المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: فضل الدعاء - ففروا إلى الله - القلموني

[أبو ذر القلموني]

فهرس الكتاب

- ‌رجاء

- ‌بشرى لكل ناسخ وناشر

- ‌المقدمة

- ‌آثار ترك الذنوب والمعاصي

- ‌تنبيهات:

- ‌موضوعات الكتاب:

- ‌الباب الأول: التوبة

- ‌ذكر أحاديث فيها نفي القنوط:

- ‌أولاً: شروط التوبة:

- ‌فائدة:

- ‌ثمرة الاستغفار النافع تصحيح التوبة

- ‌من الأحاديث الدالة على التوبة:

- ‌ثانيًا: آثار المعاصي:

- ‌ثالثًا: جاء في مختصر منهاج القاصدين ما مختصره:

- ‌رابعًا: اتهام التوبة:

- ‌خامسًا: علامات قبول التوبة:

- ‌فائدة:

- ‌سادسًا: سؤال هام:

- ‌فائدة مشهد الرحمة في المعصية:

- ‌كتابة الحسنات والسيئات

- ‌سابعًا: توبة المرأة:

- ‌تنبيه وكلمة:

- ‌الباب الثاني: الدنيا

- ‌وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور:

- ‌فصل في بيان حقيقة الدنيا والمذموم منها والمحمود

- ‌الباب الثالث: الموت

- ‌ذكر شدة الموت

- ‌حسن الظن باللَّه تعالى:

- ‌الباب الرابع: الصلاة

- ‌المعاني التي تتم بها حياة الصلاة كثيرة:

- ‌ تساؤلات:

- ‌ قد يقول قائل: يا أخي العمل عبادة

- ‌ قد يقول قائل: إن فلانًا رجل يصلي ولكن معاملته غير طيبة

- ‌ احذر إبليس:

- ‌ قيام الليل:

- ‌فصل: في الأسباب الميسرة لقيام الليل

- ‌ما حكم قضاء الصلاة الفائتة

- ‌خاتمة:

- ‌الباب الخامس: الذكر

- ‌أولاً: فوائد الذكر:

- ‌منزلة الذكر وأقسامه

- ‌فصل في أذكار النوم واليقظة

- ‌فصل في أذكار الانتباه من النوم

- ‌بعض الأذكار الأخرى الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب السادس: الدعاء

- ‌الفصل الأول: فضل الدعاء

- ‌الفصل الثاني: آداب الدعاء

- ‌الفصل الثالث: ما هي أوقات الإجابة

- ‌الفصل الرابع: الذين يستجيب اللَّه تعالى دعاءهم

- ‌الفصل الخامس: بم يستجاب الدعاء

- ‌الفصل السادس: علامة استجابة الدعاء

- ‌الفصل السابع: التوسل بالأنبياء والصالحين

- ‌الفصل الثامن: فوائد

- ‌الفصل التاسع: صلاة الاستخارة

- ‌الفصل العاشر: بحث خاص برفع اليدين في الدعاء

- ‌الفصل الحادي عشر: ختامه مسك

- ‌خاتمة:

- ‌الباب السابع: حكم الإسلام في الغناء

- ‌ ومن مكايد عدو اللَّه (إبليس) ومصايده

- ‌خاتمة:

- ‌الباب الثامن: داء العشق ودواؤه

- ‌أولاً: جاء في كتاب «الجواب الكافي»

- ‌الباب التاسع: آداب من سورة النور

- ‌أولاً: آداب دخول البيوت وغض البصر وحفظ الفرج:

- ‌ثانيًا: تساؤلات:

- ‌آداب الهاتف من آداب دخول البيوت

- ‌الباب العاشر: حكم تغطية وجه المرأة

- ‌مقدمة:

- ‌أولاً الخلاصة: كما يراها فضيلة الشيخ البوطي:

- ‌ثانيًا: حكم تغطية الوجه بقلم فضيلة الشيخ وهبي غاوجي:

- ‌ثالثًا: 1 - ما جاء في «روائع البيان» تحت عنوان: «طائفة من أقول المفسرين في وجوب ستر الوجه»

