الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُ يَجْرِي عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِينِ، وَاللَّهُ لَمْ يُكَلِّفِ الْحَاكِمَ إِلَّا بِبَذْلِ جُهْدِهِ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم:
[55- 57]
[سُورَة يس (36) : الْآيَات 55 إِلَى 57]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
هَذَا من الْكَلَام الَّذِي يُلْقَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَهَذَا مِمَّا يُقَالُ لِمَنْ حَقُّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ إِعْلَامًا لَهُمْ بِنُزُولِ مَرْتَبَتِهِمْ عَنْ مَرَاتِبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِعْلَانًا بِالْحَقَائِقِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَالَمُ الْحَقَائِقِ وَإِدْخَالًا لِلنَّدَامَةِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ طَلَبِ الْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ عُجِّلَ بِهِمْ إِلَى النَّعِيمِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَى النَّارِ أَهْلُهَا، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ غَيْرُ حَاضِرِينَ ذَلِكَ الْمَحْضَرَ.
وَتَعْرِيفُ الْيَوْمَ لِلْعَهْدِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الظَّرْفِ وَهُوَ الْيَوْمَ التَّنْوِيهُ بِذَلِكَ
الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمُ الْفَضْلِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ.
وَالشَّغْلُ: مَصْدَرُ شَغَلَهُ، إِذَا أَلْهَاهُ. يُقَالُ: شَغَلَهُ بِكَذَا عَنْ كَذَا فَاشْتَغَلَ بِهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ جُعِلَ تَلَبُّسُهُمْ بِالشُّغْلِ كَأَنَّهُمْ مَظْرُوفُونَ فِيهِ، أَيْ أَحَاطَ بِهِمْ شُغْلٌ عَنْ مُشَاهَدَةِ مَوْقِفِ أَهْلِ الْعَذَابِ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْ مَنْظَرِ الْمُزْعِجَاتِ لِأَنَّ مُشَاهَدَتَهَا لَا تَخْلُو مِنِ انْقِبَاضِ النُّفُوسِ، وَلِكَوْنِ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ مَا يَشْغَلُهُمْ إِذْ لَا غَرَضَ فِي ذِكْرِهِ، فَقَوْلُهُ:
فِي شُغُلٍ خَبَرُ إِنَّ وفاكِهُونَ خَبَرٌ ثَانٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبٌ شُغْلٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمَّتَيْنِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ.
والفاكه: ذُو الْفُكَاهَةِ بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهِيَ الْمِزَاحُ بِالْكَلَامِ الْمُسِرِّ وَالْمُضْحِكِ، وَهِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ: فَكِهَ بِكَسْرِ الْكَافِ، إِذَا مَزَحَ وَسُرَّ. وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّهُ لَمْ
يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي قِلَّةَ اسْتِعْمَالِهِ، وَأَمَّا الْأَفْعَالُ غَيْرُ الثُّلَاثِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَثَلِ: لَا تُفَاكِهْ أَمَهْ وَلَا تَبُلْ عَلَى أَكْمَهْ، وَقَالَ تَعَالَى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الْوَاقِعَة: 65] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فاكِهُونَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِدُونِ أَلْفٍ بِصِيغَةِ مِثَالِ الْمُبَالَغَةِ.
وَجُمْلَةُ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ إِلَى آخِرِهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِلَخ. وَالْمرَاد بأزواجهم: الْأَزْوَاجُ اللَّاتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَمِنْهُنَّ مَنْ كُنَّ أَزْوَاجًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِنْ كُنَّ غَيْرَ مَمْنُوعَاتٍ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرَّعْد: 23] .
وَالظِّلَالُ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِوَزْنِ فِعَالٍ بِكَسْرِ أَوله على أَنه جَمْعِ ظِلٍّ، أَيْ ظِلُّ الْجَنَّاتِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ ظُلَلٍ بِضَمِّ الظَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ (ظُلَّةَ) وَهِيَ مَا يَظِلُّ كَالْقِبَابِ. وَجُمِعَ الظِّلَالُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ لِأَجْلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْجَمْعِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ فِي ظِلٍّ أَوْ فِي ظُلَّةٍ.
والْأَرائِكِ: جَمْعُ أَرِيكَةٍ، وَالْأَرِيكَةُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ السَّرِيرِ وَالْحَجَلَةِ، فَإِذَا كَانَ السَّرِيرُ فِي الْحَجَلَةِ سُمِّيَ الْجَمِيعُ أَرِيكَةً. وَهَذَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى شَيْءٍ مُرَكَّبٍ مِنْ شَيْئَيْنِ مِثْلِ الْمَائِدَةِ اسْمٌ لِلْخِوَانِ الَّذِي عَلَيْهِ طَعَامٌ.
