الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللَّذَيْنِ وُجِّهَ الْخِطَابُ السَّابِقُ إِلَيْهِمَا، وَتَعْيِينُ كُلٍّ لِمَا وُجِّهَ إِلَيْهِ مُنْطَوٍ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَقَرِينَةِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر: 15] .
وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ عَلَى هَذَا لِلتَّأْكِيدِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْمَقُولِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنْ تَوْجِيهِ الْمَطْلَبِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: 11] الْآيَةَ فَتَكُونُ إِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَقْصُودِينَ بِتَوْجِيهِ الْقَوْلِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ: قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيءِ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَتَيْتَنَا بِهِ أَلَا تَنْظُرَ إِلَى مِلَّةِ أَبِيكَ وُجِدِّكَ وَسَادَاتِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى.
[14- 15]
[سُورَة الزمر (39) : الْآيَات 14 إِلَى 15]
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ (14) .
أَمْرٌ بِأَنْ يُعِيدَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: 11] ، لِأَهَمِّيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُفَادُ الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا مَعًا تُفِيدَانِ أَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِ أَعْبُدَ اللَّهَ الْأَوَّلِ بِقَيْدِ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَبِاعْتِبَارِ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى أَعْبُدَ الثَّانِي فَتَأَكَّدَ مَعْنَى التَّوْحِيدِ مَرَّتَيْنِ لِيَتَقَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا إِلَخْ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى الْكَلَامِ قَبْلَهَا فَهُوَ تَفْرِيعٌ ذِكْرِيٌّ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّخْلِيَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّسْوِيَةِ. وَالْمَقْصُودُ التَّسْوِيَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فَتَكُونُ التَّسْوِيَةُ كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ
الِاكْتِرَاثِ بِفِعْلِ الْمُخَاطَبِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّنِي كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [29] : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ، أَيْ اعْبُدُوا أَيَّ شَيْءٍ شِئْتُمْ عِبَادَتِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَجُعِلَتِ الصِّلَةُ هُنَا فِعْلَ الْمَشِيئَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَائِدَهُمْ فِي تَعْيِينِ مَعْبُودَاتِهِمْ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَشِيئَةِ وَالْهَوَى بِلَا دَلِيلٍ.
قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أَعْقَبَ أَمْرَ التَّسْوِيَةِ فِي شَأْنِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْعِظَةِ حِرْصًا عَلَى إِصْلَاحِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ، وَلُوحِظَ فِي إِبْلَاغِهِمْ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ مَقَامُ مَا سَبَقَ مِنَ التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَأْنِهِمْ جَمْعًا بَيْنَ الْإِرْشَادِ وَبَيْنَ التَّوْبِيخِ، فَجِيءَ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّعْرِيضِ وَالْحَدِيثِ عَنِ الْغَائِبِ وَالْمُرَادُ الْمُخَاطَبُونَ.
وَافْتُتِحَ الْمَقُولُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ وَتَعْرِيفُ الْخاسِرِينَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ أَنَّ الْجِنْسَ الَّذِينَ عُرِفُوا بِالْخُسْرَانِ هُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ، فَيُفِيدُ هَذَا التَّرْكِيبُ قَصْرَ جِنْسِ الْخَاسِرِينَ عَلَى الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَهُوَ قَصْرُ مُبَالَغَةٍ لِكَمَالِ جِنْسِ الْخُسْرَانِ فِي الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ فَخُسْرَانُ غَيْرِهِمْ كَلَا خُسْرَانٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي لَامِ التَّعْرِيفِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ فَلَيْسُوا يُرِيدُونَ أَنَّ مَعْنَى الْكَمَالِ مِنْ مَعَانِي لَامِ التَّعْرِيفِ.
وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ مَسُوقًا بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ دَارَ الْجِدَالُ مَعَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر: 7- 15] ، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ هُمُ الَّذِينَ جَرَى الْجِدَالُ مَعَهُمْ، فَأَفَادَ مَعْنَى: إِنَّ الْخَاسِرِينَ أَنْتُمْ، إِلَّا أَنَّ وَجْهَ الْعُدُولِ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لِإِدْمَاجِ وَعِيدِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَمَعْنَى خُسْرَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ: أَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ فِي الْعَذَابِ فِي حِينِ حَسِبُوا أَنَّهُمْ سَعَوْا لَهَا فِي النَّعِيمِ وَالنَّجَاحِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ فِي إِيقَاعِ أَنْفُسِهِمْ فِي الْعَذَابِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُلْقُونَهَا فِي النَّعِيمِ، بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي عَرَّضَ مَالَهُ لِلنَّمَاءِ وَالرِّبْحِ فَأُصِيبَ بِالتَّلَفِ، فَأُطْلِقَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ تَرْكِيبُ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [9] .