الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ بَلْ جُعِلَ لَهُمْ مَوْعِدٌ أَيْ: أَجَلٌ مُقَدَّرٌ لِعَذَابِهِمْ، قِيلَ: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي: ملجأ يلجئون إليه. وقال أبو عبيدة: منجى، وَقِيلَ: مَحِيصًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لا وَأَلَتْ نَفْسُكِ خَلِيَّتِهَا
…
لِلْعَامِرِيِّينَ وَلَمْ تُكْلَمِ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ الْبَيْتِ غَفْلَتَهُ
…
وَقَدْ يُحَاذِرُ مِنِّي ثَمَّ مَا يَئِلُ
أَيْ: مَا يَنْجُو.
وَتِلْكَ الْقُرى أَيْ: قُرَى عَادٍ وَثَمُودٍ وَأَمْثَالُهَا أَهْلَكْناهُمْ هَذَا خَبَرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْقُرَى صِفَتُهُ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: أَهْلُ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا أَيْ: وَقْتَ وُقُوعِ الظُّلْمِ مِنْهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أَيْ: وقتا معينا، وقرأ أبو بكر عن عَاصِمٌ «مَهْلَكِهِمْ» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ، وَهُوَ مَصْدَرُ هلك، وأجاز الكسائي والفراء وكسر اللَّامِ وَفَتْحَ الْمِيمِ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ حَفْصٌ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَهْلِكٌ اسْمٌ لِلزَّمَانِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِوَقْتِ مَهْلِكِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ قَالَ: عُقُوبَةُ الْأَوَّلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي قَوْلِهِ: قُبُلًا قَالَ: جَهَارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فَجْأَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ قَالَ: نَسِيَ مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ الْكَثِيرَةِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِما كَسَبُوا يَقُولُ: بِمَا عَمِلُوا. وَأَخْرَجَ ابن أبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ قَالَ: الْمَوْعِدُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَوْئِلًا قَالَ: مَلْجَأً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَوْئِلًا قال: محرزا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 70]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَاّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)
الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ اذْكُرْ. قِيلَ: وَوَجْهُ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقَالُوا: إِنْ أَخْبَرَكُمْ فَهُوَ نَبِيٌّ وَإِلَّا فَلَا. ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ مُوسَى وَالْخَضِرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مُوسَى الْمَذْكُورَ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ- لَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا تَقُولُهُ- مِنْهُمْ نَوْفٌ الَبِكَالِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ ابْنَ عِمْرَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ مِيشَى بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَكَانَ نَبِيًّا قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَدْ رَدَّهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِفَتَاهُ هُنَا هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهُ فِي الْمَائِدَةِ، وَفِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مُوسَى هُوَ ابْنُ مِيشَى قَالَ: إِنَّ هَذَا الْفَتَى لَمْ يَكُنْ هو يوشع ابن نُونٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ فَتَى مُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ مُلَازِمًا لَهُ يَأْخُذُ عَنْهُ الْعِلْمَ وَيَخْدِمُهُ، وَمَعْنَى لَا أَبْرَحُ لَا أَزَالُ، وَمِنْهُ قوله: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ «1» . وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَبْرَحُ مَا أَدَامَ اللَّهُ قَوْمِي
…
بِحَمْدِ اللَّهِ مُنْتَطِقًا مُجِيدَا
وَبَرِحَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى زَالَ فَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ، وَخَبَرُهُ هُنَا مَحْذُوفٌ اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا أَبْرَحُ بِمَعْنَى لَا أَزَالُ، وَقَدْ حُذِفَ الْخَبَرُ لِدَلَالَةِ حَالِ السَّفَرِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى أَبْلُغَ غَايَةٌ مَضْرُوبَةٌ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ ذِي غَايَةٍ، فَالْمَعْنَى: لَا أَزَالُ أَسِيرُ إِلَى أَنْ أَبْلُغَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ لَا يَبْرَحُ مَسِيرِي حَتَّى أَبْلُغَ وَقِيلَ: مَعْنَى لَا أَبْرَحُ: لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ وَقِيلَ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَرِحَ التام، بمعنى زال يزال، ومجمع الْبَحْرَيْنِ مُلْتَقَاهُمَا. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ بَحْرُ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَقِيلَ: بَحْرُ الْأُرْدُنِّ وَبَحْرُ الْقُلْزُمِ، وَقِيلَ: مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَ طَنْجَةَ، وَقِيلَ: بِإِفْرِيقِيَّةَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
الْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ مُوسَى وَالْخَضِرُ، وَهُوَ مِنَ الضَّعْفِ بِمَكَانٍ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا يَصِحُّ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أَيْ: أَسِيرُ زَمَانًا طَوِيلًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحُقْبُ بِالضَّمِّ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَقَالَ النَّحَّاسُ: الَّذِي يَعَرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْحُقْبَ وَالْحُقْبَةَ زَمَانٌ مِنَ الدَّهْرِ مُبْهَمٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ، كَمَا أَنَّ رَهْطًا وَقَوْمًا مِنْهُمْ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ. وَسَبَبُ هَذِهِ الْعَزِيمَةِ عَلَى السَّيْرِ مِنْ مُوسَى عليه السلام: مَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ مُوسَى مَنْ أَعْلَمُ النَّاسِ؟ فَقَالَ:
أَنَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ أَعْلَمَ مِنْكَ عَبْدٌ لِي عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ فَلَمَّا بَلَغا أَيْ: مُوسَى وَفَتَاهُ مَجْمَعَ بَيْنِهِما أَيْ: بَيْنِ الْبَحْرِينِ، وَأُضِيفَ مَجْمَعُ إِلَى الظَّرْفِ تَوَسُّعًا، وَقِيلَ: الْبَيْنُ: بِمَعْنَى الِافْتِرَاقِ، أَيِ: الْبَحْرَانِ الْمُفْتَرِقَانِ يَجْتَمِعَانِ هُنَاكَ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِمُوسَى وَالْخَضِرِ، أَيْ: وَصَلَا الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ اجْتِمَاعُ شَمْلِهِمَا، وَيَكُونُ الْبَيْنُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْوَصْلِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى نَسِيا حُوتَهُما قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إنهما تزوّدا حوتا مملّحا في زنبيل، وكان يُصِيبَانِ مِنْهُ عِنْدَ حَاجَتِهِمَا إِلَى الطَّعَامِ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فُقْدَانَهُ أَمَارَةً لَهُمَا عَلَى وجدان المطلوب. والمعنى أنهما نسيا تفقّد أَمْرِهِ، وَقِيلَ: الَّذِي نَسِيَ إِنَّمَا هُوَ فَتَى مُوسَى لِأَنَّهُ وَكَّلَ أَمْرَ الْحُوتِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُ إِذَا فَقَدَهُ، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَضَعَ فَتَاهُ الْمِكْتَلَ الَّذِي فِيهِ الحوت فأحياه الله،
(1) . طه: 91.
فَتَحَرَّكَ وَاضْطَرَبَ فِي الْمِكْتَلِ، ثُمَّ انْسَرَبَ فِي الْبَحْرِ، وَلِهَذَا قَالَ: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً انْتِصَابُ سَرَبًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لاتخذ، أَيِ: اتَّخَذَ سَبِيلًا سَرَبًا، وَالسَّرَبُ: النَّفَقُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْأَرْضِ لِلضَّبِّ وَنَحْوِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمْسَكَ جَرْيَةَ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي انْسَرَبَ فِيهِ الْحُوتُ، فَصَارَ كَالطَّاقِ، فَشَبَّهَ مَسْلَكِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ مَعَ بَقَائِهِ وَانْجِيَابِ الْمَاءِ عَنْهُ بِالسَّرَبِ الَّذِي هُوَ الْكُوَّةُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْأَرْضِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمَّا وَقَعَ فِي الْمَاءِ جَمَدَ مَذْهَبُهُ فِي الْبَحْرِ فَكَانَ كَالسَّرَبِ، فَلَمَّا جَاوَزَا ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَتْ عِنْدَهُ الصَّخْرَةُ وَذَهَبَ الْحُوتُ فِيهِ انْطَلَقَا، فَأَصَابَهُمَا مَا يُصِيبُ الْمُسَافِرَ مِنَ النَّصَبِ وَالْكَلَالِ، وَلَمْ يَجِدَا النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَا الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْخَضِرُ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: فَلَمَّا جاوَزا أَيْ: مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ الَّذِي جُعِلَ مَوْعِدًا لِلْمُلَاقَاةِ قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا وهو ما يأكل بِالْغَدَاةِ، وَأَرَادَ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْحُوتِ الَّذِي حَمَلَاهُ مَعَهُمَا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً أَيْ: تَعَبًا وَإِعْيَاءً، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ سَفَرِنَا هَذَا إِلَى السَّفَرِ الْكَائِنِ مِنْهُمَا بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَجِدَا النَّصَبَ إِلَّا فِي ذَلِكَ دُونَ مَا قَبْلَهُ قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أَيْ: قَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ تَعْجِيبُهُ لِمُوسَى مِمَّا وَقَعَ لَهُ مِنَ النِّسْيَانِ هُنَاكَ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ الْأَمْرِ مِمَّا لَا يُنْسَى لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ الْبَاهِرَةِ، وَمَفْعُولُ أَرَأَيْتَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَ مَا دَهَانِي، أَوْ نَابَنِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ. وَتِلْكَ الصَّخْرَةُ كَانَتْ عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ الَّذِي هُوَ الْمَوْعِدُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا دُونَ أَنْ يَذْكُرَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ لِكَوْنِهَا مُتَضَمِّنَةً لِزِيَادَةِ تَعْيِينِ الْمَكَانِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمَعُ مَكَانًا مُتَّسِعًا يَتَنَاوَلُ مَكَانَ الصَّخْرَةِ وَغَيْرَهُ، وَأَوْقَعَ النِّسْيَانَ عَلَى الْحُوتِ دُونَ الْغَدَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْغَدَاءَ الْمَطْلُوبَ هُوَ ذَلِكَ الْحُوتُ الَّذِي جَعَلَاهُ زَادًا لَهُمَا، وَأَمَارَةً لِوَجَدَانِ مَطْلُوبِهِمَا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ النِّسْيَانِ، فَقَالَ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ بما يقع منه من الوسوسة، وأَنْ أَذْكُرَهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَنْسَانِيهِ، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ:«وَمَا أَنْسَانِيهِ أَنْ أَذْكُرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ» . وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً انْتِصَابُ عَجَبًا عَلَى أَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي كَمَا مَرَّ فِي سَرَبًا، وَالظَّرْفُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ يُوشَعَ، أَخْبَرَ مُوسَى أَنَّ الْحُوتَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ عَجَبًا لِلنَّاسِ، وَمَوْضِعُ التَّعَجُّبِ أَنْ يَحْيَا حُوتٌ قَدْ مَاتَ وَأُكِلَ شِقُّهُ، ثُمَّ يَثِبُ إِلَى الْبَحْرِ، وَيَبْقَى أَثَرُ جَرْيَتِهِ فِي الْمَاءِ لَا يَمْحُو أَثَرَهَا جَرَيَانُ مَاءِ الْبَحْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِبَيَانِ طَرَفٍ آخَرَ مِنْ أَمْرِ الْحُوتِ، فَيَكُونُ مَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ اعْتِرَاضًا قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ أَيْ: قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتَ مِنْ فَقْدِ الْحُوتِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هُوَ الَّذِي كُنَّا نَطْلُبُهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي نُرِيدُهُ هُوَ هُنَالِكَ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أَيْ: رَجَعَا عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي جَاءَا مِنْهَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا لِئَلَّا يُخْطِئَا طَرِيقَهُمَا، وَانْتِصَابُ قَصَصًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: قَاصِّينَ أَوْ مُقْتَصِّينَ، وَالْقَصَصُ فِي اللُّغَةِ: اتِّبَاعُ الْأَثَرِ فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا هُوَ الْخَضِرُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَخَالَفَ فِي ذلك ما لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ لَيْسَ هُوَ الْخَضِرَ بَلْ عَالِمٌ آخَرُ، قِيلَ: سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ، قِيلَ: وَاسْمُهُ بَلِيَا بْنُ مِلْكَانَ، ثُمَّ وَصَفَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَقَالَ: آتَيْناهُ
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا
قِيلَ: الرَّحْمَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: النِّعْمَةُ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وَهُوَ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ مِنْ لَدُنَّا تَفْخِيمٌ لِشَأْنِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَتَعْظِيمٌ لَهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِيمَا فَعَلَ مُوسَى وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالرِّحْلَةِ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ طَلَبَ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ نِهَايَتَهُ، وَأَنْ يَتَوَاضَعَ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ. ثُمَّ قَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا مَا دَارَ بَيْنَ مُوسَى وَالْخَضِرِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا فَقَالَ: قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً فِي هَذَا السُّؤَالِ مُلَاطَفَةٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي حُسْنِ الْأَدَبِ لِأَنَّهُ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ عَلَى أَنْ يُعْلِّمَهُ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ. وَالرُّشْدُ: الْوُقُوفُ عَلَى الْخَيْرِ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتُعَلِّمَنِي، أَيْ: عِلْمًا ذَا رُشْدٍ أَرْشُدُ بِهِ، وَقُرِئَ «رَشَدًا» بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْبُخْلِ وَالْبَخَلِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ الْمُتَعَلِّمَ تَبَعٌ لِلْعَالِمِ وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الْمَرَاتِبُ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى، فَقَدْ يَأْخُذُ الْفَاضِلُ عَنِ الْفَاضِلِ، وَقَدْ يَأْخُذُ الْفَاضِلُ عَنِ الْمَفْضُولِ إِذَا اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِعِلْمٍ لَا يَعْلَمُهُ الْآخَرُ، فَقَدْ كَانَ عِلْمُ مُوسَى عِلْمَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقَضَاءِ بِظَاهِرِهَا، وَكَانَ عِلْمُ الْخَضِرِ عِلْمَ بَعْضِ الْغَيْبِ