- ‌من أقوال الشعراء في الإسلام:

- ‌استئذان الأقارب بعضهم على بعض:

- ‌أحكام العورة بين المحارم:

- ‌3 - العورة بين المرأة والمرأة:

- ‌الباب الحادي عشر: حكم عمل المرأة خارج البيت

- ‌أمان المرأة:

- ‌القوامة:

- ‌لا تكلف المرأة بشيء من الإنفاق:

- ‌ثالثًا: كيفية تعليم المرأة:

- ‌شروط خروج المرأة من البيت:

- ‌بحث مسألة وضع ثياب المرأة خارج بيتها

- ‌الباب الثاني عشر: علاج الصرع وعلاج السحر وفك الربط وعلاج الحسد

- ‌أولاً: هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع:

- ‌ثانيًا: علاج الصرع:

- ‌ثالثًا السحر:

- ‌رابعًا علاج السحر:

- ‌خامسًا: بعض ما ورد في حل السحر:

- ‌سادسًا: تنبيهات خاصة بفك الربط:

- ‌علاج الحسد:

- ‌علاج العين:

- ‌الباب الثالث عشر: الدين النصيحة

- ‌ عليك بهذه المكتبة الإسلامية

- ‌ فائدة حول التسبيح دبر الصلوات:

- ‌ معاملة الزوجة بلطف والصبر على أذاها

- ‌ إياكَ والإفسادَ بين المرء وزوجه:

- ‌ الختان من محاسن الإسلام:

- ‌ استجب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية

- ‌القرآن واللحية:

- ‌ إن خفت ظالمًا فعليك بهذه الأدعية:

- ‌ مختصر أسباب شرح الصدر

- ‌قَبْل الخاتمة

- ‌مقدار صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌قُبَيْل‌‌ الخاتمة

- ‌ الخاتمة

- ‌ما تزول به عقوبة الذنوب:

- ‌كتب للمؤلف

الفصل: ‌الفصل الأول: فضل الدعاء

‌الباب السادس: الدعاء

قال اللَّه تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

‌الفصل الأول: فضل الدعاء

جاء في «تحفة الذاكرين» ما مختصره:

1 -

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» ثم تلا قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ...... } [غافر: 60] رواه ابن حبان في «صحيحه» (1)[قال الشوكاني رحمه الله]: فالدعاء هو أعلى أنواع العبادة وأرفعها وأشرفها، والآية الكريمة قد دلت على أن الدعاء من العبادة، فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه، ثم قال:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فأفاد بذلك أن الدعاء عبادة وأن ترك دعاء الرب سبحانه استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار، وكيف يستكبر العبد عن دعاء مَن هو خالق له ورازقه وموجده من العدم وخالق العالم كله ورازقه ومحييه ومميته ومثيبه ومعاقبه؟! فلا شك أن هذا الاستكبار طرف من الجنون وشعبة من كفران النعم.

2 -

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة» . رواه الحاكم في «المستدرك» والبزار [وحسنه الألباني].

(قوله: (لا يغني حذر من قدر) فيه دليل على أن الحذر لا يغني عن صاحبه شيئًا من القدر المكتوب، ولكنه ينفع من ذلك الدعاء، ولذلك عقبه صلى الله عليه وسلم بقوله:«والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل» وأكد ذلك بقوله: «إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة» ، ومعنى يعتلجان: يتصارعان ويتدافعان.

والحاصل: أن الدعاء من قدر اللَّه عز وجل فقد يقضي الشيء على عبده قضاء مقيدًا بألا يدعوه فإن دعاه اندفع عنه.

3 -

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل اللَّه يغضب عليه» رواه الترمذي. [وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي». وسيأتي شرحه إن شاء اللَّه تعالى].

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع اللَّه غضب عليه» مصنف ابن أبي شيبة.

(1) وصححه الألباني. وجاء في «مدارج السالكين» .

قالوا أتشكوا إليه ما ليس يخفي عليه؟

فقلت ربي يرضى ذل العبيد لديه

(قل).

ص: 123

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يستجيب اللَّه له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء» . رواه الترمذي [وحسنه الألباني].

