الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُوَارَبَةِ وَلَا الْحِيلَةِ وَلِذَلِكَ لَا تُعَدُّ خَوَاطِرُ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ جَرْأَةً عَلَى جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تُعَدُّ مُجَازَاةُ اللَّهِ تَعَالَى الشَّيْطَانَ عَلَيْهِ تَنَازُلًا مِنَ اللَّهِ لِمُحَاوَرَةِ عَبَدٍ بَغِيضٍ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحِجْرِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي جَرَتْ مِنَ الشَّيْطَانَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَقْوَالُ الَّتِي أَلْقَاهَا الله عَلَيْهِ.
[86- 88]
[سُورَة ص (38) : الْآيَات 86 إِلَى 88]
قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِإِبْلَاغِ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ أَمَرَهُ عِنْدَ انْتِهَائِهَا أَنْ يَقْرَعَ أَسْمَاعَهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ كَالْفَذْلَكَةِ لِلسُّورَةِ تَنْهِيَةً لَهَا تسجيلا عَلَيْهِمْ أَنَّهُ مَا جَاءَهُمْ إِلَّا بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَلَيْسَ طَالِبًا مِنْ ذَلِكَ جَزَاءً، أَيْ لَوْ سَأَلَهُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا لَرَاجَ اتِّهَامُهُمْ إِيَّاهُ بِالْكَذِبِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا انْتَفَى ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ تَوَهُّمُ اتِّهَامِهِ بِالْكَذِبِ لِأَنَّ وَازِعَ الْعَقْلِ يصرف صَاحبه على أَنْ يَكْذِبَ لِغَيْرِ نَفْعٍ يَرْجُوهُ لِنَفْسِهِ.
وَالْمَعْنَى عُمُومُ نَفْيِ سُؤَالِهِ الْأَجْرَ مِنْهُمْ مِنْ يَوْمِ بُعِثَ إِلَى وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ
قِيَاسُ اسْتِقْرَاءٍ لِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتَقْرَوْا أَحْوَال الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فِيمَا مَضَى وَجَدُوا انْتِفَاءَ سُؤَالِهِ أَجْرًا أَمْرًا عَامًّا بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ الْحَاصِلِ مِنْ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَمِيعِ مُخَالَطَاتِهِمْ إِيَّاهُ، فَهُوَ أَمْرٌ مُتَوَاتِرٌ بَيْنَهُمْ فَهَذَا إِبْطَالٌ لقَولهم كَذَّابٌ [ص: 4] الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ كَمَا سَيَجِيءُ.
وَضَمِيرُ عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ فَإِنَّ مَبْدَأَ السُّورَةِ قَوْلُهُ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] فَهَذَا مِنْ رَدِّ الْعَجز على الْمصدر.
وَعَطْفُ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَفَادَ انْتِفَاءَ جَمِيعِ التَّكَلُّفِ عَن النبيء صلى الله عليه وسلم.
وَالتَّكَلُّفُ: مُعَالَجَةُ الْكُلْفَةِ، وَهِيَ مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْءِ عَمَلُهُ وَالْتِزَامُهُ لِكَوْنِهِ يُحْرِجُهُ
أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَمَادَّةُ التَّفَعُّلِ تَدُلُّ عَلَى مُعَالَجَةِ مَا لَيْسَ بِسَهْلٍ، فَالْمُتَكَلِّفُ هُوَ الَّذِي يَتَطَلَّبُ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ يَدَّعِي عِلْمَ مَا لَا يَعْلَمُهُ.
فَالْمَعْنَى هُنَا: مَا أَنَا بِمُدَّعٍ النُّبُوءَةَ بَاطِلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوحَى إِلَيَّ وَهُوَ رَدٌّ لقَولهم:
كَذَّابٌ [ص: 4] وَبِذَلِكَ كَانَ كَالنَّتِيجَةِ لقَوْله: مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّفَ شَيْئًا إِنَّمَا يَطْلُبُ مِنْ تَكَلُّفِهِ نَفْعًا، فَالْمَعْنَى: وَمَا أَنَا مِمَّنْ يَدَّعُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ. وَمِنْهُ
حَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَمَرَّ عَلَى رَجُلٍ جَالسٍ عِنْدَ مِقْرَاةٍ لَهُ (أَيْ حَوْضِ مَاءٍ)، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ أَوَلَغَتِ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مَقْرَاتِكَ؟
فَقَالَ لَهُ النبيء صلى الله عليه وسلم: يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ لَا تُخْبِرْهُ، هَذَا مُتَكَلِّفٌ لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ.