وَمَعْرِفَةِ الْبَوَاطِنِ قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أَيْ: قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: إِنَّكَ لَا تُطِيقُ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى مَا تَرَاهُ مِنْ عِلْمِي لِأَنَّ الظَّوَاهِرَ الَّتِي هِيَ عِلْمُكَ لَا تُوَافِقُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ مُشِيرًا إِلَى عِلَّةِ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَقَالَ: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً أَيْ: كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى عِلْمٍ ظَاهِرُهُ مُنْكَرٌ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ، وَمِثْلُكَ مَعَ كَوْنِكَ صَاحِبَ شَرْعٍ لَا يَسُوغُ لَهُ السكوت على منكر والإقرار عليه، وخبرا مُنْتَصِبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ: لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرَكَ، وَالْخُبْرُ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، وَالْخَبِيرُ بِالْأُمُورِ: هُوَ الْعَالِمُ بِخَفَايَاهَا، وَبِمَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاخْتِبَارِ مِنْهَا قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً أَيْ: قَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ: سَتَجِدُنِي صَابِرًا مَعَكَ، مُلْتَزِمًا طَاعَتَكَ وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً فَجُمْلَةُ وَلَا أَعْصِي مَعْطُوفَةٌ عَلَى صَابِرًا، فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ شَامِلًا لِلصَّبْرِ وَنَفِيِ الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ: إِنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمَشِيئَةِ مُخْتَصٌّ بِالصَّبْرِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ لَا يَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ فِيهِ، وَنَفْيُ الْمَعْصِيَةِ مَعْزُومٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الصَّبْرَ، وَنَفْيَ الْمَعْصِيَةِ مُتَّفِقَانِ في كون كل واحد منهما معزوم عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَفِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَدْرِي كَيْفَ حَالُهُ فِيهِ فِي المستقبل. قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تُشَاهِدُهُ مِنْ أَفْعَالِي الْمُخَالِفَةِ لِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الشَّرْعِ الَّذِي بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أَيْ: حَتَّى أَكُونَ أَنَا الْمُبْتَدِئَ لَكَ بِذِكْرِهِ، وَبَيَانِ وجهه وما يؤول إليه، وهذه الجمل المعنونة بقال وَقَالَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِأَنَّهَا جَوَابَاتٌ عَنْ سُؤَالَاتٍ مُقَدَّرَةٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ يَنْشَأُ السُّؤَالُ عَنْهَا مِمَّا قَبْلَهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْخَضِرُ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَنُسِئَ لَهُ فِي أَجْلِهِ، حَتَّى يُكَذِّبَ الدَّجَّالَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءٌ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ
فِي قَوْلِهِ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. قَالَ: بَحْرُ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمَا نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ إِفْرِيقِيَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: طَنْجَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً قَالَ: سَبْعِينَ خَرِيفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: دَهْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: نَسِيا حُوتَهُما قَالَ: كَانَ مَمْلُوحًا مَشْقُوقَ الْبَطْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً قَالَ: أَثَرُهُ يَابِسٌ فِي الْبَحْرِ كَأَنَّهُ فِي حَجَرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قَالَ: عَوْدُهُمَا عَلَى بَدْئِهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا قَالَ: أَعْطَيْنَاهُ الْهُدَى وَالنُّبُوَّةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدْ رُوِيَتْ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَأَتَمُّهَا وَأَكْمَلُهَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنَّهَا اخْتَلَفَتْ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ، وَكُلُّهَا مَرْوِيَّةٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ، وَبَعْضُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَبَعْضُهَا فِي أَحَدِهِمَا، وَبَعْضُهَا خَارِجٌ عَنْهُمَا. وَقَدْ رُوِيَتْ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنْهُ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَمِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ عِنْدَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْخَطِيبِ وَابْنِ عَسَاكِرَ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي هِيَ أَتَمُّ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَفِي ذَلِكَ مَا يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ، وَهِيَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الَبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذِبَ عَدُوُّ اللَّهِ. حَدَّثَنَا أُبِيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ. ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يوشع بن نون، حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، حَتَّى إِذَا كَانَا مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا فَقَالَ مُوسَى: ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قَالَ سُفْيَانُ: يَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّ تِلْكَ الصَّخْرَةَ عِنْدَهَا عَيْنُ الْحَيَاةِ لَا يُصِيبُ مَاؤُهَا مَيْتًا إِلَّا عَاشَ، قَالَ: وَكَانَ الْحُوتُ قَدْ أُكِلَ مِنْهُ، فَلَمَّا قُطِّرَ عَلَيْهِ الْمَاءُ عَاشَ، قَالَ: فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسْجًى بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَيْتُكَ