الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، أحمدُه تعالى وأشكرُه وأُثْني عليه الخيرَ كلَّه ..
أيها المؤمنون:
1 -
وليس يَخْفَى أن الحملةَ على المرأةِ والتشكيكَ بالقيمِ، قديمةٌ، ومَن تتبَّع ما نُشِر في الصحف -قديمًا- رأى أن طبولَ الحربِ كانت تُقرَعُ منذُ زمنٍ، ولا مانعَ من ذكرِ نموذجٍ عاصره سماحةُ شيخِنا العلامةُ عبدُ العزيز بنُ باز رحمه الله، وكانت له فيه وقفةٌ حَفِظَها التاريخُ، وفتوى مدوَّنةٌ في الكتب، ففي عام 1412 هـ كتبتْ كاتبةٌ في جريدةِ عُكَاظ تنتقدُ من يعتقدُ أن المرأة ناقصةُ عقلٍ ودينٍ، وأن الرجالَ قوَّامونَ على النساء؟ فأصدرَ الشيخُ فتواه بالكاتبةِ والجريدةِ وهذا نصُّها:«لقد دُهِشتُ لهذا المقالِ الشنيع، واستغربتُ جدًا صدورَ ذلك في مهبطِ الوحي، وتحتَ سمعِ وبصرِ دولةٍ إسلامية تُحكَمُ بالشريعةِ الإسلامية وتدعو إليها، وعجبتُ كثيرًا من جُرأةِ القائمين على هذه الجريدةِ، حتى نشروا هذا المقالَ الذي هو غايةٌ في الكفرِ والضلالِ والاستهزاء بكتابِ الله وسنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، والطعنَ فيهما» ثم قال عن الجريدةِ: «وليس هذا ببِدْعٍ على القائمينَ على هذه الصحيفةِ، فقد عُرِفَتْ بنشرِ المقالاتِ الداعيةِ إلى الفسادِ والإلحادِ والضَّررِ العظيمِ على المجتمع، كما عُرِفَت بالحقدِ على علماءِ الإسلام والاستطالةِ في أعراضِهم والكذبِ عليهم» .
واختتم الشيخُ رحمه الله فتواه الطويلةَ بقوله: إن هذه الصحيفة قد تجاوزتِ الحدودَ واجترأتْ على محاربةِ الدِّين والطعنِ فيه بهذا المقالِ الشنيع جرأةً لا يجوزُ السكوتُ عنها، ولا يَحِلُّ لوزارةِ الإعلام ولا للحكومةِ الإغضاءُ عنها، بل يجبُ قطعًا معاقبتُها معاقبةً ظاهرةً بإيقافِها عن الصدور، ومحاكمةِ صاحبةِ الَمقالِ،
والمسؤولِ عن تحريرِ الصحيفة، وتأديبُهما تأديبًا رادعًا، واستتابتُهما عما حصلَ منهما؛ لأنَّ هذا المقالَ يُعتبَرُ من نواقضِ الإسلام، ويوجِبُ كفرَ ورِدَّةَ مَن قاله أو اعتقده أو رضيَ به، لقوله تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (1) فإنْ تابت، وإلا وجبَ قتلُهما لكفرِهما ورِدَّتِهما» (2).
وفي هذا الزمنِ تُثارُ الأسئلةُ التالية: هل توقَّفتْ هذه الجريدةُ عن هذه الحربِ؟ وما الفرقُ كمًّا ونوعًا بين ما نشرتْه في الماضي وما تنشرُه ومثيلاتُها في هذه الأيام؟ وهل نسمعُ فتاوى ومطالبةً بالمحاكمةِ لكتَّابٍ وكاتباتٍ من أمثالِ هؤلاء من العلماءِ المعاصرين؟ وإلى متى يستمرُّ نشرُ الفجورِ والفسوقِ والسخريةِ والاستهزاءِ بأحكام الشرع وحملتِه في بلاد الحرمين الشريفين؟ ! لقد بلغَ السيلُ الزُّبى، وآن الأوانُ لوقفةٍ جادَّةٍ تضعُ حدًّا للموتورينَ وتنتصرُ للحقِّ وأهلِه، وتقمعُ الباطلَ وجندَه، فمَن يا تُرى يَنذُرُ نفسَه لهذه المهمَّةِ الجليلة؟ وهذا جزءٌ من واجبِنا جميعًا في إنكارِ المنكَر والردِّ على المبطِلين، فالعالِمُ يُفتي ويكتب، وغيره يُطالِب ويتابع.
2 -
وجزءٌ آخرُ من واجبِنا تجاهَ هذه الحَمَلاتِ والحَرَكات أن نُسهِمَ في الدفاعِ عن الأعراض، ونمنعَ بقَدْرِ المستطاع أن تصيرَ بلادُنا إلى مثلِ ما صارتْ إليه البلادُ الأخرى، فالمرأةُ -بلا شكٍّ- إذا تُرِكَت لدَعَواتِ المُغرِضين -بأهدافِهم السيئةِ ووسائِلهم المنكَرة- ستصبح بوابةً كبرى للفسادِ، وما نَطَقَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم عن الهوى وهو القائل:«ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجالِ من النساءِ» (متفق عليه).
(1) سورة التوبة، الآيتان: 65 - 66.
(2)
مجلة البحوث عدد 32 سنة 1412 هـ.
ونحنُ لا نتعاملُ مع المرأةِ -دائمًا- على أنها فتنةٌ، بل عضوٌ صالحٌ في المجتمع، في إطارِ القِيَمِ العاليةِ وتعاليمِ الشريعة السَّمْحة، ولكنَّ هؤلاء يُريدونَها فتنةً وعارضةَ أزياء؟
إنَّ غَيْرتَنا على المحارمِ لا تَقِلُّ بل تزيدُ وتُهذِّب من غَيْرةِ الرجلِ الجاهليِّ الذي كان يتصرَّفُ خطأً وجهلًا بقتِلها خَشْيةَ العارِ أو خشيةَ الفقر، وسلوا {بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (1) تجدونَ خلفَها شهامةً جاهليةً نريد نحنُ المسلمين أن نحميَها دُرَّةً مصونةً عن عَبَثِ العابثين، وحين نستنكرُ قتلَ أهلِ الجاهلية الأولى للمرأةِ قتلًا حِسِّيًا، فإننا نستنكرُ قتلَ الجاهليةِ المعاصرة لها قِيَميًّا وأخلاقيًا.
3 -
ومن واجبِنا أن تتظافرَ جهودُنا مع علمائِنا ومشايخِنا في الاستنكارِ والمدافعةِ لكلِّ باطل مُلبَّس، والعلماءُ -كِبارًا وصغارًا- يُوصُون الجميعَ هذه الأيامَ بالاستمرارِ في الإنكار، وإبلاغِ الصوتِ للمسؤولين- بعقلٍ وحِكْمة وقوةٍ واستمرار، لا يُضعِفُها عباراتُ التهدئة ولا يُخفِّفُ منها التصريحاتُ والمقابلاتُ المسكِّنة وقتيًا، فقد عوَّدَتْنا الأيامُ- أن يَهدأَ هؤلاء المُغرضون حين يتحرَّك الخيِّرون، ويَحُنون رؤوسَهم للعاصفة، وهم فيما بينهم يقولونَ: إنها مجرَّدُ عواطفَ ثم تنتهي، وحماسٌ وقتيٌ لا بدَّ أن نستَلَّه، ثم نمضي بعد حينٍ في مواصلةِ المَسِير، وتحقيقِ المخطَّطِ المرسوم خطوةً خطوةً، ومما يَسُّر ويُبطِلُ هذا الكيدَ المؤجَّل، ما فَهِمناه من العلماءِ أنهم سيستمرُّون على مواقفِهم القويةِ واستنكارِهم ولو طالَ الزمانُ حتى يُعادَ الحقُّ إلى نصابِه، ويُنزعَ فتيلُ الفتنةِ من جذورِه.
وأنتم معاشرَ المسلمين -بمواقفِكم واستمرارِ جهادِكم وتنوُّعِ جهودِكم- رافدٌ
(1) سورة التكوير، الآية:9.
