المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(باب من دعا إلى السنة) - عون المعبود وحاشية ابن القيم - جـ ١٢

[العظيم آبادي، شرف الحق]

فهرس الكتاب

- ‌37 - كتاب الحدود

- ‌(باب الحكم في من ارتد)

- ‌(باب الحكم فِي مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ)

- ‌(بَاب مَا جَاءَ فِي الْمُحَارَبَةِ)

- ‌(بَاب فِي الْحَدِّ يُشْفَعُ فِيهِ)

- ‌(باب يعفى عن الحدود)

- ‌(باب السَّتْرِ عَلَى أَهْلِ الْحُدُودِ)

- ‌(بَاب فِي صَاحِبِ الْحَدِّ يَجِيءُ فَيُقِرُّ)

- ‌(بَاب فِي التَّلْقِينِ فِي الْحَدِّ)

- ‌(بَاب فِي الرَّجُلِ يَعْتَرِفُ بِحَدٍّ وَلَا يُسَمِّيهِ)

- ‌(بَاب فِي الِامْتِحَانِ بِالضَّرْبِ [4382] أَيِ امْتِحَانِ السَّارِقِ)

- ‌(بَاب مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ)

- ‌(بَاب مَا لَا قَطْعَ فِيهِ)

- ‌(باب القطع في الخلسة)

- ‌(باب فيمن سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ)

- ‌(بَاب فِي الْقَطْعِ فِي الْعَارِيَةِ)

- ‌(بَاب فِي الْمَجْنُونِ يَسْرِقُ أَوْ يُصِيبُ حدا)

- ‌(بَاب فِي الْغُلَامِ يُصِيبُ الْحَدَّ هَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ)

- ‌(باب السارق يَسْرِقُ فِي الْغَزْوِ أَيُقْطَعُ)

- ‌(بَاب فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ)

- ‌(باب السَّارِقِ يَسْرِقُ مِرَارًا)

- ‌(باب في السارق تعلق يده فِي عُنُقِهِ)

- ‌(باب بَيْعِ الْمَمْلُوكِ إِذَا سَرَقَ)

- ‌(باب في الرجم)

- ‌(بَاب رَجْمِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ)

- ‌(باب في المرأة التي الخ)

- ‌(بَاب فِي رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ)

- ‌(بَاب فِي الرَّجُلِ يَزْنِي بِحَرِيمِهِ)

- ‌(باب فِي الرَّجُلِ يَزْنِي بِجَارِيَةِ امْرَأَتِهِ)

- ‌(باب في من عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ)

- ‌(باب في من أَتَى بَهِيمَةً أَيْ جَامَعَهَا)

- ‌(باب إذا أقر الرجل بالزنى وَلَمْ تُقِرَّ الْمَرْأَةُ)

- ‌(باب فِي الرَّجُلِ يصيب من المرأة ما دون الجماع)

- ‌(باب فِي الْأَمَةِ تَزْنِي وَلَمْ تُحْصَنْ)

- ‌(باب فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَرِيضِ)

- ‌(باب في حد القاذف)

- ‌(باب في الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ)

- ‌(باب إِذَا تَتَابَعَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ أَيْ تَوَالَى فِي شُرْبِهَا)

- ‌(باب فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْمَسْجِدِ أَيْ هَلْ يَجُوزُ)

- ‌(باب فِي التَّعْزِيرِ)

- ‌38 - كتاب الديات

- ‌(باب لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه أو أخيه)

- ‌(باب الْإِمَامِ يَأْمُرُ بِالْعَفْوِ فِي الدَّمِ)

- ‌(باب ولي العمد يأخذ الدية)

- ‌(بَاب من قتل بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ)

- ‌(باب فيمن سقى رجلا سما)

- ‌(باب مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ أَوْ مَثَّلَ بِهِ أَيُقَادُ مِنْهُ)

- ‌(باب القسامة)

- ‌(باب فِي تَرْكِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ)

- ‌(بَاب يُقَادُ مِنْ الْقَاتِلِ)

- ‌(بَاب أَيُقَادُ المسلم من الكافر)

- ‌(باب فيمن وَجَدَ مَعَ أَهْلِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ)

- ‌(باب العامل)

- ‌(بَاب القود بغير حديد)

- ‌(بَاب الْقَوَدِ مِنْ الضَّرْبَةِ وَقَصِّ الْأَمِيرِ مِنْ نفسه)

- ‌(بَاب عَفْوِ النِّسَاءِ عَنْ الدَّمِ)

- ‌(باب من قتل في عميا بين قوم)

- ‌(بَاب الدِّيَةِ كَمْ هِيَ)

- ‌(بَاب فِي دِيَةِ الْخَطَإِ شِبْهِ الْعَمْدِ)

- ‌(باب أسنان الإبل)

- ‌(بَاب دِيَاتِ الْأَعْضَاءِ)

- ‌(بَاب دِيَةِ الْجَنِينِ)

- ‌(بَاب فِي دِيَةِ الْمُكَاتَبِ)

- ‌(بَاب فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ)

- ‌(بَاب فِي الرَّجُلِ يُقَاتِلُ الرَّجُلَ فَيَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ)

- ‌(باب فيمن تطبب ولا يعلم منه طب فَأَعْنَتَ)

- ‌(بَاب فِي دِيَةِ الْخَطَإِ شِبْهِ الْعَمْدِ)

- ‌(بَاب الْقِصَاصِ مِنْ السِّنِّ)

- ‌(بَاب فِي الدَّابَّةِ تَنْفَحُ بِرِجْلِهَا)

- ‌(بَاب الْعَجْمَاءُ وَالْمَعْدِنُ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ)

- ‌(بَاب فِي النَّارِ)

- ‌(باب جِنَايَةِ الْعَبْدِ يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ)

- ‌(بَاب فِيمَنْ قَتَلَ)

- ‌39 - كتاب السُّنَّة

- ‌ بَاب النَّهْيِ عَنْ الْجِدَالِ وَاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ مِنْ الْقُرْآنِ)

