الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِلتَّأْكِيدِ، وَلَيْسَ بِتَكْرَارٍ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ سيق لبيان الإهلاك مناسبا لقوله:«فيكف كَانَ نَكِيرِ» ، وَلِهَذَا عُطِفَ بِالْفَاءِ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ وَالثَّانِي سِيقَ لِبَيَانِ الْإِمْلَاءِ مُنَاسِبًا لِقَوْلِهِ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ كَانُوا مِثْلَكُمْ ظَالِمِينَ قَدْ أَمْهَلْتُهُمْ حِينًا، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بِالْعَذَابِ، وَمَرْجِعُ الْكُلِّ إِلَى حُكْمِي. فَجُمْلَةُ:«وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» تَذْيِيلٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِأَنَّهُ نَذِيرٌ لَهُمْ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مُبَيِّنٌ لَهُمْ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، فَمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَازَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرِّزْقِ الْكَرِيمِ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَهُمُ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِ اللَّهِ مُعَاجِزِينَ يُقَالُ: عَاجَزَهُ:
سَابَقَهُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي طَلَبِ إِعْجَازِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَبَقَهُ قِيلَ أَعْجَزَهُ وَعَجَّزَهُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ:
مَعْنَى مُعَاجِزِينَ: ظَانِّينَ وَمُقَدِّرِينَ أَنْ يُعْجِزُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيَفُوتُوهُ فَلَا يُعَذِّبُهُمْ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: مُعَانِدِينَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قَالَ: خَرِبَةٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ عَطَّلَهَا أَهْلُهَا وَتَرَكُوهَا وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قَالَ: شَيَّدُوهُ وَحَصَّنُوهُ فَهَلَكُوا وَتَرَكُوهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ قَالَ: الَّتِي تُرِكَتْ لَا أَهْلَ لَهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قَالَ: هُوَ الْمُجَصَّصُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ نَحْوَهُ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قَالَ: مِنَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فيها السموات وَالْأَرْضَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ فِي الْآيَةِ:
هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: الدُّنْيَا جُمْعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، فَقَدْ مَضَى مِنْهَا سِتَّةُ آلَافٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعاجِزِينَ قَالَ: مُرَاغِمِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مُشَاقِينَ.
[سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 57]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)
قَوْلُهُ: مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ قِيلَ: الرَّسُولُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَى الْخَلْقِ بِإِرْسَالِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ عِيَانًا ومحاورته
شِفَاهًا، وَالنَّبِيُّ: الَّذِي يَكُونُ إِلْهَامًا أَوْ مَنَامًا. وَقِيلَ: الرَّسُولُ: مَنْ بُعِثَ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، وَالنَّبِيُّ: مَنْ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتَابٌ، وَلَا بُدَّ لَهُمَا جَمِيعًا مِنَ الْمُعْجِزَةِ الظَّاهِرَةِ. إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ مَعْنَى تَمَنَّى: تَشَهَّى وَهَيَّأَ فِي نَفْسِهِ مَا يَهْوَاهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
مَعْنَى تَمَنَّى: تَلَا. قَالَ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآية: إنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ إِعْرَاضُ قَوْمِهِ عَنْهُ تَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُنَفِّرُهُمْ عَنْهُ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَتِهِمْ وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ سُورَةُ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «1» فَأَخَذَ يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى- وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «2» وَكَانَ ذَلِكَ التَّمَنِّي فِي نَفْسِهِ، فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَى، فَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ فَرِحُوا وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قِرَاءَتِهِ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، فَلَمَّا سَجَدَ فِي آخِرِهَا سَجَدَ مَعَهُ جَمِيعُ مَنْ فِي النَّادِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَتَفَرَّقَتْ قُرَيْشٌ مسرورين بذلك وقالوا: قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ عَنِ اللَّهِ، فَحَزِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَخَافَ خَوْفًا شَدِيدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. هَكَذَا قَالُوا.
وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَلَا ثَبَتَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ بَلْ بُطْلَانُهُ فَقَدْ دَفَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، قَالَ اللَّهُ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ- لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ- ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «3» وقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «4» وَقَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ «5» فَنَفَى الْمُقَارَبَةَ لِلرُّكُونِ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ. قَالَ الْبَزَّارُ: هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، ثُمَّ أَخَذَ يَتَكَلَّمُ أَنَّ رُوَاةَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَطْعُونٌ فِيهِمْ. وَقَالَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيْمَةَ: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ في «الشفا» : إِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، لَا قَصْدًا وَلَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَلَا غَلَطًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ، وَمَا كَانَ مِنْ رُجُوعِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قَدْ أَسْلَمُوا، وَلَكِنَّهَا مَنْ طُرُقٍ كُلِّهَا مُرْسَلَةٍ، وَلَمْ أَرَهَا مُسْنَدَةً مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ بُطْلَانُ ذَلِكَ عَرَفْتَ أَنَّ مَعْنَى تَمَنَّى قَرَأَ وَتَلَا، كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ حِكَايَةِ الْوَاحِدِيِّ لِذَلِكَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ. وَكَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا مَعْنَى تَمَنَّى تَلَا وَقَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ، وَمَعْنَى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَيْ: فِي تِلَاوَتِهِ وَقِرَاءَتِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قوله: لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَقِيلَ: مَعْنَى تَمَنَّى حَدَّثَ، وَمَعْنَى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فِي حَدِيثِهِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَمَنَّى:
قَالَ. فَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ أَوْقَعَ فِي مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ مِنْ دُونِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
(1) . النجم: 1.
(2)
. النجم: 19- 20.
(3)
. الحاقة: 44- 46.
(4)
. النجم: 3.
(5)
. الإسراء: 74.
وَلَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيْ: لَا يَهُولَنَّكَ ذَلِكَ وَلَا يُحْزِنْكَ، فَقَدْ أَصَابَ مِثْلُ هَذَا مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ مَعْنَى تَمَنَّى حَدَّثَ نَفْسَهُ، كَمَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: تَمَنَّى إِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ الشَّيْطَانُ وَأَلْقَاهُ فِي مَسَامِعِ النَّاسِ مِنْ دُونِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَا خِلَافَ أَنَّ إِلْقَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ لِأَلْفَاظٍ مَسْمُوعَةٍ وَقَعَتْ بِهَا الْفِتْنَةُ. وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْغَرَانِيقِ: الْمَلَائِكَةُ، وَيُرَدُّ بِقَوْلِهِ: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ أَيْ: يُبْطِلُهُ، وَشَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ بَاطِلَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم سَهْوًا وَنِسْيَانًا، وَهُمَا مُجَوَّزَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ السَّهْوَ وَالنِّسْيَانَ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاطِنِهِ، ثُمَّ لَمَّا سَلَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ التَّسْلِيَةِ، وَأَنَّهَا قَدْ وَقَعَتْ لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ والأنبياء، بيّن سبحانه أن يُبْطِلُ ذَلِكَ، وَلَا يُثْبِتُهُ، وَلَا يَسْتَمِرُّ تَغْرِيرُ الشَّيْطَانِ بِهِ، فَقَالَ: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ أَيْ: يُبْطِلُهُ وَيَجْعَلُهُ ذَاهِبًا غَيْرَ ثَابِتٍ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أَيْ: يُثْبِتُهَا وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي كُلِّ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَجُمْلَةُ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ:
ذَلِكَ الْإِلْقَاءُ الَّذِي يُلْقِيهُ الشَّيْطَانُ فِتْنَةً، أَيْ: ضَلَالَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَيْ: شَكٌّ وَنِفَاقٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَلِينُ لِلْحَقِّ أَبَدًا، وَلَا تَرْجِعُ إِلَى الصَّوَابِ بِحَالٍ، ثُمَّ سَجَّلَ سُبْحَانَهُ عَلَى هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَهُمَا: مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَمَنْ فِي قَلْبِهِ قَسْوَةٌ بِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، فَقَالَ:
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أَيْ: عَدَاوَةٍ شَدِيدَةٍ، وَوَصْفُ الشِّقَاقِ بِالْبُعْدِ مُبَالَغَةٌ، وَالْمَوْصُوفُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْ قَامَ بِهِ. وَلَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْإِلْقَاءَ كَانَ فِتْنَةً فِي حَقِّ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالشَّكِّ وَالشِّرْكِ بَيَّنَ أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ الْعَالِمِينَ بِاللَّهِ الْعَارِفِينَ بِهِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَهُمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، فَقَالَ: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أَيِ: الْحَقُّ النَّازِلُ مِنْ عِنْدِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي «أَنَّهُ» رَاجِعٌ إِلَى تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ مِنَ الإلقاء لأنه مما جرت به عادته مع أَنْبِيَائِهِ، وَلَكِنَّهُ يَرُدُّ هَذَا قَوْلُهُ: فَيُؤْمِنُوا بِهِ فإن المراد الإيمان بِالْقُرْآنِ، أَيْ: يَثْبُتُوا عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أَيْ: تَخْشَعُ وَتَسْكُنُ وَتَنْقَادُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِهِ وَإِخْبَاتَ الْقُلُوبِ لَهُ لَا يُمْكِنُ أن يكونا تمكين من الشيطان بل للقرآن وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي أُمُورِ دِينِهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ: طَرِيقٍ صَحِيحٍ لَا عِوَجَ بِهِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالتَّنْوِينِ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ
أَيْ: فِي شَكٍّ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: فِي الدِّينِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقِيلَ: فِي إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ، فَيَقُولُونَ: مَا بَالُهُ ذَكَرَ الْأَصْنَامَ بِخَيْرٍ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ؟ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ «فِي مِرْيَةٍ» بِضَمِّ الْمِيمِ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أَيِ: الْقِيَامَةُ بَغْتَةً أَيْ: فَجْأَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ لَا يَوْمَ بَعْدَهُ، فَكَانَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ عَقِيمًا، وَالْعَقِيمُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ لَا يَكُونُ لَهُ ولد، ولما كانت الأيام نتوالى جُعِلَ ذَلِكَ كَهَيْئَةِ الْوِلَادَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمٌ وُصِفَ بِالْعُقْمِ وَقِيلَ: يَوْمُ حَرْبٍ يُقْتَلُونَ فِيهِ كَيَوْمِ بَدْرٍ وَقِيلَ إِنَّ الْيَوْمَ وُصِفَ بِالْعُقْمِ لِأَنَّهُ لَا رَأْفَةَ فِيهِ وَلَا رَحْمَةَ، فَكَأَنَّهُ عَقِيمٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ «1» أي:
(1) . الذاريات: 41.
الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا تَأْتِي بِمَطَرٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أَيِ: السُّلْطَانُ الْقَاهِرُ وَالِاسْتِيلَاءُ التَّامُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، وَلَا مُدَافِعَ لَهُ عَنْهُ، وَجُمْلَةُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَيْ: كَائِنُونَ فِيهَا، مُسْتَقِرُّونَ فِي أَرْضِهَا، مُنْغَمِسُونَ فِي نَعِيمِهَا وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِهِ فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ: عَذَابٌ مُتَّصِفٌ بِأَنَّهُ مُهِينٌ لِلْمُعَذَّبِينَ، بَالِغٌ مِنْهُمُ الْمَبْلَغَ الْعَظِيمَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي «الْمَصَاحِفِ» عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ:
«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ: فَنُسِخَتْ مُحَدَّثٍ، قَالَ: وَالْمُحَدَّثُونَ: صَاحِبُ يس، وَلُقْمَانُ، وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَصَاحِبُ مُوسَى. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قرأ: أفرأيتم اللات والعزّى ومنات الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ وَقَالُوا: قَدْ ذَكَرَ آلِهَتَنَا، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ مَا جئت به، فقرأ: أفرأيتم اللات والعزّى ومنات الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لِتُرْتَجَى، فَقَالَ: مَا أَتَيْتُكَ بِهَذَا، هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ النَّجْمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيِّ عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا. ورواه عبد ابن حُمَيْدٍ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مُرْسَلًا. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ نَحْوَهُ مُرْسَلًا أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْبَابِ إِمَّا مُرْسَلَةٌ أَوْ مُنْقَطِعَةٌ لَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَقَدْ أَسْلَفْنَا عَنِ الْحُفَّاظِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ مَا فيه كفاية، وفي الباب روايات من أجبّ الْوُقُوفَ عَلَى جَمِيعِهَا فَلْيَنْظُرْهَا فِي «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» لِلسُّيُوطِيِّ، وَلَا يَأْتِي التَّطْوِيلُ بِذِكْرِهَا هُنَا بِفَائِدَةٍ، فَقَدْ عَرَّفْنَاكَ أَنَّهَا جَمِيعَهَا لَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابن عباس إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ يَقُولُ: إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: يَعْنِي بِالتَّمَنِّي التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ، «أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» : فِي تِلَاوَتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ يَنْسَخُ جِبْرِيلُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ إِذا تَمَنَّى قَالَ: تَكَلَّمَ فِي أُمْنِيَّتِهِ قَالَ: كَلَامِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قال: يوم بدر. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وعكرمة