الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا خُسْرَانُهُمْ أَهْلِيهِمْ فَهُوَ مِثْلُ خُسْرَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَغْرَوْا أَهْلِيهِمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِالْكُفْرِ كَمَا أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَهْلِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 37]، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا [التَّحْرِيم: 6] ، فَكَانَ خُسْرَانُهُمْ خُسْرَانًا عَظِيمًا.
فَقَوْلُهُ: أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ اسْتِئْنَافٌ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالنَّتِيجَةِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِأَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ خَسِرُوا بِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَحَبَّ مَا عِنْدَهُمْ وَبِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ جِنْسُ الْخَاسِرِينَ، يُسْتَخْلَصُ مِنْهُ أَنَّ خَسَارَتَهُمْ أَعْظَمُ خَسَارَةٍ وَأَوْضَحُهَا لِلْعَيَانِ، وَلِذَلِكَ أُوثِرَتْ خَسَارَتُهُمْ بِاسْمِ الْخُسْرَانِ الَّذِي هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ الْخَسَارَةِ دَالٌّ عَلَى قُوَّةِ الْمَصْدَرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ.
وَأُشِيرَ إِلَى الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِوَصْفِ خَسَارَتِهِمْ، بِأَنِ افْتَتَحَ الْكَلَامَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ دَاخِلًا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفِيدِ تَمْيِيزَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَبِتَوَسُّطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ الْمُفِيدِ لِلْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
[16]
[سُورَة الزمر (39) : آيَة 16]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ.
بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15]، وَخُصَّ بِالْإِبْدَالِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ خُسْرَانَهِمْ عَلَيْهِمْ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى إِهْلَاكِ أَجْسَامِهِمْ. وَالْخُسْرَانُ يَشْتَمِلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخِزْيِ وَغَضَبِ اللَّهِ وَالْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ. فَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ [الزمر: 15] .
وَالظُّلَلُ: اسْمُ جَمْعِ ظُلَّةٍ، وَهِيَ شَيْءٌ مُرْتَفِعٌ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ أَعْوَادٍ مِثْلُ الصُّفَّةِ يَسْتَظِلُّ بِهِ الْجَالِسُ تَحْتَهُ، مُشْتَقَّةُ مِنَ الظِّلِّ لِأَنَّهَا يَكُونُ لَهَا ظِلٌّ فِي الشَّمْسِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [210]، وَقَوْلِهِ: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [32] . وَهِيَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلطَّبَقَةِ الَّتِي تَعْلُو أَهْلَ النَّارِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنَ النَّارِ، شُبِّهَتْ بِالظُّلَّةِ فِي الْعُلُوِّ وَالْغَشَيَانِ
مَعَ التَّهَكُّمِ لِأَنَّهُمْ
يَتَمَنَّوْنَ مَا يَحْجُبُ عَنْهُمْ حَرَّ النَّارِ فَعَبَّرَ عَنْ طَبَقَاتِ النَّارِ بِالظُّلَلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَا وَاقِيَ لَهُمْ مِنْ حَرِّ النَّارِ عَلَى نَحْوِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وَقَوْلُهُ لَهُمْ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ.
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الظُّلَلِ عَلَى الطَّبَقَاتِ الَّتِي تَحْتَهُمْ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ وَلِأَنَّ الطَّبَقَاتِ الَّتِي تَحْتَهُمْ مِنَ النَّارِ تَكُونُ ظُلَلًا لِكُفَّارٍ آخَرِينَ لِأَنَّ جَهَنَّمَ دَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ.
ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ.
تَذْيِيلٌ لِلتَّهْدِيدِ بِالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الزمر: 15] الْآيَةَ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ لِوَصْفِ عَذَابهمْ بِأَنَّهُ ظلل مِنَ النَّارِ من فَوْقهم وظلل مِنْ تَحْتِهِمْ أَنْ يَقُولَ سَائِلُ: مَا يَقَعُ إِعْدَادُ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ فَوَاتِ تَدَارُكِ كُفْرِهِمْ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ لِتَخْوِيفِ اللَّهِ عِبَادَهُ حِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ وَيُشَرِّعُ لَهُمُ الشَّرَائِعَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَرُسُلِهِ تَكُونُ ذَلِكَ عَاقِبَتُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ وَعِيدُ اللَّهِ خَبَرًا مِنْهُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا صِدْقًا حَقَّقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَتَخْوِيفُ اللَّهِ بِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَوِّفُهُمْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ وَبِوَصْفِهِ، أَمَّا إِذَاقَتُهُمْ إِيَّاهُ فَهِيَ تَحْقِيقٌ لِلْوَعِيدِ.
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا بِطْرِيقِ الْمُقَابَلَةِ جَعْلُ الْجَنَّةِ لِتَرْغِيبِ عِبَادِهِ فِي التَّقْوَى، إِلَّا أَنَّهُ طَوَى ذِكْرَهُ لِأَنَّ السِّيَاق موعظة لأهل الشِّرْكِ فَاللَّهُ جَعَلَ الْجَنَّةَ وَجَهَنَّمَ إِتْمَامًا لِحِكْمَتِهِ وَمُرَادِهِ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَكُونَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَكْمَلِ مَا تَرْتَقِي إِلَيْهِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَنَّةَ جَعَلَهَا اللَّهُ مَسْكَنًا لِأَهْلِ النُّفُوسِ الْمُقَدَّسَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ مِثْلَ الرُّسُلِ فَلِذَلِكَ هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا جَهَنَّمُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ وَهُوَ ظَاهِرُ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُخْلَقُ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَيُتَأَوَّلُ الْحَدِيثُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَصَفَ مِنَ الْخُسْرَانِ وَالْعَذَابِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.