(قوله: الكرب) بضم الكاف وفتح الراء جمع كربة، وهي ما يأخذ النفس من الغم. (قوله: فليكثر الدعاء في الرخاء) أي في حال الصحة والرفاهية والأمن من المخاوف. والسلامة من المحن: قال الحلبي: المراد بهذا الدعاء في الرخاء هو دعاء الشفاء والشكر والاعتراف بالمنن، وسؤال التوفيق والمعونة، والتأييد والاستغفار لعوارض التقصير.

5 -

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يدعو اللَّه بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه اللَّه بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يرفع عنه من السوء مثلها» . أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى بأسانيد جيدة، وأخرجه أيضًا الحاكم وقال: صحيح الإسناد. اهـ من «تحفة الذاكرين» .

أحاديث أخرى في فضل الدعاء:

6 -

وقريبًا من الحديث السابق رقم (5) ما رواه الترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «ما على الأرض مسلم يدعو اللَّه تعالى بدعوة إلا آتاه اللَّه إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بمأثم أو قطيعة رحم» . فقال رجل من القوم: إذًا نكثر؟ قال: اللَّه أكثر.

(حسن صحيح) انظر «صحيح سنن الترمذي» .

جاء في «تحفة الأحوذي» للمباركفوري رحمه اللَّه تعالى (جـ 10 ص 20):

قوله: «إلا آتاه اللَّه إياها» أي: تلك الدعوة، وفي حديث جابر:«ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه اللَّه ما سأل» «أو صرف» أي دفع «عنه» أي عن الداعي «من السوء» أي البلاء النازل أو غيره في أمر دينه أو دنياه أو بدنه «مثلها» أي مثل تلك الدعوة كمية وكيفية إن لم يقدَّر له وقوعه في الدنيا «ما لم يدع بمأثم» المأثم الأمر الذي يأثم به الإنسان أو هو الإثم نفسه ووقع في بعض النسخ بإثم «أو قطيعة رحم» تخصيص بعد تعميم والقطيعة أي: الهجران والصد أي: ترك البر إلى الأهل والأقارب (إذًا) أي: إذا كان الدعاء لم يرد منه شيء ولا يخيب الداعي في شيء منه (نكثر) أي: من الدعاء لعظيم فوائده (قال) أي: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «اللَّه أكثر» قال الطيبي: أي الله أكثر إجابة من دعائكم، وقيل: إن معناه فضل اللَّه أكثر أي: ما يعطيه من فضله وسعة كرمه أكثر ممن يعطيكم في مقابلة دعائكم، وقيل اللَّه أغلب في الكثرة فلا تعجزونه في الاستكثار فإن خزائنه لا تنفد وعطاياه لا تفنى، وقيل اللَّه أكثر ثوابًا وعطاء مما في نفوسكم فأكثروا ما شئتم فإنه تعالى

ص: 124

يقابل أدعيتكم بما هو أكثر منها وأجل.

وأخرج أحمد عن أبي سعيد مرفوعًا: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه اللَّه بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» وصححه الحاكم). اهـ، وقد سبقت الإشارة إليه.

أحاديث انتخبتها من كتاب «ترتيب أحاديث صحيح الجامع على الأبواب الفقهية» :

ونقلت تخرجيها وتحقيقها من «صحيح الجامع» ، ونقلت شرحها من المصدر المناسب لها:

7 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام» .

(صحيح). رواه الطبراني في «الأوسط» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» «الصحيحة» (601).

جاء في «فيض القدير» للمناوي رحمه اللَّه تعالى:

(«أعجز الناس» أي: من أضعفهم رأيًا وأعماهم بصيرة «من عجز عن الدعاء» أي: الطلب من اللَّه تعالى لا سيما عند الشدائد لتركه ما أمره اللَّه به، وتعرضه لغضبه بإهماله ما لا مشقة عليه فيه، وفيه قيل:

