الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمرة الاستغفار النافع تصحيح التوبة
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم يقول: «قال اللَّه تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة» (1). رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
جاء في «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى بتحقيق الأرنؤوط وباجس أثابهما اللَّه تعالى ما مختصره: فقد تضمن حديث أنس المبدوء بذكره أن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة:
أحدها: الدعاء مع الرجاء، فإن الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابة، كما قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60](2).
ومن أهم ما يسأل العبد ربه مغفرة ذنوبه، أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من النار، ودخول الجنة، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم:«حولها ندندن» (3). يعني: حول سؤال الجنة والنجاة من النار. قال أبو مسلم الخولاني: ما عرضت لي دعوة فذكرت النار إلا صرفتها إلى الاستعاذة منها.
فمن أعظم أسباب المغفرة: أن العبد إذا أذنب ذنبًا لم يرج مغفرته من غير ربه، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب ويأخذ بها غيره، وقد سبق ذكر ذلك في شرح حديث أبي ذر:«يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي» . الحديث. اهـ.
* * *
(1) رواه الترمذي (3540). اهـ. حسن. انظر «صحيح الجامع» . (قل).
(2)
سيأتي الكلام عن الدعاء بالتفصيل في فصل مستقل إن شاء اللَّه تعالى. (قل).
(3)
قطعة من حديث رواه عن أبي هريرة ابن ماجه (910) و (3847)، وصححه ابن حبان (868).
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم
إتمامًا للفائدة إليك نص الحديث مع شرح يسير لبعض فقرات الحديث:
عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال:«يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللَّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» . رواه مسلم.
قال ابن رجب رحمه اللَّه تعالى (1): وأما الاستغفار من الذنوب، فهو طلب المغفرة، والعبد أحوج شيء إليه؛ لأنه يخطئ بالليل والنهار، وقد تكرر في القرآن ذكر التوبة والاستغفار، والأمر بهما، والحث عليهما، وخرَّج الترمذي وابن ماجه من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» (2).
(1) الكلام هنا أيضًا من كتاب «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى بتحقيق الأرنوؤط وباجس أثابهما اللَّه تعالى. (قل).
(2)
رواه الترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)، وأحمد (3/ 198)، والحاكم (4/ 244)، وابن عدي في «الكامل» (5/ 1850) من طريق علي بن مسعدة عن قتادة، عن أنس، وسنده قابل للتحسين. اهـ. وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» ، جاء في «تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي» للمباركفوري رحمه اللَّه تعالى (ج7 ص213، 214) ما يلي:
قوله: (كل ابن آدم خطاء) أي: كثير الخطأ
…
وأما الأنبياء صلوات اللَّه عليهم فإما مخصوصون عن ذلك، وإما أنهم أصحاب صغائر. والأول أولى فإن ما صدر عنهم من باب ترك الأولى، أو يقال: الزلات المنقولة عن بعضهم محمولة على الخطأ والنسيان من غير أن يكون لهم قصد إلى العصيان. قاله القاري، (وخير الخطائين التوابون) أي: الراجعون إلى اللَّه بالتوبة من المعصية إلى الطاعة). اهـ. من «تحفة الأحوذي» (قل).
وخرج البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: «واللَّه إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» . وخرجه النسائي وابن ماجه، ولفظهما:«إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه كل يوم مائة مرة» .
قال اللَّه عز وجل: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131]، وقال حاكيًا عن موسى:{وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]، وقال:{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وقال:{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: 37].
المعنى: أنه تعالى يحب من عباده أن يتقوه ويطيعوه، كما أنه يكره منهم أن يعصوه، ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشد من فرح من ضلت راحلته التي عليها طعامه وشرابه بفلاة من الأرض، وطلبها حتى أعيى وأيس منها، واستسلم للموت، وأيس من الحياة، ثم غلبته عينه فنام، فاستيقظ وهي قائمة عنده، وهذا أعلى ما يتصوره المخلوق من الفرح، هذا كله مع غناه عن طاعات عباده وتوباتهم، وإنه إنما يعود نفعها إليهم دونه، ولكن هذا من كمال جوده وإحسانه إلى عباده، ومحبته لنفعهم، ودفع الضرر عنهم، فهو يحب من عباده أن يعرفوه ويحبوه ويخافوه ويتقوه ويطيعوه ويتقربوا إليه، ويحب أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوب غيره، وأنه قادر على مغفرة ذنوب عباده، كما في رواية عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر لهذا الحديث:«من علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة، ثم استغفرني، غفرت له ولا أبالي» (1).
