الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علاج العين:
1 -
الرقية (التعوذات): سواء كانت العين إنسية أو جنية، وقد تقدم حديث الجارية السابق.
وفي «الصحيحين» عن عائشة قالت: (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر أن نسترقي من العين).
قال الحافظ في «الفتح» (جـ10 ص 211): (أي يطلب الرقية ممن يعرف الرقى بسبب العين [وهي لا تكون إلا بالقرءان والسنة] وقال رحمه الله: (وفي الحديث مشروعية الرقية لمن أصابه العين). اهـ من «الفتح» .
وجاء في «زاد المعاد» (جـ4 ص 168: 173) ما مختصره:
(والنفس: العين، يقال: أصابت فلانًا نفس، أي: عين. والنافس: العائن.
فمن التعوذات والرقى الإكثار من قراءة المعوذتين، وفاتحة الكتاب، وآية الكرسي ومنها التعوذات النبوية.
نحو: أعوذ بكلمات اللَّه التامات من شر ما خلق.
ونحو: أعوذ بكلمات اللَّه التامة من كل شيطان وهامة (1)، ومن كل عين لامة.
ونحو: أعوذ بكلمات اللَّه التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ (2)، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في
(1) هامة: بتشديد الميم واحدة الهوام التي تدب على الأرض وتؤذي الناس، وقيل: هي ذات السموم واللَّه أعلم، والظاهر أنها أعم من ذات السموم. لامة: أي - العين - التي تصيب بسوء كما في «الصحاح» . كذا في «تحفة الذاكرين» للشوكاني. (قل).
تنبيه: هذه أدعية عامة، بقطع النظر عن صحتها، وبقطع النظر عن ارتباطها بوقت معين، إلا ما ثبت منه في وقت معين فلا بد من العمل به في وقته كالمعوذات وآية الكرسي، وأعوذ بكلمات اللَّه التامات من شر ما خلق. (قل).
(2)
برأ: في أسماء اللَّه تعالى (البارئ) هو الذي خلق الخلق لا عن مثال، ولهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان، ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلما تستعمل في غير الحيوان، فيقال: برأ اللَّه النسمة، وخلق السماوات والأرض - كذا في «النهاية» ، وفي «المعجم الوسيط»: ذرأ بمعنى خلق. (قل).
الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل، والنهار، ومن شر طوارق الليل إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن.
ومنها: «أعوذ بكلمات اللَّه التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن شر همزات الشياطين وأن يحضرون» .
ومن جرب هذه الدعوات والعُوذ، عرف مقدار منفعتها، وشدة الحاجة إليها، وهي تمنع وصول أثر العائن، وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها، وقوة نفسه، واستعداده، وقوة توكله وثبات قلبه، فإنها سلاح، والسلاح بضاربه.
فصل
2 -
وإذا كان العائن يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين، فليدفع شرها بقوله: اللهم بارك عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف:«ألا برَّكت» أي: قلت: اللهم بارك عليه. [وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى].
3 -
وما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء اللَّه لا قوة إلا باللَّه، روى هشام بن عروة، عن أبيه، أنه كان إذا رأى شيئًا يعجبه، أو دخل حائطًا من حيطانه، قال: ما شاء اللَّه، لا قوة إلا باللَّه.
4 -
ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم الذي رواها مسلم في «صحيحه» : «باسم
اللَّه أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد اللَّه يشفيك، باسم اللَّه أرقيك».
5 -
ورأى جماعة من السلف أن تكتب له الآيات من القرآن، ثم يشربها.
قال مجاهد: لا بأس أن يكتب القرآن، ويغسله، ويسقيه المريض، ومثله عن أبي قلابة. ويذكر عن ابن عباس: أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسر عليها ولادُها أثرٌ من القرآن، ثم يغسل وتسقى.
وقال أيوب: رأيت أبا قلابة كتب كتابًا من القرآن، ثم غسله بماء، وسقاه رجلاً كان به وجع.
6 -
ومنها: أن يؤمر العائن بغسل مغابنه (1) وأطرافه وداخلة إزاره، وفيه قولان:
أحدهما: أنه فرجه.
والثاني: أنه طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده من الجانب الأيمن، ثم يُصَبُ على رأس المعين من خلفه بغتة، وهذا مما لا يناله علاج الأطباء، ولا ينتفع به من أنكره، أو سخر منه، أو شك فيه، أو فعله مجربًا لا يعتقد أن ذلك ينفعه).