لا تسألن بُنيَّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجبُ

اللَّه يغضب إن تركت سؤاله وبنيُّ آدم حين يُسألُ يغضبُ

وفيه ردّ على من زعم أن الأولى عدم الدعاء، «وأبخل الناس» أي: أمنعهم للفضل وأشحهم بالبذل «من بخل بالسلام» على من لقيه من المؤمنين ممن يعرفهم ومن لا يعرفهم، فإنه خفيف المؤنة عظيم المثوبة فلا يهمله إلا من بخل بالقربات وشح بالمثوبات وتهاون بمراسم الشريعة، أطلق عليه اسم البخل لكونه منع ما أمر به الشارع من بذل السلام، وجعله أبخل لكونه من بخل بالمال معذور في الجملة لأنه محبوب للنفوس عديل للروح بحسب الطبع والغريزة، ففي بذله قهر للنفس؛ وأما السلام فليس فيه بذل مال، فمخالف الأمر في بذله لمن لقيه قد بخل بمجرد النطق فهو أبخل من كل بخيل). اهـ.

8 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس شيء أكرم على اللَّه من الدعاء» .

(حسن). رواه أحمد والبخاري في «الأدب المفرد» ، والترمذي والحاكم - «المشكاة»

ص: 125

(2232)

- «الترغيب» (2/ 270).

جاء في «تحفة الأحوذي» (ج9 ص 252).

(قوله: «ليس شيء» أي: من الأذكار والعبادات فلا ينافيه قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

«أكرم» بالنصب خبر ليس أي أفضل «على اللَّه» أي: عند اللَّه «من الدعاء» لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة اللَّه وقدرته). اهـ.

9 -

عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللَّه حييٌ كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صِفرًا خائبتين» .

(صحيح) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم - «الترغيب» (2/ 272).

جاء في «تحفة الأحوذي» (جـ9 ص 432):

(قوله: «إن اللَّه حييٌ» فعيل من الحياء أي كثير من الحياء ووصفه تعالى بالحياء يحمل على ما يليق له كسائر صفاته نؤمن بها ولا نكيفها «كريم» هو الذي يعطي من غير سؤال فكيف بعده. «صفرًا» بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء أي خاليتين، قال الطيبي: يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع «خائبتين» من الخيبة وهو الحرمان. وفي الحديث دلالة على استحباب رفع اليدين في الدعاء والأحاديث فيه كثيرة، وأما حديث أنس لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء فالمراد به المبالغة في الرفع). اهـ.

10 -

عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم! اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء أعطاه» .

(صحيح). رواه البخاري في «الأدب المفرد» عن أبي سعيد - ورواه مسلم عن أبي هريرة.

جاء في «شرح مسلم» للنووي رحمه اللَّه تعالى (ج 17 ص 10، 11 رقم 2679):

(وليعزم الرغبة، فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء أعطاه) قال العلماء: عزم المسألة: الشدة في طلبها، والجزم من غير ضعف في الطلب، ولا تعليق على مشيئة ونحوها، وقيل: هو حسن الظن باللَّه تعالى في الإجابة. ومعنى الحديث استحباب الجزم في الطلب، وكراهة التعليق على المشيئة، قال العلماء: سبب كراهته أنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق من يتوجه عليه الإكراه؛ واللَّه تعالى منزه عن ذلك، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث:«فإنه لا مستكره له وقيل سبب الكراهة أن في هذا اللفظ صورة الاستغفار على المطلوب، والمطلوب منه» . اهـ.

ص: 126

وجاء في (ب - ف): (وليعزم المسألة: أي يجتهد في الطلب، وليعظم الرغبة: أي يكثر في دعائه من طلب ما يشتهيه).

11 -

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني، فإنه لا مستكره له» .

رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي.

جاء في «فتح الباري» لابن حجر رحمه اللَّه تعالى (جـ 11 ص 144، 145):

قوله: (باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له) المراد بالمسألة الدعاء، والضميران لله تعالى، أو الأول ضمير الشأن والثاني لله تعالى جزمًا. ومكره بضم أوله وكسر ثالثه ..

قوله: (فليعزم المسألة) في رواية أحمد عن إسماعيل المذكور «الدعاء» ومعنى الأمر بالعزم الجد فيه، وأن يجزم بوقوع مطلوبه ولا يعلق ذلك بمشيئة اللَّه تعالى، وإن كان مأمورًا في جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة اللَّه تعالى. وقيل: معنى العزم أن يحسن الظن باللَّه في الإجابة.