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنه قَالَ: «يَا أَيهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
وَأُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ لَا تَكَلُّفَ فِيهِ، أَيْ لَا مَشَقَّةَ فِي تَكَالِيفِهِ وَهُوَ مَعْنَى سَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا اسْتِرْوَاحٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَ طبع الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ رَوْحِ شَرِيعَتِهِ تَنَاسُبًا لِيَكُونَ إِقْبَالُهُ عَلَى تَنْفِيذِ شَرْعِهِ بِشَرَاشِرِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلْحَرَجِ عَنْهُ فِي الْقِيَامِ بِتَنْفِيذِ مَا أُمِرَ بِهِ.
وَتَرْكِيبُ مَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَشَدُّ فِي نَفْيِ التَّكَلُّفِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: مَا أَنَا بِمُتَكَلِّفٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [67] .
وَجُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ اشْتِمَالِ نَفْيِ الشَّيْءِ عَلَى ثُبُوتِ ضِدِّهِ، فَلَمَّا نَفَى بِقَوْلِهِ: وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَنْ يَكُونَ تَقَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى اللَّهِ، ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ ذِكْرٌ لِلنَّاسِ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، أَيْ لَيْسَ هُوَ بِالْأَسَاطِيرِ أَوِ التُّرَّهَاتِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهَا تَذْيِيلًا إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا هُنَا. وَهَذَا الْإِخْبَارُ عَنْ مَوْقِعِ الْقُرْآنِ لَدَى جَمِيعِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ لَا خُصُوصِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانَ فِي مُجَادَلَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَا يَرْجُو مِنْ مُعَانِدِيهِ أَجْرًا. وَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّلِ مَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ انْتَقَلَ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ ذِكْرٌ لِلنَّاسِ قَاطِبَةً فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ النَّاسِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَسْتَغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ بِأَقْوَامٍ آخَرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: 7] .
وَعُمُومُ الْعَالَمِينَ يُكْسِبُ الْجُمْلَةَ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِلْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهَا.
وَالْقَصْرُ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ قَصْرُ قَلْبٍ إِضَافِيٍّ، أَيْ هُوَ ذِكْرٌ لَا أَسَاطِيرُ وَلَا سِحْرٌ وَلَا شِعْرٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا وَسَمُوا بِهِ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِ صِفَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ بِاعْتِبَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْقَصْرُ مِنْ جَانِبِ الْإِثْبَاتِ، أَيْ وَسَتَعْلَمُونَ خَبَرَ هَذَا الْقُرْآنِ بَعْدَ زَمَانٍ عِلْمًا جَزْمًا فَيَزُولُ شَكُّكُمْ فِيهِ، فَالْكَلَامُ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى وُجُودِ نُونِ التَّوْكِيدِ.
وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ، وَأَصْلُ الْخَبَرِ: الصِّدْقُ، أَيْ الْمُوَافَقَةُ لِلْوَاقِعِ، فَإِذَا قِيلَ: أَتَانِي نَبَأُ كَذَا، فَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ عَنْ حَالِهِ فِي الْوَاقِعِ، فَإِضَافَةُ النَّبَأِ إِلَى مَا يُضَافُ إِلَيْهِ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ إِذْ مَعْنَى اللَّامِ هُوَ أَصلُ مَعَانِي الْإِضَافَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص: 21] ، أَيْ سَتَعْلَمُونَ صِدْقَ وَصْفِ هَذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] . وَفُسِّرَ النَّبَأُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَا أَنْبَأَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ إِنْذَارِكُمْ بِالْعَذَابِ، فَهُوَ تَهْدِيدٌ. وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ وَاقِعٌ فَإِنَّ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْ عُجِّلَ لَهُ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَبَقِيَّتُهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ رَأْيَ الْعَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ عَلِمُوا دُخُولَ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ فَمَاتُوا بِغَيْظِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ شَاهَدُوا فَتْحَ مَكَّةَ وَآمَنُوا، أَوْ رَأَوْا قَبَائِلَ الْعَرَبِ تَدْخُلُ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا فَعَلِمُوا نَبَأَ صِدْقِ الْقُرْآنِ وَمَا وَعَدَ بِهِ بَعْدَ حِينٍ فَازْدَادُوا إِيمَانًا.
وَحِينُ كُلِّ فَرِيقٍ مَا مَضَى عَلَيْهِ مِنْ زَمَنٍ بَيْنَ هَذَا الْخِطَابِ وَبَيْنَ تَحَقُّقِ الصِّدْقِ.
وَالْحِينُ: الزَّمَنُ مِنْ سَاعَةٍ إِلَى أَرْبَعِينَ سَنَةٍ. فَخَتَمَ الْكَلَامَ بِتَسْجِيلِ التَّبْلِيغِ وَأَنَّ فَائِدَةَ مَا أَبْلَغَهُمْ لَهُمْ لَا للنبيء صلى الله عليه وسلم. وَخَتَمَ بِالْمُوَاعَدَةِ لِوَقْتِ يَقِينِهِمْ بِنَبِيئِهِ، وَهَذَا مُؤْذِنٌ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ وَمُرَاعَاةِ حُسْنِ الْخِتَامِ.