الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجنائز والقبور مشاهد صامتة
(1)
الخطبةُ الأولى:
إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا.
إخوةَ الإيمان: حَكَم اللهُ بالفناءِ على هذه الدنيا بما فيها من الحياةِ والأحياءِ وكتبَ له البقاءَ وحدَه، فقال:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (2)، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (3).
والعِبرةُ بما بعدَ الموتِ، ومن وصايا أبي عُبيدةَ عامرِ بن الجرَّاح رضي الله عنه حين حضرتْه الوفاةُ بالشام على إثرِ إصابتِه بالطاعون في أرضٍ يُقال لها (عَمَواس) حين جمعَ المسلمين مودِّعًا لهم فقال:
إنِّي مُوصِيكم بوصيةٍ فاقبَلُوها، فإنكم لن تزالوا بخيرٍ ما بقيتُم متمسِّكين بها وبعد موتِكم: أقِيموا الصلاةَ وآُتوا الزكاةَ، وصوموا وتصدَّقوا، وحُجُّوا، وتواضَعُوا، وتباذَلُوا، وتواصَوْا، وانصَحُوا أمراءكَم، ولا تغرَّنَّكم الدنيا، فإن أحدَكم لو عُمِّر ألفَ سنةٍ ما كان به بدٌّ من أن يصيرَ إلى مثلِ مَصِيري هذا الذي
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 11/ 11/ 1422 هـ.
(2)
سورة القصص، الآية:88.
(3)
سورة الرحمن، الآيتان: 26، 27.
تَروْنَ، لأنَّ الله قد كتبَ الموتَ على بني آدم فهمُ مُتَوفَّوْنَ، وأكْيسُهم أطوَعُهم لربِّه وأعملُهم ليومِ معادِه (1).
ثم استخلفَ من بعدِه معاذَ بنَ جبلٍ رضي الله عنه ليُصلِّيَ بالمسلمين وشاء الله - بعد فترةٍ وجيزةٍ من الزمن - أن يلحقَ معاذٌ بأخيه أبي عُبَيدة وأن يصيبَه ما أصاب صاحبَه .. وعلى فراشِ الموتِ، والناسُ يَغْدُون على معاذٍ يزورونَه ويدْعُونَ له بالعافيةِ والسلامة، كان يَعِظُهم ويذكِّرهم، ومما قاله لهم:
أيها الناسُ: اعملوا وأنتم تستطيعون العملَ من قبلِ أن تتمنَّوا العملَ فلا تجدونَ إلى ذلك سبيلًا، أيها الناس: أَنفِقُوا مما عندَكم ليومِ مَعادِكم من قبلِ أن تَهلِكوا وتَذرُوا ذلك كلَّه ميراثًا .. ثم أوصاهم بالعلمِ تَعلُّمًا وتعليمًا وأبان لهم عن شيءٍ من فضلِ العلم، وفضائلِ العلماءِ حين قال: عليكم بطلبِ العلمِ فاطلُبوه وتعلَّموه فإنَّ طلبَه عبادةٌ، وتعلُّمَه لله خَشْيةٌ، ومذاكرتَه تسبيحٌ، والبحثَ عنه جهادٌ، وتعليمَه لمن لا يعلمُه صَدَقةٌ، وبذْلَه لأهلِه قُربةٌ .. إلى قوله: يرفع اللهُ عز وجل بالعلم أقوامًا فيجعلُهم في الخيرِ قادةً يُقتدَى بهم، وأئمةً في الخير يُقتَصُّ آثارُهم، ويُهتدَى بهدايتِهم وأفعالِهم، ويُنتَهى إلى رأيهم، ترغبُ الملائكةُ في خُلَّتِهم، وبأجنحتِها تمسحُهم، يستغفرُ لهم كلُّ رطبٍ ويابسٍ، وحيتانُ البحرِ وهوامُّه، وسباعُ البرِّ وأنعامُه، لأن العلمَ حياةُ القلوبِ من العَمَى ونورُ الأبصار من الظُّلمة، وقوةُ الأبدانِ من الضعف، يبلغُ العبدُ بالعِلم منازلَ الأبرار، ومنازلَ الملوك، والدَّرجاتِ العُلى في الدنيا والآخرة .. ألا وإن المتقينَ سادةٌ، والفقهاءَ قادةٌ (2).
(1) الفتوح لابن أعثم الكوفي 1/ 238.
(2)
المصدر السابق 1/ 242، 243.
أيها المسلمون: كم تَنزِلُ بنا نوازلُ الموتِ من قريبٍ أو بعيدٍ، أو عالِمٍ أو عاميٍّ، ومن ذكرٍ أو أنثى، صغيرٍ أو كبيرٍ .. فهل تُحرِّكُ قلوبَنا للطاعةِ والتوبة، وهل نتذكَّرُ بها مقامَ الصِّدِّيقين والشهداءِ، ومنازلَ الفجارِ ومصيرَ الأشقياء هل نعتبرُ بمن مات فيكونَ الدرسُ بليغًا، والعبرةُ مُوقِظةً، وهل نتذكرُ أن الجنائزَ المحمولةَ يومًا كانت حاملةً.
إن مشاهدَ القبورِ دروسٌ صامتة، وكم في القبورِ من وَحْشةٍ وأُنْس، ونعيمٍ أو عذاب، وإن عَفَى عليها الزمنُ، وتحوَّلتِ العظامُ إلى رميمٍ، واللحمُ الطريُّ إلى مخازنَ للدُّود؟
أجل إن الجنازةَ المحمولةَ موعِظةٌ للحامِلين، وذِكْرى للغافلين، وغدًا أو عن قريبٍ سيكونُ الحاملون للجنازةِ محمولِين.
ولكن السؤالَ المهمَّ: ماذا حَمَلتِ الجنازةُ إلى مَثْواها الأخيرِ؟
إنها لا تحملُ من الدنيا شيئًا ولو كان صاحبُها يملكُ القناطيرَ المقنطرةَ من الذهب والفضةِ والنقودِ والعَقَار والأنعامِ والحَرْثِ، ولا تحملُ من البأسِ شيئًا ولو كان صاحبُها - من قبلُ - من أشجعِ الناسِ وأحكمِ الناس وأصبرِ الناسِ وأكثرِهم دهاءً وحِيلةً، وما أضعفَ موقفَ صاحبِ الجنازةِ حين السؤالِ وليس له من مُجِيرٍ ولو كان في الدنيا يُحاطُ بالبنينِ والحَشَم والخدم، ولو كان صاحبَ جاهٍ وسلطانٍ وصولجانٍ وخِلَّان {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} (1)، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (2) وما أعظمَ الهولَ حين يُنفَخُ في الصورِ، وربُّنا تبارك وتعالى يقول:
(1) سورة سبأ، الآية:42.
(2)
سورة المدثر، الآية:38.
عبادَ الله: إن مشاهدَ الموتى وأخبارَ الجنائزِ موقِظةٌ للقلوبِ الحيَّة، فكيف إذا كانت الجنازةُ مشهودةً، والميِّتُ عالِمًا من علماءِ السُّنّة، ومن أهلِ الجهادِ بالكلمة؟
إن موتَ عالِمٍ ثُلْمةٌ في الدِّين، والخَطْبُ أعظمُ حين تكون الأُمةُ المسلمةُ محاطةً بالخُطوب، مهدَّدةً من قِبَلِ الأعداءِ.
إن الأمةَ في ظرفِ محنتِها وفي أحوالِ شدائدِها أحوجُ ما تكون إلى علماءَ صادقين يقوُّون من عزائِمها، ويدافعون عن حِياضِ عقيدتِها، يُنبِّهون إلى مكرِ الأعداء، ويكشِفون للأُمة خُططَ الأدعياء؟
إن حاجةَ الأمةِ ماسَّةٌ إلى كلمةِ حقٍّ يُدافَعُ بها عن غَشمٍ ويُنتصَرُ بها لمظلوم.
أما حين تجتمعُ المِلَلُ الكافرةُ على الإسلامِ وأهلِه، فتلك النازلةُ تحتاج إلى رصِّ الصفوف، وتوحيدِ السِّهام، وجمعِ الكلمةِ واستثمارِ كلِّ طاقةٍ في الأُمة.
كم هو مؤلمٌ حين تُصبِحُ البلادُ الإسلاميةُ مَرتَعًا لخُططِ العَلْمنة والتغريب، وهدفًا للعولمةِ وطمسِ الهويةِ المسلمةِ، هنا يلتفتُ الناسُ بحثًا عن منقِذِين للسفينةِ قبلَ الغرق، وحفاظًا على الأرواحِ قبل أن تُزهَقَ، وعلى القيمِ والمبادئِ الإسلاميةِ قبل أن تُلوَّثَ أو تُجتَثَّ؟ !
وما أَحْرى العلماءَ والدعاةَ وطلبةَ العلمِ بالقيام بهذا الدَّورِ، فهم مصابيحُ
(1) سورة المؤمنون، الآيات: 101 - 104.
الهدى، وعليهم أُخِذَ الميثاقُ بالبيانِ وعدمِ الكِتْمان - ولكن ذلك لا يُعفِي غيرَهم من المسؤوليةِ والبيانِ ((فمنَ رأى منكم مُنكَرًا فليغيِّرْه بيدِه، فإن لم يستطعْ فبلسانِه، فإن لم يستطعْ فبقلبِه وذلك أضعفُ الإيمان)).
إن الناظرَ في واقعِنا اليومَ لَيُدرِكُ أن الأمةَ مستهدَفةٌ في عقيدتِها وقيمِها، بل وفي أصلِ وجودِها، والنائمون إذا لم يستيقِظوا على هذه الضَّرباتِ الموجِعةِ هنا وهناك فمتى يستيقظون؟ لا سيما وأعداءُ المِلَّةِ قد أعلَنُوها وقد رسموا فصولَها وحدَّدوا مراحلَ وأولوياتٍ لضرب العالمِ الإسلاميِّ والدعواتِ الإسلامية؟ وإذا كانت الحركاتُ الجهاديةُ هدفَهم الأولَ، فستكون الحركاتُ والمنظَّماتُ والهيئاتُ الإسلامية هدفَهم الآخِر، ويمكرون ويمكرُ الله واللهُ خيرُ الماكرين، وصدق اللهُ:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1).
(1) سورة التوبة، الآيتان: 32، 33.