قوله: (ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني) في حديث أبي هريرة المذكور بعده «اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت» . وزاد في رواية همام عن أبي هريرة الآتية في التوحيد «اللهم ارزقني إن شئت» . وهذه كلها أمثلة، ورواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم تتناول جميع ما يدعى به. ولمسلم من طريق عطاء بن ميناء عن أبي هريرة:«ليعزم في الدعاء» وله من رواية العلاء «ليعزم وليعظم الرغبة» ومعنى قوله: «ليعظم الرغبة» أي يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء والإلحاح فيه، ويحتمل أن يراد به الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير، ويؤيده ما في آخر هذه الرواية «فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء» .

قوله: (فإنه لا مستكره له) في حديث أبي هريرة: «فإنه لا مكره له» وهما بمعنى، والمراد أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء فيخفف الأمر عليه ويعلم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما اللَّه سبحانه فهو منزه عن ذلك فليس للتعليق فائدة. وقيل: المعنى أن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه، والأول أولى. وقد وقع في رواية عطاء بن ميناء «فإن اللَّه صانع ما شاء» وفي رواية العلاء «فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء أعطاه» قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت وغير ذلك من أمور الدين والدنيا لأنه كلام مستحيل لا وجه له

ص: 127

لأنه لا يفعل إلا ما شاء، وظاهره أنه حمل النهي على التحريم، وهو الظاهر، وحمل النووي النهي في ذلك على كراهة التنزيه وهو أولى، ويؤيده ما سيأتي في حديث الاستخارة. قال ابن بطال: في الحديث ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريمًا.

وقد قال ابن عيينة: لا يمنعن أحدًا الدعاء ما يعلم في نفسه - يعني من التقصير - فإن اللَّه قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: رب أنظرني إلى يوم يبعثون، وقال الداودي: معنى قوله: «ليعزم المسألة» أن يجتهد ويلح ولا يقل إن شئت كالمسثنى، ولكن دعاء البائس الفقير، قلت: وكأنه أشار بقوله كالمستثنى إلى أنه إذا قالها على سبيل التبرك لا يكره وهو جيد.

12 -

عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي» .

(رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه).

جاء في «فتح الباري» (جـ 11 ص 145، 146):

(قوله: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل» أي: يجاب دعاؤه

قوله: «يقول دعوت فلم يستجب لي» في رواية غير أبي ذر «فيقول» بزيادة فاء واللام منصوبة، قال ابن بطال: المعنى أنه يسأم فيترك الدعاء فيكون كالمان بدعائه، أو أنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة فيصير كالمبخل للرب الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء

وقد وقع في رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة عند مسلم والترمذي: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل، قيل وما الاستعجال؟ قال: يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء» ومعنى قوله يستحسر - وهو بمهملات - ينقطع.

وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أنه يلازم الطلب ولا ييأس من الإجابة لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف: لأنا أشد خشية أن أُحرم الدعاء من أن أُحرم الإجابة، وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر رفعه:«من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة» الحديث أخرجه الترمذي بسند لين وصححه الحاكم فوهم، قال الداودي: يخشى على من خالف وقال قد دعوت فلم يستجب لي أن يحرم الإجابة وما قام مقامها من الادخار والتكفير. انتهى.

وقد قدمت في أول كتاب الدعاء الأحاديث الدالة على أن دعوة المؤمن لا ترد، وأنها

ص: 128

إما أن تعجل له الإجابة، وإما أن تدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له في الآخرة خير مما سأل. فأشار الداودي إلى ذلك، وإلى ذلك أشار ابن الجوزي بقوله: اعلم أن دعاء المؤمن لا يرد، غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة أو يعوض بما هو أولى له عاجلاً أو آجلاً فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض ....