وفي الصحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم، قال:«واللَّه للَّه أرحم بعباده من الوالدة بولدها» (2). وتفكروا في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ} [آل عمران: 135]، فإن فيه إشارة إلى أن المذنبين ليس لهم من يلجئون إليه، ويُعوِّلون عليه في مغفرة ذنوبهم غيره، وكذلك قوله في حق الثلاثة الذين خُلِّفوا:{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لَاّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]، فرتب عليهم على ظنهم أن لا ملجأ من اللَّه إلا إليه، فإن العبد إذا خاف من مخلوق، هرب منه، وفر إلى غيره، وأما من خاف من اللَّه، فما له من ملجأ يلجأ إليه، ولا مهرب يهرب إليه إلا
(1) حسن. رواه الطبراني والحاكم عن ابن عباس. انظر «صحيح الجامع» . ومعنى: (ولا أبالي) أي: ولا أهتم، كما في (ب - ف). (قل).
(2)
متفق عليه.
هو، فيهرب منه إليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:«لا ملجأ، ولا منجا منك إلا إليك» (1)، وكان يقول:«أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك» (2).
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ما من ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل سربال سترها، إلا نادى الجليل جل جلاله: من أعظم مني جودًا، والخلائق لي عاصون، وأنا لهم مراقب، أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا فيما بيني وبينهم، أجود بالفضل على العاصي، وأتفضل على المسيئ، من ذا الذي دعاني فلم ألبه؟ أم من ذا الذي سألني فلم أعطه؟ أم من الذي أناخ ببابي فنحيته؟ أنا الفضل، ومني الفضل، أنا الجواد، ومني الجود، أنا الكريم، ومني الكرم، ومن كرمي أن أغفر للعاصين بعد المعاصي، ومن كرمي أن أعطي العبد ما سألني، وأعطيه ما لم يسألني، ومن كرمي أن أعطي التائب كأنه لم يعصني، فأين عني يهرب الخلائق؟ وأين عن بابي يتنحى العاصون؟ خرجه أبو نعيم (3).
ولبعضهم في المعنى:
أسأت ولم أحسن وجئتك تائبًا
…
وأنَّى لعبدٍ عن مواليه مهربُ
يُؤمّل غفرانًا فإن خاب ظنُه
…
فما أحدٌ منه على الأرض أخيبُ
فقوله بعد هذا: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ولو كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا» هو إشارة إلى أن ملكه لا يزيد بطاعة الخلق، ولو كانوا كلهم بررة أتقياء، قلوبهم على قلب أتقى رجل منهم، ولا ينقص ملكه بمعصية العاصين، ولو كان الجن والإنس كلهم عصاة فجرة قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم، فإنه سبحانه الغني بذاته عمن سواه، وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فملكه ملك كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أي وجهٍ كان.
وفي بعض الآثار الإسرائيلية: يقول اللَّه عز وجل: أيؤمل غيري للشدائد والشدائد
(1) رواه من حديث البراء بن عازب أحمد (4/ 285)، والبخاري (247)، ومسلم (2711)، وصححه ابن حبان (5527) و (5536) و (5542)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
رواه من حديث عائشة أحمد (6/ 58 و201)، ومسلم (486)، وأبو داود (879)، والنسائي (1/ 102)، وصححه ابن حبان (1932) و (1933).
(3)
في «الحلية» (8/ 92 - 93).
بيدي وأنا الحي القيوم؟ ويرجى غيري، ويطرق بابه بالبكرات، وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به؟ أو من الذي رجاني لعظيم، فقطعت رجاءه؟ أو من ذا الذي طرق بابي، فلم أفتحه له؟ أنا غاية الآمال، فكيف تنقطع الآمال دوني؟ أبخيل أنا فيبخِّلنُي عبدي؟ أليس الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي؟ فما يمنع المؤملين أن يؤملوني؟ لو جمعت أهل السماوات والأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلغت كل واحدٍ منهم أمله، لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، كيف ينقص ملك أنا قَيِّمهُ؟ فيا بؤسًا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسًا لمن عصاني وتوثب على محارمي). اهـ.
ونعود إلى تكملة شرح الحديث السابق - من نفس الكتاب أيضًا - قال ابن رجب رحمه الله:
وقوله: «إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي» . يعني: على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يتعاظمني ذلك، ولا أستكثره. وفي «الصحيح» عن النبي- صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة، فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء» (1).
فذنوب العباد وإن عظمت، فإن عفو اللَّه ومغفرته أعظم منها وأعظم، فهي صغيرة في جنب عفو اللَّه ومغفرته.
