الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَرَأَ نَافِعٌ يَحْزُنْكَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ مِنْ أَحْزَنَهُ إِذَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ حَزَنًا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ مِنْ حَزَنَهُ بِفَتْحِ الزَّايِ بِمَعْنَى أَحْزَنَهُ وَهَمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَدَّمَ الْإِسْرَارَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِهِمْ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ الْإِعْلَانَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْخَبَرِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِيعَابِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِجُزْئِيَّاتِ الْأُمُورِ وَكُلِّيَّاتِهَا.
وَالْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ مَعَ الِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا نَعْلَمُ أَحْسَنُ مِنَ الْوَصْلِ لِأَنَّهُ أَوْضَحُ لِلْمَعْنَى، وَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ إِذْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ سَامِعٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَلَوْ قَالُوهُ لَمَا كَانَ مِمَّا يَحْزُنُ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ يَنْهَى عَنِ الْحزن مِنْهُ.
[77، 79]
[سُورَة يس (36) : الْآيَات 77 إِلَى 79]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
لَمَّا أُبْطِلَتْ شُبَهُ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَإِحَالَتِهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ وَتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي إِنْبَائِهِ بِذَلِكَ إِبْطَالًا كُلِّيًّا، عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى جَانِبِ تَسْفِيهِ أَقْوَالٍ جُزْئِيَّةٍ لِزُعَمَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى وَقَاحَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِنِعْمَةِ رَبِّهِمْ وَهُمْ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَحْسَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَوِّهُونَ الدَّلَائِل ويزينون الْجِدَال لِلنَّاسِ وَيَأْتُونَ لَهُمْ بِأَقْوَالٍ إِقْنَاعِيَّةٍ جَارِيَةٍ عَلَى وَفْقِ أَفْهَامِ الْعَامَّةِ، فَقيل أُرِيد ب الْإِنْسانُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَقِيلَ أُرِيد بِهِ العَاصِي بْنُ وَائِلٍ، وَقِيلَ أَبُو جَهْلٍ، وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ بِأَسَانِيدَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مَرَّاتٍ تَوَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْضَهَا.
قَالُوا فِي الرِّوَايَاتِ: جَاءَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ عَظْمُ إِنْسَانٍ
رَمِيمٍ فَفَتَّهُ وَذَرَاهُ فِي الرِّيحِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمَّ (أَيْ بَلِيَ) فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ يُمِيتُكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْإِنْسانُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ الْمُعَيَّنُ الْمَعْرُوفُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ يَوْمَئِذٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [66] أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا نَزَلَ فِي أَحَدِ هَؤُلَاءِ، وَذُكِرَ مَعَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ [3] .
وَوَجْهُ حَمْلِ التَّعْرِيفِ هُنَا عَلَى التَّعْرِيفِ الْعَهْدِيِّ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ حَمْلُهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ جَعْلَهُ لِلْجِنْسِ يَقْتَضِي أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، كَيْفَ وَفِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَهْلُ الْمِلَلِ، وَحَمْلُهَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ أَبْعَدُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ الِاسْتِغْرَاقُ الْعُرْفِيُّ وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ مَوَاقِعِهِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ [4] : خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فَهُوَ تَعْرِيفُ الِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاسْتِغْرَاقِ الْحَقِيقِيِّ.
وَالْمُرَادُ بِ خَصِيمٌ فِي تِلْكَ الْآيَةِ: أَنَّهُ شَدِيدُ الشَّكِيمَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَصْلُهُ نُطْفَةً، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ [يس: 71] الْآيَةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ كَالِاسْتِفْهَامِ فِي الْجُمْلَة الْمَعْطُوف عَلَيْهَا. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا قَلْبِيَّةٌ. وَجُمْلَةُ أَنَّا خَلَقْناهُ سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] .