وقال الكرماني ما ملخصه: الذي يتصور في الإجابة وعدمها أربع صور: الأولى: عدم العجلة وعدم القول المذكور، الثانية: وجودهما، الثالثة والرابعة: عدم أحدهما ووجود الآخر، فدل الخبر على أن الإجابة تختص بالصورة الأولى دون ثلاث، قال: ودل الحديث على أن مطلق قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} مقيد بما دل عليه الحديث. قلت: وقد أول الحديث المشار إليه قبل على أن المراد بالإجابة ما هو أعم من تحصيل المطلوب بعينه أو ما يقوم مقامه ويزيد عليه، واللَّه أعلم). اهـ بتصرف.

من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء:

(تابع الأحاديث المنتخبة المشار إليها):

13 -

عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: (كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدأ بنفسه)(صحيح) رواه الطبراني [وأولى من الطبراني رواه أبو داود كما أشار المناوي (1)].

جاء في «فيض القدير» للمناوي رحمه الله:

(«كان إذا دعا بدأ بنفسه» . زاد أبو داود في روايته: وقال: رحمة اللَّه علينا وعلى موسى. اهـ. ومن ثم ندبوا للداعي أن يبدأ بالدعاء لنفسه قبل دعائه لغيره فإنه أقرب إلى الإجابة إذ هو أخلص في الاضطرار وأدخل في العبودية وأبلغ في الافتقار وأبعد عن الزهو والإعجاب وذلك سنة الأنبياء والرسل قال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28]، وقال الخليل:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]. وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

تنبيه: قال ابن حجر ابتداؤه بنفسه في الدعاء غير مطرد فقد دعا لبعض الأنبياء فلم

(1) لعل الألباني أثابه اللَّه تعالى قصد رواية أبي أيوب فحسب. (قل).

ص: 129

يبدأ بنفسه فقال: (رحم اللَّه لوطًا)(1)(رحم اللَّه يوسف)(2) ودعا لابن عباس بقوله: (اللهم فقهه في الدين)(3)، ودعا لحسان بقوله:«اللهم أيده بروح القدس» (4). وعدول المصنف للعزو للطبراني واقتصاره عليه غير جيد لإبهامه أنه لا يوجد مخرجًا لأحد من الستة، وقد عرفت أن أبا داود خرّجه فهو بالعزو إليه أحق. اهـ. من «فيض القدير». ورواية أبي داود كما في «صحيح سنن أبي داود» للألباني أثابه اللَّه تعالى:(عن أبي بن كعب، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدأ بنفسه). وقال: «رحمة اللَّه علينا وعلى موسى لو صبر لرأى من صاحبه العجب» صحيح - متفق عليه). اهـ.

وجاء في «تحفة الأحوذي» (جـ 9 ص 266، 267) تعليقًا على رواية أبي بن كعب: (أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه).

(صحيح) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم. (قلت: فظهر أن بداءته صلى الله عليه وسلم بنفسه عند ذكر أحد والدعاء لم يكن من عادته اللازمة).

14 -

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إذا تمنى أحدكم فليكثر؛ فإنما يسأل ربه» .

(صحيح). رواه الطبراني في «الأوسط» - «الصحيحة» (1266).

جاء في «فيض القدير» للمُناوي رحمه اللَّه تعالى:

(«إذا تمنى أحدكم» على ربه خيرًا من خير الدارين «فليكثر» الأماني «فإنما يسأل ربه» الذي رباه وأنعم عليه وأحسن إليه «عز وجل» فيعظم الرغبة ويوسع المسألة ويسأله الكثير والقليل حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لا يتيسر؛ فينبغي للسائل إكثار المسألة ولا يختصر ولا يقتصر فإن خزائن الجود سحاء الليل والنهار أي دائمةً لا ينقصها شيء ولا يفنيها عطاء وإن جل وعظم لأن عطاءه بين الكاف والنون {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل: 40] قال الزمخشري: وليس ذا بمناقض لقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32]، فإن

(1)(رحم اللَّه لوطًا فكان يأوي إلى ركن شديد .... ) حسن - رواه أحمد والترمذي والحاكم - انظر «صحيح الجامع» . (قل).