وَالِاتِّكَاءُ: هَيْئَةٌ بَيْنَ الِاضْطِجَاعِ وَالْجُلُوسِ وَهُوَ اضْطِجَاعٌ عَلَى جَنْبٍ دُونَ وَضْعِ
الرَّأْسِ وَالْكَتِفِ عَلَى الْفِرَاشِ. وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ وَكَأَ الْمَهْمُوزِ، إِذَا اعْتُمِدَ، أُبْدِلَتْ وَاوُهُ تَاءً كَمَا أُبْدِلَتْ فِي تُجَاهٍ وَتُرَاثٍ، وَأُخِذَ مِنْهُ فعل اتكأ لِأَنَّ الْمُتَّكِئَ يَشُدُّ قَعْدَتَهُ وَيُرَسِّخُهَا بِضَرْبٍ مِنَ الِاضْطِجَاعِ. وَالِاسْمُ مِنْهُ التُّكَأَةُ بِوَزْنِ هُمَزَةٍ، وَهُوَ جُلُوسُ الْمُتَطَلِّبِ لِلرَّاحَةِ وَالْإِطَالَةِ وَهُوَ جِلْسَةُ أَهْلِ الرَّفَاهِيَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً فِي سُورَةِ يُوسُفَ [31] . وَكَانَ الْمُتَرَفِّهُونَ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَحَضِّرَةِ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ كَانَ ذَلِكَ عَادَةَ سَادَةِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَمَنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ وَلِذَا قَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا» وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ يُعِينُ عَلَى امْتِدَادِ
الْمَعِدَةِ فَتَقْبَلُ زِيَادَةَ الطَّعَامِ وَلِذَلِكَ كَانَ الِاتِّكَاءُ فِي الطَّعَامِ مَكْرُوهًا لِلْإِفْرَاطِ فِي الرَّفَاهِيَةِ. وَأَمَّا الِاتِّكَاءُ فِي غَيْرِ حَالِ الْأَكْلِ فَقَدِ اتَّكَأَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَافِدِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ: أَنَّهُ دَخْلَ الْمَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهُ: «هُوَ ذَلِكَ الْأَزْهَرُ الْمُتَّكِئُ» .
وَالْفَاكِهَةُ: مَا يُؤْكَلُ لِلتَّلَذُّذِ لَا لِلشِّبَعِ كَالثِّمَارِ وَالنُّقُولِ وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عَزِيزَةُ النَّوَالِ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَلِأَنَّهَا اسْتَجْلَبَهَا ذِكْرُ الِاتِّكَاءِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَّكِئِينَ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِتَنَاوُلِ الْفَوَاكِهِ.
ثُمَّ عَمَّمَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ويَدَّعُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَصَرِّفًا مِنَ الدُّعَاءِ أَوْ مِنَ الِادِّعَاءِ، أَيْ مَا يَدَّعُونَ إِلَيْهِ أَوْ مَا يَدَّعُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ لَهُمْ بِإِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ. وَصِيغَ لَهُ وَزْنُ الِافْتِعَالِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَوَزْنُ يَدَّعُونَ يَفْتَعِلُونَ. أَصْلُهُ يَدْتَعْيُونَ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْيَاءِ إِلَى الْعَيْنِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّ الضَّمَّ عَلَى الْيَاءِ ثَقِيلٌ بَعْدَ حَذْفِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ فَبَقِيَتِ الْيَاءُ سَاكِنَةً وَبَعْدَهَا وَاوُ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ مُفِيدُ مَعْنَى الْإِسْنَادِ إِلَى الْجَمْعِ.
وَهَذَا الِافْتِعَالُ لَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ (دَعَا)، وَالِافْتِعَالُ هُنَا يَجْعَلُ فِعْلَ (دَعَا) قَاصِرًا فَيَنْبَغِي تَعْلِيقُ مَجْرُورٍ بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
فَاشْتَوَى لَيْلَةَ رِيحٍ وَاجْتَمَلْ (1) اشْتَوَى إِذَا شَوَى لِنَفْسِهِ وَاجْتَمَلَ إِذَا جَمُلَ لِنَفْسِهِ، أَيْ جَمْعَ الْجَمِيلَ وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُذَابُ وَهُوَ الْإِهَالَةُ.
وَإِنْ جَعَلْتَهُ مِنَ الِادِّعَاءِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُمْ، أَيْ تَتَحَدَّثُ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ فَيَؤُولُ إِلَى مَعْنَى: وَيَتَمَنَّوْنَ فِي أَنْفُسِهِمْ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى أَنْ يَسْأَلُوا
(1) قبله:
وَغُلَام أَرْسلتهُ أمه
…
بألوك فبذلنا مَا سَأَلَ
أَرْسلتهُ فَأَتَاهُ رزقه
…
............... .... إِلَخ