِ، ونذكِّرُهم بأمثالِ أبي عبد الرحمنِ السُّلَميِّ التابعيِّ رحمه الله حيث جلس يُعلِّمُ الناسَ القرآنَ سبعين سنةً.
ونُذكِّر أهلَ القرآن عامةً بوصيَّةِ أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه حين جمع ثلاثَمائةٍ من قُرّاءِ البصرة وقال لهم: أنتم خيارُ أهلِ البصرة وقرَّاؤُهم فاتْلُوه، ولا يَطُولَنَّ عليكم الأمدُ فتَقسُو قلوبُكم كما قستْ قلوبُ مَن قبلَكم. ونذكِّرُهم أن يهتَدُوا بهَدْي القرآن، وأن يَدْعُوا غيرَهم لهَدْي القرآن.
يا عبدَ الله: فإنْ لم تستطعْ أن تكونَ من مُعلِّمي القرآنِ بنفسِك وعلمِك، فلتكن معلِّمًا للقرآن بدَعْمِك ومالِك، فالدالُّ على الخيرِ كفاعلِه، ومَن جهّزَ غازيًا فقد غزا، والله يقول:{تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} .
يا أُمةَ القرآن .. هذا هو شهرُ القرآنِ فهل تُستنهَضُ الهِممُ في رمضان .. وهل نأخذُ على أنفسِنا العهدَ بالاهتداءِ بالقرآن، وتلاوةِ القرآن، وتعليمِ القرآن، والدعوةِ للقرآن .. ذاك كسبٌ عظيمٌ، وتلك نفحةٌ مباركَةٌ من نَفَحاتِ شهرِ الصيام، ومَن تَزكَّى فإنما يتزكَّى لنفسِه .. ومن أبصرَ فلنفسِه، ومن عميَ فعليها.