(2)

رحم اللَّه أخي يوسف لو أنا أتاني الرسول بعد طول الحبس لأسرعت الإجابة حين قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} . (صحيح) رواه أحمد في «الزهد» ، وابن المنذر عن الحسن مرسلاً «الصحيحة» (1867) - انظر «صحيح الجامع» . (قل).

(3)

رواه البخاري. (قل).

(4)

متفق عليه. (قل).

ص: 130

ذلك نهي عن تمني ما لأخيه بغيًا وحسدًا، وهذا تمني على اللَّه عز اسمه خيرًا في دينه ودنياه وطلب من خزائنه فهو نظير {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32]. اهـ.

15 -

عن سلمان قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر» .

(حسن). رواه الترمذي والحاكم «الصحيحة» (154).

جاء في «تحفة الأحوذي» للمباركفوري رحمه اللَّه تعالى (جـ 6 ص 288، 289):

(قوله: «لا يرد القضاء إلا الدعاء» القضاء هو الأمر المقدر، وتأويل الحديث أنه إن أراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه به ويتوقاه فإذا وفق للدعاء دفعه اللَّه عنه فتسميته قضاء مجاز على حسب ما يعتقده المتوقى عنه، يوضحه قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الرقى:«هو من قدر اللَّه» . وقد أمر بالتداوي والدعاء مع أن المقدور كائن لخفائه على الناس وجودًا وعدمًا، ولما بلغ عمر الشام وقيل له إن بها طاعونًا رجع، فقال أبو عبيدة: أتفر من القضاء يا أمير المؤمنين؟ فقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! نعم نفر من قضاء اللَّه إلى قضاء اللَّه. أو أراد برد القضاء إن كان المراد حقيقته تهوينه وتيسير الأمر حتى كأنه لم ينزل، يؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر: أن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. وقيل: الدعاء كالترس والبلاء كالسهم والقضاء أمر مبهم مقدر في الأزل «ولا يزيد في العمر» بضم الميم وتسكن «إلا البر» بكسر الباء وهو الإحسان والطاعة. قيل يزاد حقيقة. قال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَاّ فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11]، وقال:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، وذكر في الكشاف أنه لا يطول عمر الإنسان ولا يقصر إلا في كتاب وصورته أن يكتب في اللوح إن لم يحج فلانٌ أو يغز فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة؛ فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمَّر، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعين فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون وذكر نحوه في معالم التنزيل. وقيل معناه: إنه إذا بر لا يضيع عمره فكأنه زاد. وقيل: قدر أعمال البر سببًا لطول العمر كما قدر الدعاء سببًا لرد البلاء. فالدعاء للوالدين وبقية الأرحام يزيد في العمر إما بمعنى أنه يبارك له في عمره فييسر له في الزمن القليل من الأعمال الصالحة ما لا يتيسر لغيره من العمل الكثير فالزيادة مجازية لأنه يستحيل في الآجال الزيادة الحقيقية. قال الطيبي: اعلم أن اللَّه تعالى إذا علم أن زيدًا يموت

ص: 131

سنة خمسمائة، استحال أن يموت قبلها أو بعدها، فاستحال أن تكون الآجال التي عليها علم اللَّه تزيد أو تنقص، فتعين تأويل الزيادة أنها بالنسبة إلى ملك الموت أو غيره ممن وكل بقبض الأرواح وأمره بالقبض بعد آجال محدودة، فإنه تعالى بعد أن يأمره بذلك أو يثبت في اللوح المحفوظ ينقص منه أو يزيد على ما سبق علمه في كل شيء، وهو بمعنى قوله تعالى:{ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2] فالإشارة بالأجل الأول إلى ما في اللوح المحفوظ وما عند ملك الموت وأعوانه، وبالأجل الثاني إلى ما في قوله تعالى:{وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ، وقوله تعالى:{إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49]. والحاصل أن القضاء المعلق يتغير، وأما القضاء المبرم فلا يبدل ولا يغيره، انتهى). اهـ من «تحفة الأحوذي» .