[وذكر رحمه الله في أول الباب]:
قال الزهري: يؤمر الرجل العائن بقدح، فيدخل كفه فيه، فيتمضمض، ثم يمجه في القدح، ويغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على ركبته اليمنى في القدح، ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على ركبته اليسرى، ثم يغسل داخله إزاره، ولا يوضع القدح في الأرض، ثم يصب على رأس الرجل الذي تصيبه العين من خلفه صبةً واحدة (2)). اهـ من «زاد المعاد» .
الكلام على اغتسال العائن للمعين - بالتفصيل - من «تحفة الأحوذي» ، والذي قد سبقت الإشارة إليه: أي تكملة شرح الحديث المذكور في أول الباب: قال المباركفوري رحمه اللَّه تعالى: («وإذا استغسلتم» بصيغة المجهول أي إذا طلبتم للاغتسال «فاغسلوا» أطرافكم عند طلب المعيون ذلك من العائن، وهذا كان أمرًا معلومًا عندهم، فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، وأدنى ما في ذلك رفع الوهم الحاصل في ذلك، وظاهر الأمر
(1) مغابن البدن، الآباط وكل موضع اجتمع فيه الوسخ، الواحد مغبن مثل مسجد، ومنه غبنت الثوب أي ثنيته - كذا في «المصباح المنير» . (قل).
(2)
ذكره البيهقي في «السنن» (9/ 352) عقب حديث سهل.
الوجوب. وحكى المازري فيه خلافًا وصحح الوجوب وقال: متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين. وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى، ولم يبين في هذا الحديث صفة الاغتسال وقد وقعت في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة فلبط، أي صرع وزنًا ومعنى أي سهل، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:«هل تتهمون به من أحد؟» قالوا: عامر بن ربيعة فدعا عامرًا فتغيظ عليه، فقال:«علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت» ! ثم قال: «اغتسل له» ، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزارة في قدح ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره ثم يكفأ القدح، ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس. لفظ أحمد من رواية أبي أويس عن الزهري، ولفظ النسائي من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري بهذا السند أنه يصب صبة على وجهه بيده اليمنى وكذلك سائر أعضائه صبة صبة في القدح، وقال في آخره ثم يكفأ القدح وراءه على الأرض، ووقع في رواية ابن ماجه من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي أمامة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل فذكر الحديث، وفيه فليدع بالبركة، ثم دعا بماء فأمر عامرًا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره وأمره أن يصب عليه. قال سفيان قال معمر عن الزهري: وأمر أن يكفأ الإناء من خلفه. قال المازري: المراد بداخلة الإزار الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن، وقد ظن بعضهم أن داخلة الإزار كناية عن الفرج انتهى. وزاد عياض أن المراد ما يلي جسده من الإزار، وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد وقيل أراد وركه لأنه، معقد الإزار). اهـ
من «تحفة الأحوذي» .
وجاء في «زاد المعاد» (جـ4 ص 173):
7 -
(ومن علاج ذلك أيضًا والاحتراز منه ستر محاسن من يخاف عليه العين بمن يردها عنه، كما ذكر البغوي في كتاب «شرح السنة»: أن عثمان رضي الله عنه رأى صبيًا مليحًا، فقال: دَسِّمُوا نُونَتَه، لئلا تصيبه العين، ثم قال في تفسيره: ومعنى: دسموا نونته: أي: سودوا نونته، والنونة: النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير.
وقال الخطابي في «غريب الحديث» له: عن عثمان إنه رأى صبيًا تأخذه العين، فقال: دسموا نونته. فقال أبو عمرو: سألت أحمد بن يحيى عنه، فقال: أراد بالنونة: النقرة في ذقنه. والتدسيم: التسويد. أراد: سودوا ذلك الموضع من ذقنه، ليرد العين). اهـ من «زاد المعاد» .
وجاء في «التفسير القيم» لابن القيم رحمه اللَّه تعالى (ص 577: 594) ما مختصره:
(والعاين والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء).
فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه، وتتوجه نحو من يريد أذاه.
فالعائن: تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته.
والحاسد: يحصل له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره أيضًا.
ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده، من جماد أو حيوان، أو زرع، أو مال، وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه. وربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق، مع تكييف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين.