- ‌ بَاب مُجَانَبَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَبُغْضِهِمْ)

- ‌(باب في تَرْكِ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ)

- ‌(بَاب النَّهْيِ عَنْ الْجِدَالِ فِي الْقُرْآنِ)

- ‌(بَاب فِي لُزُومِ السُّنَّةِ)

- ‌(باب من دعا إلى السُّنَّةِ)

- ‌(بَاب فِي التَّفْضِيلِ)

- ‌(بَاب فِي الْخُلَفَاءِ)

- ‌(باب في فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَاب فِي النَّهْيِ عَنْ سَبِّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ)

- ‌(بَاب فِي اسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه

- ‌(بَاب مَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ فِي الْفِتْنَةِ)

- ‌(باب في التخيير بين الأنبياء عليهم السلام

- ‌(بَابٌ فِي رَدِّ الْإِرْجَاءِ)

- ‌(بَاب الدَّلِيلِ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ)

- ‌(بَاب فِي الْقَدَرِ)

- ‌(بَاب فِي ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ)

الفصل: ‌(باب من دعا إلى السنة)

الْكَلَامِ الدَّاخِلِينَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمُ الْخَائِضِينَ فِيمَا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِظَاهِرِ الْكَلَامِ وَأَنَّهُ لَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ إِلَى غَيْرِهِ مَا كَانَ لَهُ مَسَاغٌ وَأَمْكَنَ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ انْتَهَى (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أَيْ قَالَ هذه الكلمة ثلاث مرات

(باب من دعا إلى السُّنَّةِ)

(مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى) أَيْ إِلَى مَا يُهْتَدَى بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ (كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ) إِنَّمَا اسْتَحَقَّ الدَّاعِي إِلَى الْهُدَى ذَلِكَ الْأَجْرَ لِكَوْنِ الدُّعَاءِ إِلَى الْهُدَى خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْأَنْبِيَاءِ (لَا يَنْقُصُ) بِضَمِّ الْقَافِ (ذَلِكَ) أَيِ الْأَجْرُ وَقِيلَ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَصْدَرِ كَانَ (مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا) هَذَا دَفْعٌ لِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَجْرَ الدَّاعِي إِنَّمَا يَكُونُ مَثَلًا بِالتَّنْقِيصِ مِنْ أَجْرِ التَّابِعِ وَبِضَمِّ أَجْرِ التَّابِعِ إِلَى أَجْرِ الدَّاعِي وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي أُجُورِهِمْ رَاجِعٌ إِلَى مِنْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مسلم والترمذي وبن مَاجَهْ

(إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا) الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ جُرْمًا مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْظَمَ مَنْ أَجْرَمَ جُرْمًا كَائِنًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ (مَنْ سَأَلَ عَنْ أَمْرٍ إِلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّبْيِينِ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَسُؤَالِ عُمَرَ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي أَمْرِ الْخَمْرِ حتى حرمت بعد ما كَانَتْ حَلَالًا لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَعَتْ إِلَيْهِ

ص: 236

وَثَانِيهِمَا مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَهُوَ السُّؤَالُ عَمَّا لَمْ يَقَعْ وَلَا دَعَتْ إِلَيْهِ حاجة فسكوت النبي فِي مِثْلِ هَذَا عَنْ جَوَابِهِ رَدْعٌ لِسَائِلِهِ وإن أجاب عنه كان تغليظ له فيكون بسببه تغليظ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ لِتَعَدِّي جِنَايَتِهِ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا كذلك غيره

كذا قال بن الْمَلَكِ فِي الْمَبَارِقِ

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ

(عَائِذَ اللَّهِ) بِالنَّصْبِ اسْمُ أَبِي إِدْرِيسَ (أَنَّ يَزِيدَ بْنَ عَمِيرَةَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَخَبَرُ أَنَّ قَوْلُهُ أَخْبَرَهُ وَقَوْلُهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بين اسم أن وخبرها (قَالَ كَانَ) أَيْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ (لِلذِّكْرِ) أَيِ الْوَعْظِ (اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ) أَيْ حَاكِمٌ عَادِلٌ (هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ) أَيِ الشَّاكُّونَ (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ) أَيْ بَعْدَكُمْ (فِتَنًا) بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ جَمْعُ فِتْنَةٍ وَهِيَ الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ بِالْبَلِيَّةِ (وَيُفْتَحُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شُيُوعِ إِقْرَاءِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ وَكَثْرَةِ تِلَاوَتِهِ لِأَنَّ مِنْ لَازِمِ شُيُوعِ الْإِقْرَاءِ وَالْقِرَاءَةِ وَكَثْرَةِ التِّلَاوَةِ أَنْ يُفْتَحَ الْقُرْآنُ

وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي أَيَّامِ هَذِهِ الْفِتَنِ يَشِيعُ إِقْرَاءُ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتُهُ وَيَرُوجُ تِلَاوَتُهُ بِحَيْثُ يَقْرَؤُهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ (حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ) أَيْ أَخْتَرِعَ لَهُمُ الْبِدْعَةَ (غَيْرَهُ) أَيْ غَيْرَ الْقُرْآنِ وَيَقُولُ ذَلِكَ لَمَّا رَآهُمْ يَتْرُكُونَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَيَتَّبِعُونَ الشَّيْطَانَ وَالْبِدْعَةَ (فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتَدَعَ) أَيِ احْذَرُوا مِنْ بِدْعَتِهِ (فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَوِ الْمَعْلُومِ (زَيْغَةَ الْحَكِيمِ) أَيِ انْحِرَافَ الْعَالِمِ عَنِ الْحَقِّ

