الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَوْ أَرَادَ الْخَوْضَ فِيهِ بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ أَوْ قَدِيمٌ أَوِ الْمُجَادَلَةَ فِي الْآيِ الْمُتَشَابِهَةِ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْجُحُودِ فَسَمَّاهُ كُفْرًا بِاسْمِ مَا يخاف عاقبته انتهى
وقال الإمام بن الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ الْمِرَاءُ الْجِدَالُ وَالتَّمَارِي وَالْمُمَارَاةُ الْمُجَادَلَةُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ وَيُقَالُ لِلْمُنَاظَرَةِ مُمَارَاةٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَخْرِجُ مَا عِنْدَ صَاحِبِهِ وَيَمْتَرِيهِ كَمَا يَمْتَرِي الْحَالِبُ اللَّبَنَ مِنَ الضَّرْعِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ لَيْسَ وَجْهُ الْحَدِيثِ عِنْدَنَا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي التَّأْوِيلِ وَلَكِنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ عَلَى حَرْفٍ فَيَقُولَ الْآخَرُ لَيْسَ هُوَ هَكَذَا وَلَكِنَّهُ عَلَى خِلَافِهِ وَكِلَاهُمَا مُنَزَّلٌ مَقْرُوءٌ بِهِ فَإِذَا جَحَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِرَاءَةَ صَاحِبِهِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يُخْرِجُهُ إِلَى الْكُفْرِ لِأَنَّهُ نَفَى حَرْفًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ
وَقِيلَ إِنَّمَا جَاءَ هَذَا فِي الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْقَدَرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَعَانِي عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَأَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ وَالْآرَاءِ دُونَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَأَبْوَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ وَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ ظُهُورَ الْحَقِّ لِيُتَّبَعَ دُونَ الْغَلَبَةِ وَالتَّعْجِيزِ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ أَنْ يَرُومَ تَكْذِيبَ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ لِيَدْفَعَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمُتَخَالِفِينَ عَلَى وَجْهٍ يُوَافِقُ عَقِيدَةَ السَّلَفِ فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَلْيَكِلْهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ هُوَ الْمُجَادَلَةُ فِيهِ وَإِنْكَارُ بَعْضِهَا انْتَهَى
(بَاب فِي لُزُومِ السُّنَّةِ)
(عَنْ حَرِيزٍ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وكسر الراء وآخره زاي (بن عُثْمَانَ) الرَّحْبِيِّ الْحِمْصِيِّ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْكِتَابِ جَرِيرٌ بِالْجِيمِ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّ جَرِيرَ بْنَ عُثْمَانَ بِالْجِيمِ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ أَحَدًا مِنَ الرُّوَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ (أُوتِيتُ الْكِتَابَ) أَيِ الْقُرْآنَ (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) أَيِ الْوَحْيَ الْبَاطِنَ غَيْرَ الْمَتْلُوِّ أَوْ تَأْوِيلَ الْوَحْيِ الظَّاهِرِ وَبَيَانَهُ بِتَعْمِيمٍ وَتَخْصِيصٍ وَزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ أَوْ أَحْكَامًا وَمَوَاعِظَ وَأَمْثَالًا تُمَاثِلُ الْقُرْآنَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ أَوْ فِي الْمِقْدَارِ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أُوتِيَ مِنَ الْوَحْيِ الْبَاطِنِ غَيْرِ الْمَتْلُوِّ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مِنَ الظَّاهِرِ الْمَتْلُوِّ وَالثَّانِي أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أُوتِيَ الْكِتَابَ وَحْيًا يُتْلَى وَأُوتِيَ مِثْلَهُ مِنَ الْبَيَانِ أَيْ أُذِنَ لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا فِي الْكِتَابِ