الدعاء يدفع المكروه:

جاء في «الجواب الكافي» لابن القيم رحمه الله ما مختصره:

وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب ولكن قد يتخلف عنه أثره، إما لضعفه في نفسه، بأن يكون دعاء لا يحبه اللَّه لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على اللَّه وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًّا، فإن السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا. وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام ورين الذنوب على القلوب واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليه، كما في «مستدرك الحاكم» من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ادعوا اللَّه وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن اللَّه لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه» (1) فهذا (الدعاء) دواء نافع مزيل للداء، ولكن غفلة القلب عن اللَّه تبطل قوته، وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها، كما في «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن اللَّه طيب، لا يقبل إلا طيبًا، وإن اللَّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟» وذكر عبد اللَّه

(1) حسن - رواه الترمذي والحاكم. انظر «صحيح الجامع» . (قل).

ص: 132

بن أحمد في كتاب «الزهد» لأبيه: «أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجًا، فأوحى اللَّه عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم: إنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليَّ أكفًّا قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن حين اشتد غضبي عليكم، لن تزدادوا مني إلا بعدًا» . وقال أبو ذر: يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح.

والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل.

وله مع البلاء ثلاث مقامات:

أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.

الثاني: أن يكون أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه، وإن كان ضعيفًا.

الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل منهما صاحبه.

والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه، لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحًا تامًا لا آفة به، والساعد ساعدًا قويًّا، والمانع مفقودًا، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير، فإن كان في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثَمّ مانع من الإجابة، لم يحصل الأثر.

سؤال هام مشهور:

وهاهنا سؤال مشهور وهو: أن المدعو به إن كان قد قدر، لم يكن بُدّ من وقوعه دعا به العبد أو لم يدع، وإن لم يكن قد قدر، لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله (1) فظنت طائفة صحة هذا السؤال. فتركت الدعاء وقالت: لا فائدة فيه. وهؤلاء - مع فرط جهلهم وضلالهم - متناقضون، فلو اطرد مذهبهم لوجب تعطيل جميع الأسباب. فيقال لأحدهم: إن كان الشبع والري قد قدرا لك، فلا بد من وقوعهما، أكلت أو لم تأكل. وإن لم يقدرا لك لم يقعا، أكلت أو لم تأكل، وإن كان الولد قد قدر لك، فلا بد منه، وطئت الزوجة أو الأمة أو لم تطأها، وإن لم يقدر لم يكن، فلا حاجة إلى التزوج والتسري، وهلم جرا، فهل يقول هذا عاقل أو آدمي؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها

(1) أي: كما يقال مثلاً: طالما أن اللَّه تعالى قد كتب عليّ هذه البلوى، فلا فائدة من الدعاء. (قل).

ص: 133

قوامه وحياته، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام، بل هم أضل

والصواب: أن هاهنا قسمًا ثالثًا - غير ما ذكره السائل: وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه: الدعاء، فلم يقدر مجردًا عن سببه، ولكن قدر بسببه فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال، وهذا القسم هو الحق، وهذا الذي حُرِمَه السائل ولم يوفق له، وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب.

ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة باللَّه ورسوله، وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم، وكان عمر رضي الله عنه يستنصر به على عدوه، وكان أعظم جنده، وكان يقول للصحابة:«لستم تنصرون بكثرة، ولكن تنصرون من السماء» وكان يقول: «إني لا أحمل هَمَّ الإجابة، ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإن ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه» .

وأخذ الشاعر هذا المعنى فنظمه، فقال:

لو لم تُرد نيلَ ما أرجو وأطلبه

من جود كفيك ما علَّمتني الطلبا

بل الفقيه كل الفقه الذي يرد القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر، بل لا يمكّن الإنسان أن يعيش إلا بذلك.

فإن الجوع والعطش والبرد، وأنواع المخاوف والمحاذير هما من القدر، والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر، وهكذا من وفقه اللَّه وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة، فهذا هو القدر المخوف في الدنيا وما يضاده، فرب الدارين واحد، وحكمته واحدة، لا تناقض بعضها بعضًا، ولا يبطل بعضها بعضًا، فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، واللَّه المستعان (1). انتهى.

(1)«الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» لابن القيم رحمه الله (ص: 7: 18). (قل).

ص: 134