وَالْمَعْنَى أُحَذِّرُكُمْ مِمَّا صَدَرَ مِنْ لِسَانِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الزَّيْغَةِ وَالزَّلَّةِ وَخِلَافِ الْحَقِّ فَلَا تَتَّبِعُوهُ (قَالَ قُلْتُ) ضَمِيرُ قَالَ رَاجِعٌ إِلَى يَزِيدَ (مَا يُدْرِينِي) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ يُعْلِمُنِي (رَحِمَكَ اللَّهُ) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ دُعَائِيَّةٌ (أَنَّ الْحَكِيمَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِيُدْرِينِي (قَالَ) أَيْ

ص: 237

مُعَاذٌ رضي الله عنه (بَلَى) أَيْ قَدْ يَقُولُ الْحَكِيمُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ وَالْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ (اجْتَنِبْ) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ (مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ الْمُشْتَهِرَاتِ) أَيِ الْكَلِمَاتِ الْمُشْتَهِرَاتِ بِالْبُطْلَانِ (الَّتِي يُقَالُ لَهَا مَا هَذِهِ) أَيْ يَقُولُ النَّاسُ إِنْكَارًا فِي شأن تلك المشتهرات ما هذه (ولا ينئينك) أَيْ لَا يَصْرِفَنَّكَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ (ذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ مُشْتَهِرَاتِ الْحَكِيمِ (عَنْهُ) أَيْ عَنِ الْحَكِيمِ (فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ) أَيِ الْحَكِيمَ (أَنْ يُرَاجِعَ) أَيْ يَرْجِعَ عَنِ الْمُشْتَهِرَاتِ (وَتَلَقَّ الْحَقَّ) أَيْ خُذْهُ (فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا) أَيْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ كَلِمَةُ الْحَقِّ وَإِنْ سَمِعْتَهَا مِنَ الْمُنَافِقِ لِمَا عَلَيْهَا مِنَ النُّورِ وَالضِّيَاءِ وَكَذَلِكَ كَلِمَاتُ الْحَكِيمِ الْبَاطِلَةُ لَا تَخْفَى عَلَيْكَ لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا يَسْمَعُونَهَا يُنْكِرُونَهَا لِمَا عَلَيْهَا مِنْ ظَلَامِ الْبِدْعَةِ وَالْبُطْلَانِ وَيَقُولُونَ إِنْكَارًا مَا هَذِهِ وَتُشْتَهَرُ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْبُطْلَانِ فَعَلَيْكَ أَنْ تَجْتَنِبَ مِنْ كَلِمَاتِ الْحَكِيمِ الْمُنْكَرَةَ الْبَاطِلَةَ وَلَكِنْ لَا تَتْرُكْ صُحْبَةَ الْحَكِيمِ فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ عَنْهَا (وَلَا يُنْئِيَنَّكَ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ لَا يُبَاعِدَنَّكَ فَفِي الْقَامُوسِ نَأَيْتُهُ وَعَنْهُ كَسَعَيْتُ بَعُدْتُ وَأَنْأَيْتُهُ فَانْتَأَى

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَهَذَا مَوْقُوفٌ

(يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَدَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَقَدْ يُسَكَّنُ الدَّالُ (أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ دُلَيْلٍ) بِالتَّصْغِيرِ (فَكَتَبَ) أَيْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ (أَمَّا بَعْدُ أُوصِيكَ) أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنِ الْقَدَرِ (بِتَقْوَى اللَّهِ وَالِاقْتِصَادِ) أَيِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ (فِي أَمْرِهِ) أَيْ أَمْرِ اللَّهِ أَوِ

ص: 238

الاستقامة في أمره أوصيك (اتباع) أي باتباع (سنة نبيه وَتَرْكِ مَا أَحْدَثَ الْمُحْدِثُونَ) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيِ ابْتَدَعَ الْمُبْتَدِعُونَ

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَوْصَاهُ بِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَنْ يَقْتَصِدَ أَيْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي أَمْرِ اللَّهِ أَيْ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ وَأَنْ يَسْتَقِيمَ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَرْغَبُ عَنْهُ إِلَى الْيَمِينِ وَلَا إِلَى الْيَسَارِ وَأَنْ يَتَّبِعَ سنة نبيه وطريقته وأن يترك ما ابتدعه المبتدعون (بعد ما جَرَتْ بِهِ سُنَّتُهُ وَكُفُوا مُؤْنَتَهُ) ظَرْفٌ لِأَحْدَثَ وَقَوْلُهُ كُفُوا بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَجْهُولِ مِنَ الْكِفَايَةِ وَالْمُؤْنَةُ الثِّقَلُ يُقَالُ كَفَى فُلَانًا مُؤْنَتَهُ أَيْ قَامَ بِهَا دُونَهُ فَأَغْنَاهُ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا

فَمَعْنَى كُفُوا مُؤْنَتَهُ أَيْ كَفَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مُؤْنَةَ مَا أَحْدَثُوا أَيْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَحْمِلُوا عَلَى ظُهُورِهِمْ ثِقَلَ الْإِحْدَاثِ وَالِابْتِدَاعِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ لِعِبَادِهِ دِينَهُمْ وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ وَرَضِيَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَلَمْ يَتْرُكْ إِلَيْهِمْ حَاجَةً لِلْعِبَادِ فِي أَنْ يُحْدِثُوا لَهُمْ فِي دِينِهِمْ أَيْ يَزِيدُوا عَلَيْهِ شَيْئًا أَوْ يَنْقُصُوا مِنْهُ شَيْئًا وَقَدْ قَالَ شَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا (فَعَلَيْكَ) أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ (بِلُزُومِ السنة) أي سنة النبي وَطَرِيقَتِهِ (فَإِنَّهَا) أَيِ السُّنَّةَ أَيْ لُزُومَهَا (لَكَ بِإِذْنِ اللَّهِ عِصْمَةٌ) مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْمُهْلِكَاتِ وَعَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَنِقْمَتِهِ (ثُمَّ اعْلَمْ) أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ (أَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِعِ النَّاسُ بِدْعَةً إِلَّا قَدْ مَضَى) فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ (قَبْلَهَا) أَيْ قَبْلَ تِلْكَ الْبِدْعَةِ (مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى تِلْكَ الْبِدْعَةِ أَيْ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ (أَوْ) مَضَى فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ قَبْلَهَا مَا هُوَ (عِبْرَةٌ فِيهَا) أَيْ فِي تِلْكَ الْبِدْعَةِ أَيْ فِي أَنَّهَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا سَنَّهَا) أَيْ وَضَعَهَا (مَنْ) هو الله تعالى أو النبي (قَدْ عَلِمَ مَا فِي خِلَافِهَا) أَيْ خِلَافِ السنة أي البدعة (ولم يقل بن كَثِيرٍ) هُوَ مُحَمَّدٌ أَحَدُ شُيُوخِ الْمُؤَلِّفِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَفْظَ (مَنْ قَدْ عَلِمَ) وَإِنَّمَا قَالَهُ الرَّبِيعُ وَهَنَّادٌ وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ فَقَالَ مَكَانَهُ لَفْظًا آخَرَ بِمَعْنَاهُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ ذَلِكَ اللَّفْظَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ) بَيَانٌ لِمَا فِي خِلَافِهَا فَإِذَا كَانَتِ السُّنَّةُ إِنَّمَا سَنَّهَا وَوَضَعَهَا مَنْ قَدْ عَلِمَ مَا فِي خِلَافِهَا مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوِ النبي فَكَيْفَ يُتْرَكُ بَيَانُ مَا فِي خِلَافِهَا فِي كتابه أو سنة نبيه هذا مما لايصح

وَالتَّعَمُّقُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْأَمْرِ

ص: 239

قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْمُتَعَمِّقُ الْمُبَالِغُ فِي الْأَمْرِ الْمُتَشَدِّدُ فِيهِ الَّذِي يَطْلُبُ أَقْصَى غَايَتِهِ

انْتَهَى (فَارْضَ لِنَفْسِكَ مَا رَضِيَ بِهِ الْقَوْمُ) أَيِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي رَضِيَ بِهَا السَّلَفُ الصَّالِحُونَ أَيِ النبي وَأَصْحَابُهُ (لِأَنْفُسِهِمْ) عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّهُمْ) أَيِ الْقَوْمَ الْمَذْكُورِينَ (عَلَى عِلْمٍ) عَظِيمٍ عَلَى مَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (وَقَفُوا) أَيِ اطَّلَعُوا

وَقَوْلُهُ (بِبَصَرٍ نَافِذٍ) أَيْ مَاضٍ فِي الْأُمُورِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (كَفُّوا) بِصِيغَةِ الْمَعْرُوفِ مِنْ بَابِ نَصَرَ أَيْ مَنَعُوا عَمَّا مَنَعُوا مِنَ الْإِحْدَاثِ وَالِابْتِدَاعِ (وَلَهُمْ) بِفَتْحِ لَامِ الِابْتِدَاءِ لِلتَّأْكِيدِ وَالضَّمِيرُ لِلسَّلَفِ الصَّالِحِينَ (عَلَى كَشْفِ الْأُمُورِ) أَيْ أُمُورِ الدِّينِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (أَقْوَى) قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ أَيْ هُمْ أَشَدُّ قُوَّةً عَلَى كَشْفِ أُمُورِ الدِّينِ مِنَ الْخَلَفِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَبِفَضْلِ مَا كَانُوا) أَيِ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ (فِيهِ) مِنْ أَمْرِ الدِّينِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (أَوْلَى) قُدِّمَ عَلَيْهِ لِمَا ذُكِرَ أَيْ هُمْ أَحَقُّ بِفَضْلِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْخَلَفِ

وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ مَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ (فَإِنْ كَانَ الْهُدَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أَيِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا أَيُّهَا الْمُحْدِثُونَ الْمُبْتَدِعُونَ (لَقَدْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى الْهُدَى وَتَقَدَّمْتُمُوهُمْ وَخَلَفْتُمُوهُمْ وَهَذَا صَرِيحُ الْبُطْلَانِ فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحِينَ هُمُ الَّذِينَ سَبَقُوكُمْ إِلَى الْهُدَى لَا أَنْتُمْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْهُدَى لَيْسَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ

وَقَوْلُهُ لَقَدْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الْقَسَمُ أَوَّلَ الْكَلَامِ ظَاهِرًا أَوْ مُقَدَّرًا وَبَعْدَهُ كَلِمَةُ الشَّرْطِ فَالْأَكْثَرُ وَالْأَوْلَى اعْتِبَارُ الْقَسَمِ دُونَ الشَّرْطِ فَيَجْعَلُ الْجَوَابَ لِلْقَسَمِ وَيَسْتَغْنِي عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ لِقِيَامِ جَوَابِ الْقَسَمِ مَقَامَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ولئن قوتلوا لا ينصرونهم وقوله تعالى وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (وَلَئِنْ قُلْتُمْ) أَيُّهَا الْمُحْدِثُونَ الْمُبْتَدِعُونَ فِيمَا حَدَثَ بَعْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ (إِنَّ مَا حَدَثَ) مَا مَوْصُولَةٌ أَيِ الشَّيْءَ الَّذِي حَدَثَ (بَعْدَهُمْ) أَيْ بَعْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ (مَا أَحْدَثَهُ) مَا نَافِيَةٌ أَيْ لَمْ يُحْدِثْ ذَلِكَ الشَّيْءَ (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ) أَيْ سَبِيلِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ (وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ) أَيْ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى اتَّبَعَ أَيْ فَضَّلَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ

وَالْحَاصِلُ أَنَّكُمْ إِنْ قُلْتُمْ إِنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ لَيْسَ بِضَلَالٍ بَلْ هُوَ الْهُدَى وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِسَبِيلِهِمْ

وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَذَلِكَ بَاطِلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ

وقوله

ص: 240

(فَإِنَّهُمْ) أَيِ السَّلَفُ (هُمُ السَّابِقُونَ) إِلَى الْهُدَى عِلَّةٌ لِلْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا جَوَابًا لِلشَّرْطِ فَإِنَّ كَوْنَ السَّلَفِ هُمُ السَّابِقِينَ مُتَحَقِّقُ الْمُضِيِّ وَالْجَزَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلًا (فَقَدْ تَكَلَّمُوا) أَيِ السَّلَفُ (فِيهِ) أَيْ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ (بِمَا يَكْفِي) لِلْخَلَفِ (وَوَصَفُوا) أَيْ بَيَّنُوا السَّلَفُ (مِنْهُ) أَيْ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ (مَا يَشْفِي) لِلْخَلَفِ (فَمَا دُونَهُمْ) أَيْ فَلَيْسَ دُونَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ أَنَّ تَحْتَهُمْ أَيْ تَحْتَ قَصْرِهِمْ (مِنْ مَقْصَرٍ) مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَوِ اسْمُ ظَرْفٍ أَيْ حَبْسٍ أَوْ مَحَلِّ حَبْسٍ مَنْ قَصَرَ الشَّيْءَ قَصْرًا أَيْ حَبَسَهُ (وَمَا فَوْقَهُمْ) أَيْ وَلَيْسَ فَوْقَهُمْ أَيْ فَوْقَ حَسْرِهِمْ (مِنْ مَحْسَرٍ) مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَوِ اسْمُ ظَرْفٍ أَيْضًا أَيْ كَشْفٍ أَوْ مَحَلِّ كَشْفٍ مِنْ حَسَرَ الشَّيْءَ حَسَرًا أَيْ كَشَفَهُ يُقَالُ حَسَرَ كُمَّهُ مِنْ ذِرَاعِهِ أَيْ كَشَفَهَا وَحَسَرَتِ الْجَارِيَةُ خِمَارَهَا مِنْ وَجْهِهَا أَيْ كَشَفَتْهُ

وَحَاصِلُهُ أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحِينَ قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ كَشْفِ مَا لَمْ يُحْتَجْ إِلَى كَشْفِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ حَبْسًا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ كَشَفُوا مَا احْتِيجَ إِلَى كَشْفِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ كَشْفًا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ (وَقَدْ قَصَّرَ) مِنَ التَّقْصِيرِ (قَوْمٌ دُونَهُمْ) أَيْ دُونَ قَصْرِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ أَيْ قَصَّرُوا قَصْرًا أَزْيَدَ مِنْ قَصْرِهِمْ (فَجَفَوْا) أَيْ لَمْ يَلْزَمُوا مَكَانَهُمُ الْوَاجِبَ قِيَامُهُمْ فِيهِ مِنْ جَفَا جَفَاءً إِذَا لَمْ يَلْزَمْ مَكَانَهُ أَيِ انْحَدَرُوا وَانْحَطُّوا مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ بِهَذَا الْفِعْلِ وَهُوَ زِيَادَةُ الْقَصْرِ (وَطَمَحَ) أَيِ ارْتَفَعَ مِنْ طَمَحَ بَصَرُهُ إِذَا ارْتَفَعَ وَكُلُّ مُرْتَفِعٍ طَامِحٌ (عَنْهُمْ) أَيِ السَّلَفِ (أَقْوَامٌ) أَيِ ارْتَفَعُوا عَنْهُمْ فِي الْكَشْفِ أَيْ كَشَفُوا كَشْفًا أَزْيَدَ مِنْ كَشْفِهِمْ (فَغَلَوْا) فِي الْكَشْفِ أَيْ شَدَّدُوا حَتَّى جَاوَزُوا فِيهِ الْحَدَّ فَهَؤُلَاءِ قَدْ أَفْرَطُوا وَأَسْرَفُوا فِي الْكَشْفِ كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ قَدْ فَرَّطُوا وَقَتَّرُوا فِيهِ (وَإِنَّهُمْ) أَيِ السَّلَفَ (بَيْنَ ذَلِكَ) أَيْ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالطَّمْحِ أَيْ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ (لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ) يَعْنِي أَنَّ السَّلَفَ لَعَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ الِاقْتِصَادُ وَالتَّوَسُّطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ لَيْسُوا بِمُفَرِّطِينَ كَالْقَوْمِ الْقَاصِرِينَ دُونَهُمْ وَلَا بِمُفَرِّطِينَ كَالْأَقْوَامِ الطَّامِحِينَ عَنْهُمْ

(كَتَبْتَ تَسْأَلُ) أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ (عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ) هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ (فَعَلَى الْخَبِيرِ) أَيِ الْعَارِفِ بِخَبَرِهِ (بِإِذْنِ اللَّهِ) تَعَالَى (وَقَعْتَ) أَيْ سَأَلْتَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ مَنْ هُوَ عَارِفٌ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ يُرِيدُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ (مَا أَعْلَمُ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ) مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِأَعْلَمَ (مِنْ مُحْدِثَةٍ) بَيَانٌ لِمَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ (وَلَا ابْتَدَعُوا مِنْ بِدْعَةٍ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ عَلَى أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ مُحْدِثَةٍ (هِيَ

ص: 241

فَصْلٌ بَيْنَ مَفْعُولَيْ أَعْلَمَ (أَبْيَنُ أَثَرًا) مَفْعُولٌ ثَانٍ لَهُ (وَلَا أَثْبَتُ أَمْرًا) عَطْفٌ عَلَى أَبْيَنَ أَثَرًا (مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ) مُتَعَلِّقٌ بِأَبْيَنَ وَأَثْبَتَ عَلَى التَّنَازُعِ

