الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْمَعْنَى: فَكَيْفَ يَصْرِفُكُمْ صَارِفٌ عَن توحيده بعد مَا عَلِمْتُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ الْآنِفَةِ.
وَالْمُضَارِعُ هَنَا مُرَادٌ مِنْهُ زَمَنُ الِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ.
[7]
[سُورَة الزمر (39) : آيَة 7]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ.
أَتْبَعَ إِنْكَارَ انْصِرَافِهِمْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ عَلَى ثُبُوتِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، بِأَنْ أُعْلِمُوا بِأَنَّ كُفْرَهُمْ إِنْ أَصَرُّوا عَلَيْهِ لَا يَضُرُّ اللَّهَ وَإِنَّمَا يَضُرُّ أَنْفُسَهُمْ. وَهَذَا شُرُوعٌ فِي الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ لِلْكَافِرِينَ وَمُقَابَلَتِهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ لِمَا سَبَقَ مِنْ إِثْبَاتِ تَوْحِيدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ.
فَجُمْلَةُ إِنْ تَكْفُرُوا مُبَيِّنَةٌ لِإِنْكَارِ انْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّوْحِيدِ، أَيْ إِنْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ هَذَا الزَّمَنِ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ. وَمَعْنَاهُ: غَنِيٌّ عَنْ إِقْرَارِكُمْ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَيْ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ لَهُ. وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ طَلَبِ التَّوْحِيدِ مِنْهُمْ لِنَفْعِهِمْ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ لَا لِنَفْعِ اللَّهِ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِهَذَا لِيُقْبِلُوا عَلَى النَّظَرِ مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً فِي تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْخَطَأِ مِنْ فِعْلِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ لِقَصْدِ الِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ السَّامِعُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْتَرِثُ بِكُفْرِهِمْ وَلَا يَعْبَأُ بِهِ فَيَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ وَالشُّكْرَ سَوَاءٌ عِنْدَهُ، لِيَتَأَكَّدَ بِذَلِكَ مَعْنَى اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي تَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْخَطَأِ. وَبِهَذَا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِعِبادِهِ الْعِبَادُ الَّذِينَ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، وَذَلِكَ جَرْيٌ عَلَى أَصْلِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ لَفْظَ الْعِبَادِ، كَقَوْلِه: وَيَوْم نحشرهم
وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (1) [الْفرْقَان:
17] . الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ فِي لَفْظِ الْعِبَادِ الْمُضَافِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ ضَمِيرِهِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى خُصُوصِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُقَرَّبِينَ، وَقَرِينَةُ السِّيَاقِ ظَاهِرَةٌ هُنَا ظُهُورًا دُونَ ظُهُورِهَا فِي قَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الْفرْقَان: 17] .
وَالرِّضَى حَقِيقَتُهُ: حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَعْقُبُ حُصُولَ مُلَائِمٍ مَعَ ابْتِهَاجٍ بِهِ، وَهُوَ عَلَى
(1) فِي المطبوعة: (وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا فَيَقُول) وَهَذَا خطأ.
التَّحْقِيقِ فِيهِ مَعْنًى لَيْسَ فِي مَعْنَى الْإِرَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ وَالِابْتِهَاجِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِتَرْكِ الِاعْتِرَاضِ، وَلِهَذَا يُقَابَلُ الرِّضَى بِالسُّخْطِ، وَتُقَابَلُ الْإِرَادَةُ بِالْإِكْرَاهِ، وَالرِّضَى آئِلٌ إِلَى مَعْنَى الْمَحَبَّةِ. وَالرِّضَى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَفَاسَةُ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ الرَّاضِي وَتَفْضِيلُهُ وَاخْتِيَارُهُ، فَإِذَا أُسْنِدَ الرِّضَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ لَازَمَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الِانْفِعَالَاتِ، كَشَأْنِ إِسْنَادِ الْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ الدَّالَّةِ فِي اللُّغَةِ عَلَى الانفعالات مثل:
الرحمان والرؤوف، وَإِسْنَادُ الْغَضَبِ والفرح والمحبة، فيؤوّل الرِّضَى بَلَازِمِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْعِنَايَةِ وَالْإِثَابَةِ إِنْ عُدِّيَ إِلَى النَّاسِ، وَمِنَ النَّفَاسَةِ وَالْفَضْلِ إِنْ عُدِّيَ إِلَى أَسْمَاءِ الْمَعَانِي.