فَيَعُمَّ وَيَخُصَّ وَأَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ فَيُشَرِّعَ مَا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ لَهُ ذِكْرٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ وَلُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ كَالظَّاهِرِ الْمَتْلُوِّ مِنَ الْقُرْآنِ (أَلَا يُوشِكُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُحْذِّرُ بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ السُّنَنِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَوَارِجُ وَالرَّوَافِضُ مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ فَإِنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَتَرَكُوا السُّنَنَ الَّتِي ضُمِّنَتْ بَيَانَ الْكِتَابِ فَتَحَيَّرُوا وَضَلُّوا انْتَهَى (رَجُلٌ شَبْعَانُ) هو كناية عن البلادة وسوء الفهم الناشىء عَنِ الشِّبَعِ أَوْ عَنِ الْحَمَاقَةِ اللَّازِمَةِ لِلتَّنَعُّمِ وَالْغُرُورِ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ (عَلَى أَرِيكَتِهِ) أَيْ سَرِيرِهِ الْمُزَيَّنِ بِالْحُلَلِ وَالْأَثْوَابِ وَأَرَادَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَصْحَابَ التَّرَفُّهِ وَالدَّعَةِ الَّذِينَ لَزِمُوا الْبُيُوتَ وَلَمْ يَطْلُبُوا الْعِلْمَ مِنْ مَظَانِّهِ (فَأَحَلُّوهُ) أَيِ اعْتَقَدُوهُ حَلَالًا (فَحَرَّمُوهُ) أَيِ اعْتَقَدُوهُ حَرَامًا وَاجْتَنَبُوهُ (أَلَا لَا يحل لكم) بيان للقسم الَّذِي ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ (وَلَا لُقَطَةُ) بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ مَا يُلْتَقَطُ مِمَّا ضَاعَ مِنْ شَخْصٍ بِسُقُوطٍ أَوْ غَفْلَةٍ (مُعَاهَدٍ) أَيْ كَافِرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ بِأَمَانٍ وَهَذَا تَخْصِيصٌ بِالْإِضَافَةِ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي لُقَطَةِ الْمُسْلِمِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى (إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا) أَيْ يَتْرُكَهَا لِمَنْ أَخَذَهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا (فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ أَيْ يُضَيِّفُوهُ مِنْ قَرَيْتُ الضَّيْفَ إِذَا أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ (فَلَهُ أَنْ يَعْقُبَهُمْ) مِنَ الْإِعْقَابِ بِأَنْ يَتْبَعَهُمْ وَيُجَازِيَهُمْ مِنْ صَنِيعِهِ
يُقَالُ أَعْقَبَهُ بِطَاعَتِهِ إِذَا جَازَاهُ وَرُوِيَ بِالتَّشْدِيدِ يُقَالُ عَقَّبَهُمْ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا وَأَعْقَبَهُمْ إِذَا أَخَذَ مِنْهُمْ عُقْبَى وَعُقْبَةً وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ بَدَلًا عَمَّا فَاتَهُ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (بِمِثْلِ قِرَاهُ) بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ أَيْ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عِوَضًا عَمَّا حَرَّمُوهُ مِنَ الْقِرَى
قِيلَ هَذَا فِي الْمُضْطَرِّ أَوْ هُوَ مَنْسُوخٌ وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَا حَاجَةَ بِالْحَدِيثِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْكِتَابِ وَأَنَّهُ مَهْمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ كَانَ حُجَّةً بِنَفْسِهِ فَأَمَّا مَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ إِذَا جَاءَكُمُ الْحَدِيثُ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ وَافَقَهُ فَخُذُوهُ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ
وَقَدْ حَكَى زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ
قال المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ أَتَمُّ مِنْ حَدِيثِهِمَا
(لا ألفين) أي لاأجدن مِنْ أَلْفَيْتُهُ وَجَدْتُهُ (مُتَّكِئًا) حَالٌ (عَلَى أَرِيكَتِهِ) أَيْ سَرِيرِهِ الْمُزَيَّنِ (يَأْتِيهِ الْأَمْرُ) أَيِ الشَّأْنُ من شؤون الدِّينِ (مِنْ أَمْرِي) بَيَانُ الْأَمْرِ وَقِيلَ اللَّازِمُ فِي الْأَمْرِ زَائِدَةٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِي (مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ) بَيَانُ أَمْرِي (لَا نَدْرِي) أَيْ لَا نَعْلَمُ غَيْرَ الْقُرْآنِ وَلَا أَتَّبِعُ غَيْرَهُ (مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ) مَا مَوْصُولَةٌ أَيِ الَّذِي وَجَدْنَاهُ فِي الْقُرْآنِ اتَّبَعْنَاهُ وَعَمِلْنَا بِهِ