وقال بعضهم (2):
يا رب إنْ عظمت ذنوبي كثرةً
…
فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ
…
فمن الذي يرجو ويدعو المجرمُ
ما لي إليك وسيلةٌ إلا الرجا
…
وجميلُ عفوك ثم أني مسلِمُ
السبب الثاني للمغفرة: الاستغفار، ولو عظمت الذنوب، وبلغت الكثرة عنان السماء، وهو السحاب. وقيل: ما انتهى إليه البصر منها.
والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: هي وقاية شر الذنوب مع سترها.
وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار، فتارةً يؤمر به، كقوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 199]، وقوله:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} [هود: 3].
وتارة يمدح أهله، كقوله:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، وقوله:
(1) رواه من حديث أبي هريرة أحمد (2/ 457)، والبخاري في «الأدب المفرد» (607)، ومسلم (2679)، وصححه ابن حبان (896).
(2)
هو أبو نواس الحسن بن هانئ، والأبيات في «ديوانه» (ص 218).
{وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18]، وقوله:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللَّهُ} [آل عمران: 135].
وتارة يذكر أن اللَّه يغفر لمن استغفره، كقوله تعالى:{وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 110].
وكثيرًا ما يُقرن الاستغفارُ بذكر التوبة، فيكون الاستغفارُ حينئذٍ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح.
وتارة يفرد الاستغفار، ويُرتب عليه المغفرة، كما ذكر في هذا الحديث وما أشبهه، فقد قيل: إنه أريد به الاستغفارُ المقترن بالتوبة، وقيل: إن نصوص الاستغفار المفردة كلها مطلقة تقيدُ بما يذكر في آية «آل عمران» من عدم الإصرار؛ فإن اللَّه وعد فيها المغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يُصر على فعله، فتحملُ النصوص المطلقة في الاستغفار كلها على هذا المقيد (1)، ومجرد قول القائل: اللهم اغفر لي، طلب منه للمغفرة ودعاء بها، فيكون حكمه حكم سائر الدعاء، فإن شاء اللَّه أجابه وغفر لصاحبه، لا سيما إذا خرج عن قلبٍ منكسرٍ بالذنب أو صادف ساعةً من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات.
ويُروى عن لُقمان أنه قال لابنه: يا بنيَّ، عود لسانك: اللهمَّ اغفر لي، فإن للَّه ساعاتٍ لا يرد فيها سائلاً.
وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة.
وعن مورِّق قال: كان رجل يعملُ السيئات، فخرج إلى البرية، فجمع ترابًا، فاضطجع عليه مستلقيًا، فقال: ربِّ اغفر لي ذنوبي، فقال: إنَّ هذا ليعرفُ أنَّ له ربًا يغفرُ ويُعذب، فغفر له.
وأما استغفارُ اللسان مع إصرار القلب على الذنب، فهو دُعاء مجرَّد إن شاء اللَّه أجابه، وإن شاء ردَّه.
وقد يكون الإصرار مانعًا من الإجابة. وفي «المسند» (2) من حديث عبد اللَّه بن عمرو
(1) أي: أن الاستغفار المفرد الذي يرتب اللَّه عليه المغفرة يكون توبة في حالتين:
الأولى: أن يقول العبد: أستغفر اللَّه، وينوي بذلك التوبة؛ لأن العبرة هنا بالمعاني لا بالألفاظ والمباني.
الثانية: أن يقول العبد: أستغفر اللَّه، ومقصوده بذلك عدم الإصرار على المعصية. (قل).
(2)
2/ 165، 219)، ورواه أيضًا البخاري في «الأدب المفرد» (380)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 265، 266)، وجود إسناده الحافظ المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 202)، وحسنه الحافظ ابن حجر في «الفتح» (1/ 112).
مرفوعًا: «ويلٌ للذين يصرُّون على ما فعلوا وهم يعملون» .
قال الضحاك: ثلاثةٌ لا يستجاب لهم، فذكر منهم: رجل مقيم على امرأة زنى كلما قضى شهوته، قال: ربِّ اغفر لي ما أصبتُ من فلانة، فيقول الربُّ: تحول عنها وأغفر لك، فأما ما دمت مقيمًا عليها، فإنِّي لا أغفر لك، ورجلٌ عنده مالُ قوم يرى أهله، فيقول: ربِّ اغفر لي ما آكل من مال فلان، فيقول تعالى: ردَّ إليهم مالهم وأغفر لك، وأما ما لم تردَّ إليهم فلا أغفر لك.
وقول القائل: أستغفر اللَّه، معناه: أطلبُ مغفرته، فهو كقوله: اللهمَّ اغفر لي، فالاستغفار التامُّ الموجبُ للمغفرة: هو ما قارن عدمَ الإصرار، كما مدح اللَّه أهله، ووعدهم المغفرة. قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرةُ استغفاره تصحيح توبته، فهو كاذب في استغفاره. وكان بعضُهم يقول: استغفارُنا هذا يحتاج إلى استغفارٍ كثير. وفي ذلك يقولُ بعضهم:
أستغفرُ اللَّه مِنْ «أستغفرُ اللَّه»
…
من لفظةٍ بدرت خالفتُ معناها
وكيفَ أرجو إجاباتِ الدعاء وقد
…
سَدَدتُّ بالذَّنب عند اللَّه مجراها
فأفضل الاستغفار ما اقترن به تركُ الإصرار، وهو حينئذ توبةٌ نصوح، وإن قال بلسانه: أستغفر اللَّه وهو غيرُ مقلع بقلبه، فهو داعٍ للَّه بالمغفرة، كما يقول: اللهمَّ اغفر لي، وهو حسن وقد يُرجى له الإجابة.
وأفضل أنواع الاستغفار: أن يبدأ العبد بالثَّناء على ربِّه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل اللَّه المغفرة كما في حديث شدَّاد بن أوس عن النبي- صلى الله عليه وسلم، قال:«سيِّدُ الاستغفار أن يقول العبدُ: اللهمَّ أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفرُ الذُّنوبَ إلا أنت» . خرَّجه البخاري.
وفي «الصحيحين» عن عبد اللَّه بن عمرو أنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول اللَّه، علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال:«قل: اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظُلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذنوب إلَاّ أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنَّك أنت الغفورُ الرحيم» . وبالجملة فدواءُ الذنوبِ الاستغفارُ.
قال قتادة: إن هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم: فالذُّنوب، وأما دواؤكم: فالاستغفار.
قال بعضهم: إنَّما مُعوَّلُ المذنبين البكاء والاستغفار، فمَن أهمته ذنوبه، أكثر لها من
الاستغفار.
قال رياح القيسي: لي نيِّفٌ وأربعون ذنبًا، قد استغفرتُ اللَّه لكلِّ ذنب مائة ألف مرَّة. [نيف وأربعون أي من واحد إلى ثلاثة وأربعين].
وحاسب بعضهم نفسه من وقت بلوغه، فإذا زلاتُه لا تُجاوز ستًا وثلاثين زلةً، فاستغفر اللَّه لكل زلةٍ مائة ألف مرَّة، وصلَّى لكلِّ زلَّة ألف ركعة، ختم في كلِّ ركعة منها ختمة (1)، قال: ومع ذلك، فإنِّي غير آمن سطوة ربي أن يأخذني بها، وأنا على خطر من قبول التوبة. ومن زاد اهتمامُه بذنوبه، فربما تعلَّق بأذيالِ مَن قَلَّتْ ذنوبه، فالتمس منه الاستغفار، وكان عمر يطلب من الصبيان الاستغفار، ويقول: إنكم لم تُذنبوا، وكان أبو هريرة يقول لغلمان الكُتاب: قولوا: اللهمَّ اغفر لأبي هُريرة، فيؤمن على دعائهم.
قال بكرٌ المزني: لو كان رجلٌ يطوف على الأبواب كما يطوف المسكين يقول: استغفروا لي، فكان نوله أن يفعل.
ومن كثرت ذنوبه وسيئاته حتى فاتت العدَّ والإحصاء، فليستغفر اللَّه مما علم اللَّه، فإن اللَّه قد علم كل شيءٍ وأحصاه، كما قال تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]، وفي حديث شداد بن أوس، عن النبي- صلى الله عليه وسلم:«أسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب» (2). وفي هذا يقول بعضهم:
أستغفرُ اللَّهَ مما يعلمُ اللَّهُ
…
إن الشَّقيَّ لَمن لا يرحمُ اللَّهُ
ما أحلمَ اللَّهَ عمن لا يراقبه
…
كلٌّ مسيءٌ ولكن يحلمُ اللَّهُ
فاسُتغفِر اللَّهَ مما كان من زَلل
…
طوبى لمن كفَّ عما يكره اللَّهُ
طوبى لمن حسنت فيه سريرتُه
…
طوبى لمن ينتهي عما نهى اللَّهُ
السبب الثالث من أسباب المغفرة: التوحيدُ، وهو السببُ الأعظم، فمن فقده، فقد المغفرة، ومن جاء به، فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]، فمن جاء مع التوحيد بُقرابِ الأرض - وهو ملؤها أو ما يُقارب ملأها - خطايا، لقيه اللَّه بُقرابها مغفرة، لكن هذا
(1) قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» . صحيح. (د، ت، هـ) عن ابن عمر. انظر «صحيح الجامع» . (قل).
(2)
رواه أحمد (1/ 125)، والترمذي (3407)، وصححه ابن حبان (1974)، والحاكم (1/ 508)، ووافقه الذهبي.