وَقَدْ فَسَّرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِالِاخْتِيَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [3] .
وَفِعْلُ الرِّضَى يُعَدَّي فِي الْغَالِبِ بِحَرْفِ (عَنْ)، فَتَدْخُلُ عَلَى اسْمِ عَيْنٍ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِيهَا هُوَ مُوجِبُ الرِّضَى. وَقَدْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ فَيَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى اسْمِ مَعْنًى نَحْوَ: رَضِيتُ بِحُكْمِ فُلَانٍ، وَيَدْخُلُ عَلَى اسْمِ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمْيِيزٌ بَعْدَهُ نَحْوَ: رَضِيَتُ بِاللَّهِ رَبًّا، أَوْ نَحْوِهِ مِثْلُ: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التَّوْبَة: 38]، أَوْ قَرِينَةُ مَقَامٍ كَقَوْلِ قُرَيْشٍ فِي وَضْعِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ: هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ رَضِينَا بِهِ، أَيْ رَضِينَا بِهِ حَكَمًا إِذْ هُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْكِيمِ أَوَّلِ دَاخِلٍ.
وَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَلَعَلَّهُ يُرَاعَى فِيهِ التَّضْمِينُ، أَوِ الْحَذْفُ وَالْإِيصَالُ، فَيَدْخُلُ غَالِبًا عَلَى اسْمِ مَعْنًى نَحْوَ: رَضِيَتُ بِحُكْمِ فُلَانٍ بِمَعْنَى: أَحْبَبْتُ حُكْمَهُ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يُعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ بِوَاسِطَةِ لَامِ الْجَرِّ نَحْوَ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [الْمَائِدَة: 3] ، أَيْ رَضِيتُهُ لِأَجْلِكُمْ وَأَحْبَبْتُهُ لَكُمْ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ، أَيْ لِمَنْفَعَتِكُمْ وَفَائِدَتِكُمْ. وَفِي هَذَا التَّرْكِيبِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالشَّيْءِ الْمَرْضِيِّ لَدَى السَّامِعِ حَتَّى كَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَرْضَاهُ لِأَجْلِ السَّامِعِ.
فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ: لِعِبادِهِ عَامًّا غَيْرَ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ ثَارَ فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ إِذْ مِنَ الضَّرُورِيِّ
أَنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَثِيرًا كَافِرِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ وَاقِعٍ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يُرِيدُ فَأَنْتَجَ ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ الشَّكْلِ الثَّالثِ أَنْ يُقَالَ: كُفْرُ الْكَافِرُ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: 112] وَلَا شَيْءَ من الْكفْر بمرضي لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ، يَنْتِجُ الْقِيَاسُ بَعْضُ مَا أَرَادَهُ الله لَيْسَ بمرضي لَهُ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَةُ وَالرِّضَى حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ لَفْظَاهُمَا غَيْرَ مُتَرَادِفَيْنِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِنَّ الْإِرَادَةَ غَيْرُ الرِّضَى، وَالرِّضَى غَيْرُ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ، فَالْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالرِّضَى وَالْمَحَبَّةُ وَالِاخْتِيَارُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا حَمْلٌ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى مَعَانٍ يُمْكِنُ مَعَهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَات قَالَ التفتازانيّ: وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ.
وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا الْقَوْلُ فِي تَعَلُّقِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ رَاجِعًا إِلَى خِطَابِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الْأَنْعَام: 112] رَاجِعًا إِلَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ. وَيَتَرَكَّبُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا وَمَجْمُوعِ نَظَائِرِ كُلٍّ مِنْهُمَا الِاعْتِقَادُ بِأَنَّ لِلْعِبَادِ كَسْبًا فِي أَفْعَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِخَلْقِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عِنْدَ تَوَجُّهِ كَسْبِ الْعَبْدِ نَحْوَهَا، فَاللَّهُ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعَبْدِ غَيْرُ مُكْتَسِبٍ لَهَا. وَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ غَيْرُ خَالِقٍ، فَإِنَّ الْكَسْبَ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ هُوَ الِاسْتِطَاعَةُ الْمُفَسَّرَةُ عِنْدَهُ بِسَلَامَةِ أَسْبَابِ الْفِعْلِ وَآلَاتِهِ، وَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْقُدْرَةِ وَالْجَبْرِ، أَيْ هِيَ دُونَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَفَوْقَ تَسْخِيرِ الْجَبْرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الدِّينِيَّةِ النَّاطِقَةِ بِمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبَيْنَ دَلَالَةِ الضَّرُورَةِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَحَرَكَةِ الْمَاشِي، وَجَمْعًا بَيْنَ أَدِلَّةِ عُمُومِ الْقُدْرَةِ وَبَيْنَ تَوْجِيهِ الشَّرِيعَةِ خِطَابَهَا لِلْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الِاتِّحَادَ بَيْنَ مَعَانِي الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالرِّضَى وَهُوَ قَولُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَجَمِيعِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ فَسَلَكُوا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَحْمَلَ لَفْظِ لِعِبادِهِ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَيْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَأْنَسُوا لِهَذَا الْمَحْمَلِ بِأَنَّهُ الْجَارِي عَلَى غَالِبِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظَةِ (الْعِبَادِ) لِاسْمِ اللَّهِ، أَوْ ضَمِيرِهِ
كَقَوْلِهِ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَان: 6]، قَالُوا: فَمَنْ كَفَرَ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ كُفْرَهُ وَمَنْ آمَنَ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ إِيمَانَهُ، وَالْتَزَمَ
كِلَا الْفَرِيقَيْنِ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ أَصْلَهُ فِي تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُسَمَّى بِالْكَسْبِ، وَلَمْ يَخْتَلِفَا إِلَّا فِي نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ لِلْعِبَادِ: أَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ أَمْ مَجَازِيَّةٌ، وَقَدْ عُدَّ الْخِلَافُ فِي تَشْبِيهِ الْأَفْعَالِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظِيًّا.
وَمِنَ الْعَجِيبِ تَهْوِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِهَذَا الْقَوْلِ إِذْ يَقُولُ: «وَلَقَدْ تَمَحَّلَ بَعْضُ الْغُوَاةِ لِيُثْبِتَ لِلَّهِ مَا نَفَاهُ عَنْ ذَاتِهِ مِنَ الرِّضَى بِالْكُفْرِ فَقَالَ: هَذَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ إِلَخْ» ، فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ رَدًّا لِأَوَّلِهِ وَهَلْ يُعَدُّ التَّأْوِيلُ تَضْلِيلًا أَمْ هَلْ يُعَدُّ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ بِالدَّلِيلِ مِنَ النَّادِرِ الْقَلِيلِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْقُدْرَةَ لِلْعِبَادِ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مُقْدُورَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَحْمِلُونَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مِنْ نِسْبَةِ أَفْعَالٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى قُدْرَتِهِ أَنَّهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ أُصُولِهَا وَأَسْبَابِهَا، وَيَحْمِلُونَ مَا وَرَدَ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلِذَلِكَ أَوْرَدُوا هَذِهِ الْآيَةَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا. وَقَدْ أَوْرَدَهَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَادِ» فِي فَصْلٍ حَشَرَ فِيهِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ تَكْفُرُوا وَالْمَعْنَى: وَإِنْ تَشْكُرُوا بَعْدَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ فَتُقْلِعُوا عَنِ الْكُفْرِ وَتَشْكُرُوا اللَّهَ بِالِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّنْزِيهِ يَرْضَ لَكُمُ الشُّكْرَ، أَيْ يُجَازِيكُمْ بِلَوَازِمِ الرِّضَى. وَالشُّكْرُ يَتَقَوَّمُ مِنِ اعْتِقَادٍ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ جَزَاءً عَلَى نِعْمَةٍ حَاصِلَةٍ لِلشَّاكِرِ مِنَ الْمَشْكُورِ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: يَرْضَهُ عَائِدٌ إِلَى الشُّكْرِ المتصيّد من فعل إِنْ تَشْكُرُوا.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
كَأَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَهَا أَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ كَافِرًا وَشَاكِرًا وَهُمْ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ بَيْنَهُمْ وَشَائِجُ الْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ، فَرُبَّمَا تَحَرَّجَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَنْ يَمَسَّهُمْ إِثْمٌ مِنْ جَرَّاءَ كُفْرِ أَقْرِبَائِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، أَوْ أَنَّهُمْ خَشَوْا أَنْ يُصِيبَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ بِعَذَابٍ فِي
الدُّنْيَا فَيَلْحَقَ مِنْهُ الْقَاطِنِينَ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ كُفْرَ أُولَئِكَ لَا يُنْقِصُ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ وَأَرَادَ اطْمِئْنَانَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَأَصِلُ الْوِزْرِ، بِكَسْرِ الْوَاوِ: الثِّقَلُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْإِثْمِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ صَاحِبَهُ تَعَبٌ كَتَعَبِ حَامِلِ الثِّقْلِ. وَيُقَالُ: وَزِرَ بِمَعْنَى حَمَلَ الْوِزْرَ، بِمَعْنَى كَسْبَ الْإِثْمَ. وَتَأْنِيثُ وازِرَةٌ وأُخْرى بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ مَعْنَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَة: 48] .
وَالْمَعْنَى: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ وِزْرَ نَفْسٍ أُخْرَى، أَيْ لَا تُغْنِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا مِنْ إِثْمِهَا، فَلَا تَطْمَعُ نَفْسٌ بِإِعَانَةِ ذَوِيِهَا وَأَقْرِبَائِهَا، وَكَذَلِكَ لَا تَخْشَى نَفْسٌ صَالِحَةٌ أَنْ تُؤَاخَذَ بِتَبِعَةِ نَفْسٍ أُخْرَى مِنْ ذَوِيِهَا أَوْ قَرَابَتِهَا. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُتَارَكَةِ وَقَطْعِ اللِّجَاجِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ قُصَارَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُرْشِدُوا الضُّلَّالَ لَا أَنْ يُلْجِئُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
ثُمَّ لِلْتَرْتِيبَيْنَ الرُّتْبِيِّ وَالتَّرَاخِي، أَيْ وَأَعْظَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّهِ غَنِيًّا عَنْكُمْ أَنَّهُ أَعَدَّ لَكُمُ الْجَزَاءَ عَلَى كُفْرِكُمْ وَسَتَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَإِنَّمَا جَاءَ فِي آيَةِ [الْأَنْعَامِ: 164] : بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ إِثْرَ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَضَمَّنَتِ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْوَالِ الْمُشْركين وَلم يَجِيء مِثْلُ ذَلِكَ هُنَا، فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أَيْ مِنْ كُفْرِ مَنْ كَفَرَ وَشُكْرِ مَنْ شَكَرَ.
وَالْأَنْبَاءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ الْحَاصِلِ بِهِ الْعِلْمُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَةِ الْإِخْبَارِ بِأَنْ يُعْلِنَ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ أَعْمَالَهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُظْهِرُ لَكُمُ الْحَقَّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَوْ يُخْبِرَكُمْ بِهِ مُبَاشَرَةً، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيل لجملة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