قويٌ للعلماء، لقد أعلنَ العلماءُ قَلَقَهم لما حَدَث، واستغرابَهم لما وقع، ومفاجأتَهم بما صار، وأخذوا على عاتِقِهم الوقوفَ في وجهِ هذا الطُّوفانِ، وبالتفاهمِ مع المسؤولين بما يحقِّقُ مصلحةَ البلادِ والعباد، وكشْفَ عَوَرِ من يريدُ بهذا المجتمعِ سوءًا، ورَدْعَهم وتأديبَهم، وبالمطالبةِ بكل ما يُحققُ الخيرَ ويصدُّ الشرورَ والفتنَ، وأوصَوْا بأن يتحمَّلَ كلُّ مسلمٍ مسؤوليتَه في الإنكارِ بالطرق المشروعة، وحذَّروا من القيام بأعمالٍ غير مدروسةٍ ولا حكيمةٍ تضرُّ ولا تنفع.
يا أخا الإسلام: فإن قال قائلٌ: وبإزاءِ هذا المنكَرِ أو غيرِه ماذا نصنعُ؟ أُجيب: لو كان أمرًا دُنْيويًا لفكرتَ مليًّا ثم وجدتَ الوسيلةَ المناسبةَ لإسهامِكم، أفيكونُ الدينُ عندَكَ أقلّ شأنًا {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (1) لكنْ نُوصِيكَ بالحكمةِ في الأمرِ والنهي، والرِّفقِ فيما تعملُ أو تَدَعُ، واستخدامِ الطُّرقِ المشروعة، والقنواتِ الرسمية، والمشورةِ لأهل العلم، والنُّصح للمسؤولين، والزيارةِ، والمهاتَفَةِ، والكتابةِ، وتوضيحِ الحقِّ وكشفِ الباطل عبرَ المحاضرةِ والندوةِ والمطويَّةِ والكتاب، والعنايةِ بالبرامجِ البيتية، والتوجيهِ عبرَ مُلتقَياتِ الأسرة، والعنايةِ بالحصانةِ الفكرية، ومقاومةِ أسبابِ الفاحشةِ، والتفكيرِ الجادِّ في إيجادِ منابرَ ومحاضنَ مطمئنةٍ لتربيةِ الناشئةِ من الجنسين، لا بدَّ من تعميمِ الوَعْي والشعورِ بجرأة الخطوةِ وما وراءَها، وعدمِ القناعة بأنصافِ أو جزئياتِ الحلول.
أيتها المرأة أُمًا وبنتًا وزوجةً وأختًا، طالبةً ومعلمة وموظَّفةً وربّةَ منزل، لا تكتفي بحديث الآخرينَ عنكِ، هل أنتِ راضيةٌ عن هذه الخُطوةِ؟ ماذا صنعتِ في قرارٍ يخصُّكِ أكثرَ من غيرك؟ هل وصلتْ وجهةُ نظرِك للآخرين؟ وهل مَن تحدَّثَ
(1) سورة الطلاق، الآية:2.
من الصحفيين والصحفيات يُعبِّرُ عنكنَّ؟ لكِ الحقُّ أن يُسمَعَ منك كما سُمع من غيرِك، وتستطيعين التعبيرَ عن وجهةِ نظرِكِ بأيِّ وسيلةٍ ترينَها مناسبةً ومشروعةً في المنزلِ والمدرسة، وعبرَ الهاتفِ أو الجريدةِ أو الرسالةِ، وبالمحاضرةِ والندوة.
أيها المسلمون: اتقوا اللهَ فيما تعملون وما تدعون، وليقدِّرْ كلٌّ منكم مسؤوليتَه أمامَ الله، وواجبَه أمامَ أهلِه وعشيرتِه، وحقوقَ الولاةِ والمجتمع عليه من النُّصحِ والمشورة، وليؤدِّ دورَه في فضحِ المُبْطِلين، وكشفِ مَن يريد للبلادِ والعبادِ سوءًا، اللهمَّ احفَظْ بلادَنا وبلادَ المسلمين من كل سوءٍ ومكروه، واجعلْ هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا وسائر بلادِ المسلمين.