والمقصود: أن العائن حاسد خاص. وهو أضر من الحاسد. ولهذا - واللَّه أعلم - إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن لأنه أعم.
فكل عائن حاسد ولا بد. وليس كل حاسد عائنًا. فإذا استعاذ من شر الحاسد دخل فيه العائن. وهذا من شمول القرآن وإعجازه وبلاغته.
والشيطان يقارن الساحر والحاسد، ويحادثهما ويصاحبهما. ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان، لأن الحاسد شبيه بإبليس، وهو في الحقيقة من أتباعه؛ لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس، وزوال نعم اللَّه عنهم، كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله، وأبى أن يسجد له حسدًا. فالحاسد من جند إبليس. وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه. وربما يعبده من دون اللَّه، حتى يقضي له حاجته، وربما يسجد له.
وفي كتب السحر والسر المكتوم من هذا عجائب. ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ.
والمقصود: أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر، لكن الحاسد بطبعه ونفسه وبغضه للمحسود، والشيطان يقترن به ويعينه، ويزين له حسده، ويأمره بموجبه. والساحر بعلمه، وكسبه، وشركه، واستعانته بالشياطين.
فصل
ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب (1):
أحدها: التعوذ باللَّه من شره، والتحصن به واللجأ إليه. وهو المقصود بهذه السورة واللَّه تعالى سميع لاستعاذته، عليمٌ بما يستعيذ منه، والسمع هنا المراد به: سمع الإجابة، لا السمع العام. فهو مثل قوله:«سمع اللَّه لمن حمده» وقول الخليل صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} [إبراهيم: 39] ومرة يقرنه بالعلم، ومرة بالبصر، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك، فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن اللَّه يراه، ويعلم كيده وشره. فأخبر اللَّه تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته، أي مجيب، عليم بكيد عدوه، يراه ويبصره، لينبسط أمل المستعيذ، ويقبل بقلبه على الدعاء.
وتأمل حكمة القرآن، كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ:{السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} في الأعراف (2) وحم السجدة أي: فصلت (3). وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ويرون بالأبصار بلفظ: {السَّمِيعُ البَصِيرُ} في سورة حم المؤمن فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَاّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56] لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر، وأما نزغ الشيطان فوساوس، وخطرات يلقيها في القلب، يتعلق بها العليم فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها. وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يُرى بالبصر، ويدرك بالرؤية، واللَّه أعلم.
السبب الثاني: تقوى اللَّه، وحفظه عند أمره ونهيه. فمن اتقى اللَّه تولى اللَّه حفظه،
(1) غالب هذه الأشياء يصلح لدفع الشرور بصفة عامة. (قل).
(2)
آية الأعراف: 200 {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . (قل).
(3)
آية فصلت: 36: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . (قل).
ولم يكله إلى غيره. قال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد اللَّه بن عباس: «احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك» (1)، فمن حفظ اللَّه حفظه اللَّه، ووجده أمامه أينما توجه. ومن كان اللَّه حافظه وأمامه فممَّن يخاف؟ وممَّنْ يحذر؟
السبب الثالث: الصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً. فما نُصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه، والتوكل على اللَّه ولا يستطل تأخيره وبغيه.
السبب الرابع: التوكل على اللَّه: والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم. وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإن اللَّه حسبه، أي كافيه. ومن كان اللَّه كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه، كالحر والبرد، والجوع والعطش، وإما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدًا.
وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له، وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يتشفى به منه.
قال بعض السلف: جعل اللَّه لكل عمل جزاء من جنسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال:{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، ولم يقل: نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه، وواقيه.
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له فلا يلتفت إليه ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه.
السبب السادس: وهو الإقبال على اللَّه والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه، وأمانيها تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئًا فشيئًا، حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية، فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب، والتقرب إليه وتملقه وترضيه، واستعطافه وذكره، قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس: أنه قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]، فقال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ
(1) صحيح - رواه أحمد والترمذي والحاكم - انظر «صحيح الجامع» . (قل).
عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99، 100]، وقال في حق الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
السبب السابع: تجريد التوبة إلى اللَّه من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه. فإن اللَّه تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقال لخير الخلق، وهم أصحاب نبيه دونه صلى الله عليه وسلم:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
فما سلط على العبد ما يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها. وما ينساه مما عمله أضعاف ما يذكره.