يَقُولُ إِنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَدَرِ هُوَ أَبْيَنُ أَثَرًا وَأَثْبَتُ أَمْرًا فِي عِلْمِي مِنْ كُلِّ مَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ مِنْ مُحْدِثَةٍ وَابْتَدَعُوهُ مِنْ بِدْعَةٍ لَا أَعْلَمُ شَيْئًا مِمَّا أَحْدَثُوهُ وَابْتَدَعُوهُ أَبْيَنَ أَثَرًا وَأَثْبَتَ أَمْرًا مِنْهُ أَيْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْإِقْرَارُ بِالْقَدَرِ مُحْدَثًا وَبِدْعَةً لُغَةً نَظَرًا إِلَى تَأْلِيفِهِ وَتَدْوِينِهِ فَإِنَّ تَأْلِيفَهُ وَتَدْوِينَهُ مُحْدَثٌ وَبِدْعَةٌ لُغَةً بلا ريب

فإن النبي لَمْ يُدَوِّنْهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ مُحْدَثًا وَبِدْعَةً بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ أَصْلًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا بَعْدُ (لَقَدْ كَانَ ذَكَرَهُ) أَيِ الْإِقْرَارَ بِالْقَدَرِ (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ (الْجُهَلَاءُ) بِالرَّفْعِ فَاعِلُ ذَكَرَ (يَتَكَلَّمُونَ بِهِ) أَيْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ (فِي كَلَامِهِمْ) الْمَنْثُورِ (وَفِي شِعْرِهِمْ) أَيْ كَلَامِهِمُ الْمَنْظُومِ (يُعَزُّونَ) مِنَ التَّعْزِيَةِ وَهُوَ التَّسْلِيَةُ وَالتَّصْبِيرُ أَيْ يُسَلُّونَ ويصيرون (بِهِ) أَيْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ (أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ) فِي نِعَمِهِ (ثُمَّ لَمْ يَزِدْهُ) أَيِ الْإِقْرَارُ بِالْقَدَرِ (الْإِسْلَامُ بَعْدُ) مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ أَيْ بَعْدَ الْجَاهِلِيَّةِ (إِلَّا شِدَّةً) وَإِحْكَامًا حَيْثُ فَرَضَهُ عَلَى الْعِبَادِ (وَلَقَدْ ذَكَرَهُ) أَيِ الْإِقْرَارَ بالقدر (رسول الله فِي غَيْرِ حَدِيثٍ وَلَا حَدِيثَيْنِ) بَلْ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ (وَقَدْ سَمِعَهُ) أَيِ الْإِقْرَارَ بِالْقَدَرِ (منه) صلى الله عليه وسلم (الْمُسْلِمُونَ) أَيِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم (فَتَكَلَّمُوا) أَيِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم (بِهِ) أَيْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ (فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ) صلى الله عليه وآله وسلم (يَقِينًا وَتَسْلِيمًا لِرَبِّهِمْ وَتَضْعِيفًا لِأَنْفُسِهِمْ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ ضَعَّفَهُ تضعيفا عده تضعيفا (أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ) مِنَ الْأَشْيَاءِ لَمْ يُحِطْ مِنَ الْإِحَاطَةِ (بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الشَّيْءِ (عِلْمُهُ) أَيْ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَمْ يُحْصِهِ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنَ الْإِحْصَاءِ وَهُوَ الْعَدُّ وَالضَّبْطُ أَيْ لَمْ يَضْبِطْهُ (كِتَابُهُ) أَيْ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ (وَلَمْ يَمْضِ) أَيْ لَمْ يَنْفُذْ (فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ (قَدَرُهُ) أَيْ قَدَرُ اللَّهِ تَعَالَى

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَيِ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم أَقَرُّوا بِالْقَدَرِ وَتَيَقَّنُوا بِهِ وَسَلَّمُوا ذَلِكَ لِرَبِّهِمْ وَضَعَّفُوا أَنْفُسَهُمْ أَيِ اسْتَحَالُوا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ مِمَّا عَزُبَ وَغَابَ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمُهُ تَعَالَى وَلَمْ يَضْبِطْهُ كِتَابُهُ وَلَمْ يَنْفُذْ فِيهِ أَمْرُهُ (وَإِنَّهُ) أَيِ الْإِقْرَارَ بِالْقَدَرِ (مَعَ ذَلِكَ) أَيْ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْجُهَلَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَذَكَرَهُ رَسُولُ الله فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَأَقَرَّ بِهِ الصَّحَابَةُ وَتَيَقَّنُوا به وسلموه واستحلوا نَفْيَهُ (لَفِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ) أَيْ لَمَذْكُورٌ فِي القرآن المجيد

ص: 242

(مِنْهُ) أَيْ مِنْ مُحْكَمِ كِتَابِهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ (اقْتَبَسُوهُ) أَيِ اقْتَبَسَ الْإِقْرَارَ بِالْقَدَرِ وَاسْتَفَادَهُ السلف الصالحون رسول الله وَأَصْحَابُهُ (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ مُحْكَمِ كِتَابِهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ (تَعَلَّمُوهُ) أَيْ تَعَلَّمُوا الْإِقْرَارَ بِالْقَدَرِ (وَلَئِنْ قُلْتُمْ) أَيُّهَا الْمُبْتَدِعُونَ (لِمَ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ كَذَا وَلِمَ قَالَ كَذَا) فِي شَأْنِ الْآيَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا يُخَالِفُ الْقَدَرَ (لَقَدْ قَرَؤُوا) أَيِ السَّلَفُ (مِنْهُ) مِنْ كِتَابِهِ الْمُحْكَمِ (مَا قَرَأْتُمْ وَعَلِمُوا) أَيِ السَّلَفُ (مِنْ تَأْوِيلِهِ) أَيْ تَأْوِيلِ مُحْكَمِ كِتَابِهِ (مَا جَهِلْتُمْ وَقَالُوا) أَيِ السَّلَفُ أَيْ أَقَرُّوا (بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ) أَيْ بعد ما قَرَؤُوا مِنْ مُحْكَمِ كِتَابِهِ مَا قَرَأْتُمْ وَعَلِمُوا مِنْ تَأْوِيلِهِ مَا جَهِلْتُمْ (بِكِتَابٍ وَقَدَرٍ) أَيْ أَقَرُّوا بِكِتَابٍ وَقَدَرٍ أَيْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدَّرَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السماوات والأرض بمدة طويلة أَقَرُّوا بِأَنَّ (مَا يُقَدَّرُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَمَا شرطية (يكن و) أقروا بأن (ما شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يكن و) بأنا (لا نَمْلِكُ لِأَنْفُسِنَا نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ثُمَّ رَغِبُوا) أَيِ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ (بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ هَذَا الْإِقْرَارُ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهَا (وَرَهِبُوا) الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ أَيْ خَافُوهَا وَاتَّقَوْهَا

وَقَوْلُهُ لَقَدْ قَرَؤُوا إِلَخْ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ وَاسْتَغْنَى عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ كَمَا تَقَدَّمَ هَكَذَا أَفَادَهُ بَعْضُ الْأَعْلَامِ فِي تَعْلِيقَاتِ السُّنَنِ

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْبِدْعَةَ هِيَ عَمَلٌ عَلَى غَيْرِ مِثْلٍ سَبَقَ

قَالَ فِي الْقَامُوسِ هِيَ الْحَدَثُ فِي الدِّينِ بَعْدَ الْإِكْمَالِ وَالْبِدْعَةُ أَصْغَرُ مِنَ الْكُفْرِ وَأَكْبَرُ مِنَ الْفِسْقِ وَكُلُّ بِدْعَةٍ تُخَالِفُ دَلِيلًا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ بِهِ فَهِيَ كُفْرٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ تُخَالِفُ دَلِيلًا يُوجِبُ الْعَمَلَ ظَاهِرًا فَهِيَ ضَلَالَةٌ وَلَيْسَتْ بِكُفْرٍ

قَالَ السَّيِّدُ فِي التَّعْرِيفَاتِ الْبِدْعَةُ هِيَ الْفِعْلَةُ الْمُخَالِفَةُ لِلسُّنَّةِ سُمِّيَتْ بِدْعَةً لِأَنَّ قَائِلَهَا ابْتَدَعَهَا مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ انْتَهَى

وَهَذِهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ فَاحْفَظْهَا

وَالْحَدِيثُ لَيْسَ مِنْ رِوَايَةِ اللُّؤْلُؤِيِّ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُنْذِرِيُّ وَذَكَرَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فِي الْمَرَاسِيلِ وَعَزَاهُ لِأَبِي داود ثم قال هو في رواية بن الْأَعْرَابِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دَاسَةَ انْتَهَى

(أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ) هُوَ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ (كَانَ لِابْنِ عُمَرَ صَدِيقٌ) بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِ الدَّالِ

ص: 243

الْمُخَفَّفَةِ عَلَى وَزْنِ أَمِيرٍ أَيْ حَبِيبٌ مِنَ الصَّدَاقَةِ وَهِيَ الْمَحَبَّةُ (فَإِيَّاكَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيَّ) أَيْ فَاحْذَرْ عَنِ الْكِتَابَةِ إِلَيَّ لِأَنِّي تَرَكْتُ حُبَّكَ وَالْمُكَاتَبَةَ إِلَيْكَ

قَالَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ هو في رواية بن الْأَعْرَابِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دَاسَةَ انْتَهَى

(قُلْتُ لِلْحَسَنِ) أَيِ الْبَصْرِيِّ

قَالَ فِي فَتْحِ الْوَدُودِ سَأَلَهُ عَنْ بَعْضِ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ لِيَعْرِفَ عَقِيدَتَهُ فِيهَا لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَّهِمُونَهُ قَدَرِيًّا إِمَّا لِأَنَّ بَعْضَ تَلَامِذَتِهِ مَالَ إِلَى ذَلِكَ أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ تَأْوِيلُهُ فَظَنُّوا أَنَّهُ قَالَهُ لِاعْتِقَادِهِ مَذْهَبَ الْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَظَانِّ الِاشْتِبَاهِ انْتَهَى (أَخْبِرْنِي عَنْ آدَمَ) هُوَ أَبُو الْبَشَرِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لِلسَّمَاءِ) أَيْ لِأَنْ يَسْكُنَ وَيَعِيشَ فِي الْجَنَّةِ (أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي (لَوِ اعْتَصَمَ) أَيْ لَمْ يُذْنِبْ وَلَمْ يَأْثَمْ (لَمْ يَكُنْ لَهُ) أَيْ لِآدَمَ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ أَكْلِهَا أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا أنتم عليه بفاتنين الْآيَةَ وَقَبْلَهُ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي عَلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَعْبُدُونَ وَالْمَعْنَى فَإِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ وَالَّذِي تَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ مَا أَنْتُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِمُضِلِّينَ أَحَدًا إِلَّا أَصْحَابَ النَّارِ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْنَى لَسْتُمْ تُضِلُّونَ أَحَدًا عَلَى اللَّهِ إِلَّا أَصْحَابَ النَّارِ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى

قَالَ الْمِزِّيُّ الحديث في رواية بن الأعرابي وبن داسة

(ولذلك خلقهم) وَقَبْلَهُ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) أَيْ أَهْلَ دِينٍ وَاحِدٍ (وَلَا يَزَالُونَ مختلفين) أَيْ فِي الدِّينِ (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أَيْ أَرَادَ لَهُمُ الْخَيْرَ فَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ (ولذلك خلقهم) أَيْ أَهْلَ الِاخْتِلَافِ لَهُ وَأَهْلَ الرَّحْمَةِ لَهَا كَذَا فِي تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ

ص: 244

(قَالَ) أَيِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى الْمَذْكُورِ (خَلَقَ) أَيِ اللَّهُ تَعَالَى (هَؤُلَاءِ لِهَذِهِ) أَيْ لِلْجَنَّةِ (وَهَؤُلَاءِ لِهَذِهِ) أَيْ لِلنَّارِ

قال المزي الحديث في رواية بن الأعرابي وبن دَاسَةَ انْتَهَى

(قُلْتُ لِلْحَسَنِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ) أَيْ قُلْتُ لَهُ مَا تَقُولُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ إِلَخْ (إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ) أَيْ دَاخِلُهَا

(حماد) هو بن زَيْدٍ نَسَبَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ (أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ) هو بن أَبِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ (أَنْ يَقُولَ الْأَمْرُ بِيَدِي) أَيْ يَقُولُ بِنَفْيِ الْقَدَرِ

(قَالَ أَخْبَرَنَا حَمَّادٌ) هو بن سَلَمَةَ هَكَذَا نَسَبَهُ الْمِزِّيُّ (قَدِمَ عَلَيْنَا الْحَسَنُ) أَيِ الْبَصْرِيُّ (أَنْ أُكَلِّمَهُ) أَيِ الْحَسَنَ (فَمَا رَأَيْتُ أَخْطَبَ) أَيْ أَحْسَنَ خُطْبَةً وَوَعْظًا (مِنْهُ) أَيْ مِنَ الْحَسَنِ (عَلَى هَذَا الشَّيْخِ) أَيِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ

(كَذَلِكَ) أَيْ مِثْلُ إِدْخَالِنَا التَّكْذِيبَ فِي قُلُوبِ الْأَوَّلِينَ (نَسْلُكُهُ) أَيْ نُدْخِلُ التَّكْذِيبَ

ص: 245

(فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أَيْ كُفَّارِ مَكَّةَ

كَذَا فِي تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ (قَالَ) أَيِ الْحَسَنُ (الشِّرْكُ) أَيْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نَسْلُكُهُ الشِّرْكُ

(عَنْ عُبَيْدٍ الصِّيدِ) بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ هُوَ عُبَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُزَنِيُّ يُعْرَفُ بِالصِّيدِ قَالَهُ الْحَافِظُ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ) أَيْ بَيْنَ الْكُفَّارِ (وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) مِنَ الْإِيمَانِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْثِ حِينَ يَفْزَعُونَ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ إِذْ مَحَلُّ الْإِيمَانِ هُوَ الدُّنْيَا لَا الْآخِرَةُ (قَالَ) الْحَسَنُ (بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا الْمَوْصُولَةِ الْإِيمَانُ وَالْحَائِلُ هُوَ الْقَدَرُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ وَالَّذِي أَحَالَهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى

وَقَوْلُهُ تَعَالَى كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قبل أَيْ بِأَنَّ الْقَدَرَ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَتَمَامُ الْآيَةِ هَكَذَا وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ

وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ

وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ

وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا في شك مريب

وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ تَنَاوُشَهُمْ وَقَوْلَهُمْ في ذلك الوقت أن امنا به لَا يُفِيدُهُمْ وَلَا يُغْنِيهِمْ مِنْ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا قَدْ كَفَرُوا بِهِ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ وَالْقَدَرِ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ بِكُفْرِهِمْ كَانَ فِي الدُّنْيَا حَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَشْتَهُونَهُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا حَالَ الْقَدَرُ بَيْنَ أَشْيَاعِهِمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ فَكَفَرُوا وَكَانُوا فِي شَكٍّ من هذا اليوم

(سليم) مصغرا هو بن أَخْضَرَ قَالَهُ الْمِزِّيُّ

(ضَرْبَانِ) أَيْ قِسْمَانِ (قَوْمٌ الْقَدَرُ رَأْيُهُمْ) أَيْ رَأْيُهُمْ وَعَقِيدَتُهُمْ نَفْيُ الْقَدَرِ وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ (أَنْ يُنَفِّقُوا) مِنَ التَّنْفِيقِ أَيْ يُرَوِّجُوا (وَقَوْمٌ لَهُ) أَيْ لِلْحَسَنِ (شَنَآنٌ) أَيْ عداوة

ص: 246

(يَا فِتْيَانُ) جَمْعُ فَتًى (لَا تُغْلَبُوا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْقَدَرِيَّةُ فِي أَنَّ الْحَسَنَ مِنْهُمْ قَالَهُ السِّنْدِيُّ

(أَنَّ كَلِمَةَ الْحَسَنِ) الْبَصْرِيِّ الَّتِي قَالَهَا وَحَمَلَهَا بَعْضُ السَّامِعِينَ عَلَى نَفْيِ الْقَدَرِ (تَبْلُغُ) تِلْكَ الْكَلِمَةُ (مَا بَلَغَتْ) أَيْ تَبْلُغُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي بَلَغَتْ وَشَاعَتْ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (لَكَتَبْنَا بِرُجُوعِهِ) أَيْ بِرُجُوعِ الْحَسَنِ عَنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ (وَأَشْهَدْنَا عَلَيْهِ) أَيْ ذَلِكَ الرُّجُوعِ (لَكِنَّا قُلْنَا) هِيَ (كَلِمَةٌ خَرَجَتْ) مِنْ لِسَانِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ (لَا تُحْمَلُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي اشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ

(مَا أَنَا بِعَائِدٍ) مِنَ الْعَوْدِ (إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُوهِمُ إِلَى نَفْيِ الْقَدَرِ

(عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْمَكْسُورَةِ (إِلَّا عَلَى الْإِثْبَاتِ) أَيْ عَلَى إِثْبَاتِ الْقَدَرِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ مَكَانَ عَلَى

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلَّهَا أَيْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي كَامِلٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ إِلَى حَدِيثِ هِلَالِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا لَيْسَتْ مِنْ رِوَايَةِ اللُّؤْلُؤِيِّ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُنْذِرِيُّ بَلْ هذه كلها من رواية بن الْأَعْرَابِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دَاسَةَ

ذَكَرَهُ الْحَافِظُ جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

ص: 247