وَلَقَدْ ظَهَرَتْ مُعْجِزَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَقَعَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ فَإِنَّ رَجُلًا خَرَجَ مِنَ الْفِنْجَابِ مِنْ إِقْلِيمِ الْهِنْدِ وَانْتَسَبَ نَفْسَهُ بِأَهْلِ الْقُرْآنِ وَشَتَّانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْقُرْآنِ بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ فَأَضَلَّهُ الشَّيْطَانُ وَأَغْوَاهُ وَأَبْعَدَهُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَتَفَوَّهَ بِمَا لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فَأَطَالَ لِسَانَهُ فِي إِهَانَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَدَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ بِأَسْرِهَا وَقَالَ هَذِهِ كُلُّهَا مَكْذُوبَةٌ وَمُفْتَرَيَاتٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعَمَلُ عَلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَقَطْ دُونَ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً مُتَوَاتِرَةً وَمَنْ عَمِلَ عَلَى غَيْرِ الْقُرْآنِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هم الكافرون وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ الْكُفْرِيَّةِ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ وَجَعَلَهُ إِمَامًا وَقَدْ أَفْتَى عُلَمَاءُ الْعَصْرِ بِكُفْرِهِ وَإِلْحَادِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ وَالْأَمْرِ كَمَا قَالُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَيْضًا فِي الْحَدِيثَيْنِ تَوْبِيخٌ مِنْ غَضَبٍ عَظِيمٍ عَلَى مَنْ تَرَكَ السُّنَّةَ اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِالْكِتَابِ فَكَيْفَ بِمَنْ رَجَّحَ الرَّأْيَ عَلَيْهَا أَوْ قَالَ لَا عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَ بِهَا فَإِنَّ لِي مذهبا أتبعه
قال المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ مُرْسَلًا
(عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أَيِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه (مَنْ أَحْدَثَ) أَيْ أَتَى بِأَمْرٍ جَدِيدٍ (فِي أَمْرِنَا هَذَا) أَيْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ (مَا لَيْسَ فِيهِ) أَيْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَنَدٌ ظَاهِرٌ أَوْ خَفِيٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فَهُوَ) أَيِ الَّذِي أَحْدَثَهُ (رَدٌّ) أَيْ مَرْدُودٌ وَبَاطِلٌ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَقْدِ نِكَاحٍ وَبَيْعٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُقُودِ فَإِنَّهُ مَنْقُوضٌ مَرْدُودٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَهُوَ رَدٌّ يُوجِبُ ظَاهِرُهُ إِفْسَادَهُ وَإِبْطَالَهُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الظَّاهِرِ فَيَنْزِلُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ لِقِيَامِ الدليل فيه انتهى (قال بن عِيسَى) هُوَ مُحَمَّدٌ (مَنْ صَنَعَ أَمْرًا) أَيْ عَمِلَ عَمَلًا (عَلَى غَيْرِ أَمْرِنَا) أَيْ لَيْسَ فِي دِينِنَا
عَبَّرَ عَنِ الدِّينِ بِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الدِّينَ هُوَ أَمْرُنَا الَّذِي نَشْتَغِلُ به
قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم وبن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ
(وَهُوَ) أَيِ الْعِرْبَاضُ وَلَا عَلَى الذين إذا ما أتوك لتحملهم أَيْ مَعَكَ إِلَى الْغَزْوِ وَالْمَعْنَى لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ (قُلْتَ لَا أجد ما أحملكم عليه) حَالٌ مِنَ الْكَافِ فِي أَتَوْكِ بِتَقْدِيرِ قَدْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا كَأَنَّهُ قِيلَ مَا بَالُهُمْ تَوَالَوْا
قُلْتَ لَا أَجِدُ وَتَمَامُ الْآيَةِ (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يجدوا ما ينفقون) وَقَوْلُهُ (تَوَلَّوْا) جَوَابُ إِذَا وَمَعْنَاهُ انْصَرَفُوا (فَسَلَّمْنَا) أَيْ عَلَى الْعِرْبَاضِ (زَائِرِينَ) مِنَ الزِّيَارَةِ (وَعَائِدِينَ) مِنَ الْعِيَادَةِ (وَمُقْتَبِسِينَ) أَيْ مُحَصِّلِينَ الْعِلْمَ مِنْكَ (ذَرَفَتْ) أَيْ دَمَعَتْ (وَوَجِلَتْ) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ خَافَتْ (كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ) بِالْإِضَافَةِ فَإِنَّ الْمُوَدِّعَ بِكَسْرِ الدَّالِ عِنْدَ الْوَدَاعِ لَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِمَّا يُهِمُّ الْمُوَدَّعَ بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ كأنك تودعنا بها لمارأى مِنْ مُبَالَغَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَوْعِظَةِ (فَمَاذَا تَعْهَدُ) أَيْ تُوصِي (وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا) أَيْ وَإِنْ كَانَ الْمُطَاعُ عَبْدًا حَبَشِيًّا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ بِهِ طَاعَةَ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ عَلَيْكُمْ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَدْ يُضْرَبُ الْمَثَلُ فِي الشَّيْءِ بِمَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم من بنى لله مسجداولو مِثْلَ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَقَدْرُ مَفْحَصِ الْقَطَاةِ لَا يَكُونُ مَسْجِدًا لِشَخْصٍ آدَمِي وَنَظَائِرُ هَذَا الْكَلَامِ كَثِيرٌ
(وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) جَمْعُ نَاجِذَةٍ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ قِيلَ هُوَ الضِّرْسُ الْأَخِيرُ وَقِيلَ هُوَ مُرَادِفُ السِّنِّ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ مُلَازَمَةِ السُّنَّةِ وَالتَّمَسُّكِ بِهَا
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ أَيْضًا الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنَ الْمَضَضِ فِي ذَاتِ اللَّهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَأَلِّمُ بِالْوَجَعِ يُصِيبُهُ (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ إِلَخْ) قَالَ الحافظ بن رَجَبٍ فِي كِتَابِ جَامِعِ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ فِيهِ تَحْذِيرٌ لِلْأُمَّةِ مِنَ اتِّبَاعِ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ الْمُبْتَدَعَةِ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَالْمُرَادُ بِالْبِدْعَةِ مَا أُحْدِثَ مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَأَمَّا مَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ مِنَ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ شَرْعًا وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً لُغَةً فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ
وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ السَّلَفِ مِنَ اسْتِحْسَانِ بَعْضِ الْبِدَعِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْبِدَعِ اللُّغَوِيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه فِي التَّرَاوِيحِ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ بِدْعَةً فَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ وَمِنْ ذَلِكَ أَذَانُ الْجُمُعَةِ الْأَوَّلِ زَادَهُ عُثْمَانُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَأَقَرَّهُ عَلِيٌّ وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ
وَرُوِيَ عَنِ بن عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ هُوَ بِدْعَةٌ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا أَرَادَ أَبُوهُ فِي التَّرَاوِيحِ انْتَهَى مُلَخَّصًا
قال المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا ذِكْرُ حُجْرِ بْنِ حُجْرٍ غَيْرَ أَنَّ التِّرْمِذِيَّ أَشَارَ إِلَيْهِ تَعْلِيقًا
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَالْخُلَفَاءُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم اقْتَدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَخَصَّ اثْنَيْنِ وَقَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ فَخَصَّهُ فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ قَوْلًا وَخَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِهِ أَوْلَى
وَالْمُحْدَثُ عَلَى قِسْمَيْنِ مُحْدَثٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ إِلَّا الشُّهْرَةُ (الشَّهْوَةُ) وَالْعَمَلُ بِالْإِرَادَةِ فَهَذَا بَاطِلٌ وَمَا كَانَ عَلَى قَوَاعِدِ الْأُصُولِ أَوْ مَرْدُودٍ إِلَيْهَا فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ وَلَا ضَلَالَةٍ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
(أَلَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ) أَيِ الْمُتَعَمِّقُونَ الْغَالُونَ الْمُجَاوِزُونَ الْحُدُودَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ قَالَهُ النَّوَوِيُّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْمُتَنَطِّعُ الْمُتَعَمِّقُ فِي الشَّيْءِ الْمُتَكَلِّفُ لِلْبَحْثِ عَنْهُ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