الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: الموت
قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27].
جاء في «مختصر منهاج القاصدين» (1) ما مختصره:
اعلم: أن المنهمك في الدنيا المكب في غرورها يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره، وإن ذكره كرهه ونفر منه
…
وعلى كل حال، ففي ذكر الموت ثواب وفضل، فإن المنهمك في الدنيا قد يستفيد بذكر الموت التجافي عن الدنيا؛ لأن ذكره ينغص عليه نعيمه ويكدره.
فضل ذكر الموت:
قال اللَّه تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت» ، رواه الترمذي وقال: حديث حسن (2).
واعلم: أن خطر الموت عظيم، وإنما غفل الناس عنه لقلة فكرهم وذكرهم له، ومن يذكره منهم إنما يذكره بقلب غافل، فلهذا لا ينجع فيه ذكر الموت، والطريق في ذلك أن يفرغ العبد قلبه لذكر الموت الذي هو بين يديه، كالذي يريد أن يسافر إلى مفازة مخطرة، أو يركب البحر، فإنه لا يتفكر إلا في ذلك. وأنفع طريق في ذلك ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قبله، فيذكر موتهم ومصارعهم تحت الثرى.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: السعيد من وعظ بغيره. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إذا ذكر الموت، فعد نفسك كأحدهم.
وينبغي أن يكثر دخول المقابر، ومتى سكنت نفسه إلى شيء في الدنيا، فليتفكر في الحال أنه لا بد من مفارقته، ويقصر أمله.
وقد روى عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
وعن أبي زكريا التيمي قال: بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام، إذ أتي
بحجر منقوش، فطلب من يقرأه، فإذا فيه: ابن آدم! لو رأيت قرب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك ندمك لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، فبان منك الولد والنسب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة، يوم الحسرة والندامة.
واعلم أن السبب في طول الأمل شيئان:
أحدهما: حب الدنيا. والثاني: الجهل.
أما حب الدنيا فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكل من كره شيئًا دفعه عن نفسه، والإنسان مشغول بالأماني الباطلة، فيمني نفسه أبدًا بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا، وما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن وأصدقاء وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفًا على هذا الفكر، فيلهو عن ذكر الموت، ولا يقدر قربه. فإن خطر له الموت في بعض الأحوال والحاجة إلى الاستعداد له، سوَّف بذلك ووعد نفسه، وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب. وإذا كبر قال: إلى أن يصير شيخًا، وإن صار شيخًا، قال: إلى أن يفرغ من بناء هذا الدار، وعمارة هذه الضيعة، أو يرجع من هذه السفرة، فلا يزال يسوَّف ويؤخر، ولا يحرص في إتمام شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال، وهكذا على التدريج يؤخر يومًا بعد يوم، ويشتغل بشغل بعد شغل، إلى أن تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسرته.
وأكثر صياح أهل النار من «سوف» يقولون: واحسرتاه! من «سوف» .
وأصل هذه الأماني كلها حبُّ الدنيا والأنس بها، والغفلة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أحبب ما شئت فإنك مفارقه» (1).
السبب الثاني: الجهل، وهو أن الإنسان يعول على شبابه، ويستبعد قرب الموت مع الشباب، أو ليس يتفكر المسكين في أن مشايخ بلده لو عدوا كانوا أقل من العشر؟ وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر، وإلى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبي وشاب، وقد يغتر بصحته، ولا يدري أن الموت يأتي فجأة، وإن استبعد ذلك، فإن المرض يأتي فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيدًا، ولو تفكر وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص، من صيف
(1) حسن - الشيرازي في الألقاب، والحاكم، والبيهقي في «شعب الإيمان» و «الحلية» انظر «صحيح الجامع» . (قل).
وشتاء وربيع وخريف وليل ونهار، ولا هو مقيد بسن مخصوص، من شاب وشيخ أو كهل أو غيره، لعظم ذلك عنده واستعد للموت.
فصل: في تفاوت الناس في طول الأمل
والناس متفاوتون في طول الأمل تفاوتًا كثيرًا، منهم من يأمل البقاء إلى زمان الهرم، ومنهم من لا ينقطع أمله بحال، ومنهم من هو قصير الأمل، فروي عن أبي عثمان النهدي أنه قال: بلغت ثلاثين ومائة سنة، وما من شيء إلا قد عرفت فيه النقصان إلا أملي فإنه كما هو.
وحكي في قصر الأمل أن امرأة حبيب أبي محمد قالت: كان يقول لي - يعني أبا محمد: إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني ويفعل كذا وكذا، واصنعي كذا وكذا، فقيل لها: أرأى رؤيا؟ قالت: هكذا يقول كل يوم.
وعن محمد بن أبي توبة قال: أقام معروف الصلاة ثم قال لي: تقدم، فقلت: إني إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها، فقال معروف: أنت تحدث نفسك أنك تصلي صلاة أخرى؟ نعوذ باللَّه من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل.
فهذه أحوال الزهاد في قصر الأمل، وكلما قصر الأمل، جاد العمل، لأنه يقدر أن يموت اليوم، فيستعد استعداد ميت، فإذا أمسى شكر اللَّه تعالى على السلامة، وقدر أنه يموت تلك الليلة فيبادر إلى العمل.
وقد ورد الشرع بالحث على العمل والمبادرة إليه:
ففي «صحيح البخاري» عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ» (1).
وعنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك
(1) جاء في «تحفة الأحوذي» (ج 7 ص 3، 4) ما مختصره: (أي: صحة البدن وفراغ الخاطر بحصول الأمن ووصول كفاية الأمنية، والمعنى لا يعرف قدر هاتين النعمتين كثير من الناس، حيث لا يكسبون فيهما من الأعمال كفاية ما يحتاجون إليه في معادهم فيندمون على تضييع أعمارهم عند زوالها، ولا ينفعهم الندم. قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]، وفي حاشية السيوطي رحمه الله قال العلماء: معناه أن الإنسان لا يتفرغ للطاعة إلا إذا كان مكفيا صحيح البدن فقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، وقد يكون صحيحًا ولا يكون مستغنيًا، فلا يكون متفرغًا للعلم والعمل لشغله بالكسب، فمن حصل له الأمران وكسل عن الطاعة فهو المغبون أي الخاسر في التجارة مأخوذ من الغبن في البيع) اهـ (قل).