وَ «إِذَا» لِلْمُفَاجَأَةِ. وَوَجْهُ الْمُفَاجَأَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ خُلِقَ لِيَعْبُدَ اللَّهَ وَيَعْلَمَ مَا يَلِيقُ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ فَاجَأَ بِمَا لَمْ يَكُنْ مُتَرَقَّبًا مِنْهُ مَعَ إِفَادَةِ أَنَّ الْخُصُومَة فِي شؤون الْإِلَهِيَّةِ كَانَتْ بِمَا بَادَرَ بِهِ حِينَ عَقَلَ.
وَالْخَصِيمُ فَعِيلٌ مُبَالَغَةً فِي مَعْنَى مُفَاعِلٍ، أَيْ مُخَاصِمٌ شَدِيدُ الْخِصَامِ.
وَالْمُبِينُ: مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ.
وَضَرْبُ الْمَثَلِ: إِيجَادُهُ، كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَ خَيْمَةً، وَضَرَبَ دِينَارًا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [26] .
وَالْمَثَلُ: تَمْثِيلُ الْحَالَةِ، فَالْمَعْنَى: وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ وَأَتَى لَهُمْ بِتَشْبِيهِ حَالِ قُدْرَتِنَا بِحَالِ عَجْزِ النَّاسِ إِذْ أَحَالَ إِحْيَاءُنَا الْعِظَامَ بَعْدَ أَنْ أَرَمَّتْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: 74] ، أَيْ لَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ فَتَجْعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً
[النَّحْل: 73] .
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْله: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ إِنْكَارِيٌّ. ومَنْ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْخَبَرُ. فَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ يُحْيِيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. فَشَمِلَ عُمُومُهُ إِنْكَارَهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهَ تَعَالَى مُحْيِيًا لِلْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهَا رَمِيمًا.
وَجُمْلَةُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ [طه: 120] الْآيَةَ، فَجُمْلَةُ قالَ يَا آدَمُ بَيَان لجملة فَوَسْوَسَ.
وَالنِّسْيَانُ فِي قَوْلِهِ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ مُسْتَعَارٌ لِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْلِهِ، أَيْ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، أَيْ نَسِيَ أَنَّنَا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ، أَيْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَعْجَبُ مِنْ إِعَادَةِ عَظْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] .
وَذِكْرُ النُّطْفَةِ هُنَا تَمْهِيدٌ لِلْمُفَاجَأَةِ بِكَوْنِهِ خَصِيمًا مُبِينًا عَقِبَ خَلْقِهِ، أَيْ ذَلِكَ الْهَيِّنُ الْمَنْشَأِ قَدْ أَصْبَحَ خَصِيمًا عَنِيدًا، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ أَيْ نَسِيَ خَلْقَهُ الضَّعِيفَ فَتَطَاوَلَ وَجَاوَزَ، وَلِأَنَّ خَلْقَهُ مِنَ النُّطْفَةِ أَعْجَبُ مِنْ إِحْيَائِهِ وَهُوَ عَظَمٌ مُجَارَاةٌ لِزَعْمِهِ فِي مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُحْيِي مَا هُوَ أَضْعَفُ مِنَ الْعِظَامِ فَيُحْيِي الْإِنْسَانَ مِنْ رَمَادِهِ، وَمِنْ تُرَابِهِ، وَمِنْ عَجْبِ ذَنَبِهِ، وَمَنْ لَا شَيْءَ بَاقِيًا مِنْهُ.
وَالرَّمِيمُ: الْبَالِي، يُقَالُ: رَمَّ الْعَظْمُ وَأَرَمَّ، إِذَا بَلِيَ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، يُقَالُ:
رَمَّ الْعَظْمُ رَمِيمًا، فَهُوَ خَبَرٌ بِالْمَصْدَرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطَابِقِ الْمُخْبَرَ عَنْهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ وَهِيَ بِلَى.
وَأَمْرُ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَقُولَ لَهُ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَمْرٌ بِجَوَابٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِحَمْلِ اسْتِفْهَامِ الْقَائِلِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا تَطَلُّبُ تَعْيِينِ الْمُحْيِي وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِحَالَةَ، فَأُجِيبَ جَوَابَ مَنْ هُوَ مُتَطَلَّبٌ عَلِمًا. فَقِيلَ لَهُ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ.