الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ إِسْنَادِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَإِسْنَادِ الْعَمَلِ إِلَيْهِمْ بِإِسْنَادِ فِعْلِ تَعْمَلُونَ.
وَقَدِ احْتَجَّ الْأَشَاعِرَةُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَوْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: مَا تَعْمَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَهُوَ تَمَسُّكٌ ضَعِيفٌ لِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ وَلِأَنَّ الْمَقَامَ يُرَجِّحُ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إِذْ هُوَ فِي مَقَامِ الْمُحَاجَّةِ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ أَنْفُسَهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ فَالْأَوْلَى الْمَصِيرُ إِلَى أَدِلَّة أُخْرَى.
[97- 98]
[سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 97 إِلَى 98]
قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
الْجَحِيمِ: النَّارُ الشَّدِيدَةُ الْوَقُودِ، وَكُلُّ نَارٍ عَلَى نَارٍ وَجَمْرٍ فَوْقَ جَمْرٍ فَهُوَ جَحِيمٌ.
وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَبَّرَ هُنَا بِ الْأَسْفَلِينَ وَهُنَالِكَ ب الْأَخْسَرِينَ [الْأَنْبِيَاء: 70] وَالْأَسْفَلُ هُوَ الْمَغْلُوبُ لِأَنَّ الْغَالِبَ يُتَخَيَّلُ مُعْتَلِيًا عَلَى الْمَغْلُوبِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِلْمَغْلُوبِ، وَالْأَخْسَرُ هُنَالِكَ اسْتِعَارَةٌ لِمَنْ لَا يَحْصُلُ مِنْ سَعْيِهِ على بغيته.
[99- 100]
[سُورَة الصافات (37) : الْآيَات 99 إِلَى 100]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
لَمَّا نَجَا إِبْرَاهِيمُ مِنْ نَارِهِمْ صَمَّمَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِهِ (أُورَ الْكِلْدَانِيِّينَ) .
وَهَذِهِ أَوَّلُ هِجْرَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلْبُعْدِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَالتَّوْرَاةُ بَعْدَ أَنْ طَوَتْ سَبَبَ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْخُرُوجِ ذُكِرَ فِيهَا أَنَّهُ خَرَجَ قَاصِدًا بِلَادَ حَرَّانَ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ (وَهِيَ بِلَادُ الْفِينِيقِيِّينَ) .
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَالَهُ عَلَنًا فِي قَوْمِهِ لِيَكُفُّوا عَنْ أَذَاهُ، وَكَانَ الْأُمَمُ الْمَاضُونَ يَعُدُّونَ الْجَلَاءَ مِنْ مَقَاطِعَ الْحُقُوقِ، قَالَ زُهَيْرٌ:
وَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ
…
يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلَاءُ
وَلِذَلِكَ لَمَّا أُمِرَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِالْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّة لم يتَعَرَّض لَهُ قُرَيْش فِي بادىء الْأَمْرِ ثُمَّ خَافُوا أَنْ تَنْتَشِرَ دَعْوَتُهُ فِي الْخَارِجِ فَرَامُوا اللَّحَاقَ بِهِ فَحَبَسَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ فِي أَهْلِهِ الَّذِينَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ بِهِمْ مَعَهُ فَمَعْنَى ذاهِبٌ إِلى رَبِّي مُهَاجِرٌ إِلَى حَيْثُ أَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ وَلَا أَعْبُدُ آلِهَةً غَيْرَهُ وَلَا أُفْتَنُ فِي عِبَادَتِهِ كَمَا فُتِنْتُ فِي بَلَدِهِمْ.
وَمُرَادُ اللَّهِ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى بُلُوغِ مَكَّةَ لِيُقِيمَ هُنَالِكَ أَوَّلَ مَسْجِدٍ لِإِعْلَانِ تَوْحِيدِ اللَّهِ فَسَلَكَ
بِهِ الْمَسَالِكَ الَّتِي سَلَكَهَا حَتَّى بَلَغَ بِهِ مَكَّةَ وَأَوْدَعَ بِهَا أَهْلًا وَنَسْلًا، وَأَقَامَ بِهَا قَبِيلَةً دِينُهَا التَّوْحِيدُ، وَبَنَى لِلَّهِ مَعْبَدًا، وَجَعَلَ نَسْلَهُ حَفَظَةَ بَيْتِ اللَّهِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُ عَلَى تِلْكَ الْغَايَةِ بِالْوَحْيِ أَوْ سَتَرَهَا عَنْهُ حَتَّى وَجَدَ نَفْسَهُ عِنْدَهَا فَلِذَلِكَ أَنْطَقَهُ بِأَنَّ ذَهَابَهُ إِلَى اللَّهِ نُطْقًا عَنْ عِلْمٍ أَوْ عَنْ تَوْفِيقٍ.
وَجُمْلَةُ سَيَهْدِينِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ أَرَادَ إِعْلَامَ قَوْمِهِ بِأَنَّهُ وَاثِقٌ بِرَبِّهِ وَأَنَّهُ لَا تَرَدُّدَ لَهُ فِي مُفَارَقَتِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا فَعَلَى الْأَوَّلِ هِيَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الْجُمْلَةِ حَالًا اقْتِرَانُهَا بِحَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ فَإِنَّ حَرْفَ الِاسْتِقْبَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي مُقَدِّرًا، كَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ مَجِيءُ الْحَالِ مَعْمُولًا لِعَامِلٍ مُسْتَقْبَلٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر:
60] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشُّعَرَاء: 62] وَقَوْلِ سَعْدِ بْنِ نَاشِبٍ:
سَأَغْسِلُ عَنِّي الْعَارَ بِالسَّيْفِ جَالِبًا
…
عَلِيَّ قَضَاءُ اللَّهِ مَا كَانَ جَالِبَا
وَامْتِنَاعُ اقْتِرَانِ جُمْلَةِ الْحَالِ بِعَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ مَذْهَبٌ بَصْرِيٌّ، وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى غَالِبِ أَحْوَالِ اسْتِعْمَالِ الْحَالِ، وَجَوَازُهُ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي «الْإِنْصَافِ» ، وَالْحَقُّ فِي جَانِبِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ. وَقَدْ تَلَقَّفَ الْمَذْهَبَ الْبَصْرِيَّ مُعْظَمُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَتَحَيَّرَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ فِي تَأْيِيدِهِ فَلَجَأُوا إِلَى أَنَّ عِلَّتَهُ اسْتِبْشَاعُ الْجَمْعِ بَيْنَ كَوْنِ الْكَلِمَةِ حَالًا وَبَيْنَ اقْتِرَانِهَا بِعَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ. وَنُبَيِّنُهُ بِأَنَّ الْحَالَ مَا سُمِّيَتْ حَالًا إِلَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا ثُبُوتُ وَصْفٍ فِي الْحَالِ وَهَذَا يُنَافِي اقْتِرَانَهَا
بِعَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ تَنَافِيَا فِي الْجُمْلَةِ.
هَذَا بَيَانُ مَا وَجَّهَ بِهِ الرَّضِيُّ مَذْهَبَ الْبَصرِيين وَتَبعهُ التفتازانيّ فِي مَبْحَثِ الْحَالِ مِنْ شَرْحِهِ الْمُطَوَّلِ عَلَى «تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ» . وَفِي مَبْحَثِ الِاسْتِفْهَامِ بِ (هَلْ) مِنْهُ. وَقَدْ زَيَّفَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي «حَاشِيَةِ الْمُطَوَّلِ» ذَلِكَ التَّوْجِيهَ فِي مَبْحَثِ الْحَالِ تَزْيِيفًا رَشِيقًا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ سَيَهْدِينِ مُسْتَأْنَفَةً وَبِذَلِكَ أَجَابَ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ عَنْ تَمَسُّكِ نُحَاةِ الْكُوفَةِ بِالْآيَةِ فِي جَوَازِ اقْتِرَانِ الْحَالِ بِعِلْمِ الِاسْتِقْبَالِ، فَالِاسْتِئْنَافُ بَيَانِيٌّ بَيَانًا لِسَبَبِ هِجْرَتِهِ.
وَجُمْلَةُ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ بَقِيَّةُ قَوْلِهِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُهَاجِرٌ اسْتَشْعَرَ قِلَّةَ أَهْلِهِ وَعُقْمَ امْرَأَتِهِ وَثَارَ ذَلِكَ الْخَاطِرُ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ إِزْمَاعِ الرَّحِيلِ لِأَنَّ الشُّعُورَ بِقِلَّةِ الْأَهْلِ عِنْدَ مُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ يَكُونُ أَقْوَى لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا كَانَ بَيْنَ قَوْمِهِ كَانَ لَهُ بَعْضُ السُّلُوِّ بِوُجُودِ قَرَابَتِهِ وَأَصْدِقَائِهِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ النَّسْلَ مَا جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ (الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ عَشَرَ)«وَقَالَ أَبْرَامُ إِنَّكَ لَمْ تُعْطِنِي نَسْلًا وَهَذَا ابْنُ بَيْتِي (بِمَعْنَى مَوْلَاهُ) وَارِث لي (أَنهم كَانُوا إِذَا مَاتَ عَنْ غَيْرِ نَسْلٍ وَرِثَهُ مَوَالِيهِ) » . وَكَانَ عُمْرُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً.
وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : لَفْظُ الْهِبَةِ غَلَبَ فِي الْوَلَدِ. لَعَلَّهُ يَعْنِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَلَبَ فِي الْقُرْآنِ فِي الْوَلَدِ: وَلَا أَحْسَبُهُ غَلَبَ فِيهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ فِي الْأَخِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مَرْيَم: 53] .
فَحَذَفَ مَفْعُولَ الْفِعْلِ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ.
وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْوَلَدِ تَكُونُ أَكْمَلَ إِذَا كَانَ صَالِحًا فَإِنَّ صَلَاحَ الْأَبْنَاءِ قُرَّةُ عَيْنٍ لِلْآبَاءِ، وَمِنْ صَلَاحِهِمْ برّهم بوالديهم.