وفي الدعاء المشهور: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم» (1).
فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه. فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب.
ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه، فقال له: قف حتى أدخل البيت، ثم أخرج إليك. فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب، وأناب إلى ربه. ثم خرج إليه فقال له: ما صنعت؟ فقال: تبت إلى اللَّه من الذنب الذي سلطك به عليَّ.
وسنذكر إن شاء اللَّه تعالى أنه ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها. فإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها. فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح.
وعلامة سعادته: أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها. فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به، بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه. واللَّه يتولى نصرته وحفظه، والدفع عنه ولا بد.
فما أسعده من عبد، وما أبركها من نازلة نزلت به، وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيد اللَّه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. فما كل أحد يوفق لهذا، لا معرفة به، ولا إرادة له، ولا قدرة عليه، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه. فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، ودفع العين، وشر الحاسد. ولو لم يكن في هذا إلا بتجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكفى به. فما تكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد. وكانت له فيه العاقبة الحميدة.
السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس، وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من اللَّه - وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه.
فكلما ازداد أذىً وشرًّا وبغيًا وحسدًا ازددت إليه إحسانًا، وله نصيحة، وعليه شفقة. وما أظنك تصدق بأن هذا يكون، فضلاً عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قوله عز وجل: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ - وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ - وَإِمَّا
(1) صحيح - الحكيم عن أبي بكر - انظر «صحيح الجامع» رقم (3731): «الشرك فيكم
…
». (قل).
يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34: 36]، وقال:{أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص: 54].
واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس، ويطيبه إليها ويُنعمها به.
اعلم أن لك ذنوبًا بينك وبين اللَّه، تخاف عواقبها، وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك. ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة، حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله. فإذا كنت ترجو هذا من ربك، وتحب أن يقابل به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه، وتقابل به إساءتهم؛ ليعاملك اللَّه تلك المعاملة. فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل اللَّه معك في ذنوبك وإساءتك، جزاءً وفاقًا. فانتقم بعد ذلك، أو اعف، وأحسن أو اترك. فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباده يفعل معك.
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله، وعليه مدار هذه الأسباب، وهو تجريد التوحيد، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محركها، وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه. فهو الذي يحسن إلى عبده بها. وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه. قال تعالى:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما:«واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك» (1).
فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع اللَّه، بل يفرد اللَّه بالمخافة وقد أمنه منه. وخرج من قلبه اهتمامه به، واشتغاله به وفكره فيه، وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلاً، واشتغالاً به عن غيره، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، واللَّه يتولى حفظه والدفع عنه، فإن اللَّه يدافع عن الذين آمنوا، فإن كان مؤمنًا باللَّه فاللَّه يدافع عنه ولا بد. وبحسب إيمانه يكون دفاع اللَّه عنه. فإن كمل إيمانه كان دفع اللَّه عنه أتم دفع، وإن مزج، مزج له. وإن كان مرة ومرة
(1) تقدم تحت السبب الثاني - منذ قليل - «احفظ اللَّه ..... » . (قل).
فاللَّه له مرة ومرة، كما قال بعض السلف: من أقبل على اللَّه بكليته أقبل اللَّه عليه جملة. ومن أعرض عن اللَّه بكليته أعرض اللَّه عنه جملة. ومن كان مرة ومرة فاللَّه له مرة ومرة.
فالتوحيد حصن اللَّه الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين، قال بعض السلف: من خاف اللَّه خافه كل شيء. ومن لم يخف اللَّه أخافه من كل شيء.
هذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفع من التوجه إلى اللَّه وإقباله عليه، وتوكله عليه، وثقته به، وأن لا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه منه وحده، ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحده، فلا يعلق قلبه بغيره، ولا يستغيث بسواه، ولا يرجو إلا إياه. ومتى علق قلبه بغيره ورجاه وخافه: وكل إليه وخذل من جهته. فمن خاف شيئًا غير اللَّه سُلِّط عليه. ومن رجا شيئًا سوى اللَّه خذل من جهته وحرم خيره. هذه سنة اللَّه في خلقه. ولن تجد لسنة اللَّه تبديلا). اهـ من «التفسير القيم» .
* * *