الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابة الحسنات والسيئات
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: «إن اللَّه عز وجل كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها اللَّه عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها، كتبها اللَّه عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئةٍ فلم يعملها، كتبها اللَّه عنده حسنةً كاملةً، وإن هم بها فعملها كتبها اللَّه سيئةً واحدةً» . رواه البخاري ومسلم (1).
جاء في «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى بتحقيق: شعيب الأرنؤوط وإبراهيم باجس - أثابهما اللَّه تعالى - ما مختصره:
وفي رواية لمسلم زيادةٌ في آخر الحديث، وهي:«أو محاها اللَّه، ولا يهلك على اللَّه إلا هالكٌ» .
فتضمنت هذه النصوص كتابة الحسنات والسيئات، والهمّ بالحسنة والسيئة، فهذه أربعة أنواع:
النوع الأول: عمل الحسنات، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرةٍ، فمضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات، وقد دل عليه قوله تعالى:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء اللَّه أن يُضاعف له، فدل عليه قوله تعالى:{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل اللَّه تضاعف بسبع مئة ضعف.
وفي «صحيح مسلم» عن أبي مسعود، قال: جاء رجل بناقةٍ مخطومةٍ، فقال: يا رسول اللَّه، هذه في سبيل اللَّه، فقال:«لك بها يوم القيامة سبع مئة ناقة» .
النوع الثاني: عمل السيئات، فتكتب السيئةُ بمثلها من غير مضاعفةٍ، كما قال تعالى:{وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَاّ مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160].
وقوله: «كتبت له سيئة واحدة» إشارة إلى أنها غير مضاعفة، ما صرح به في حديث آخر، لكن السيئة تعظم أحيانًا بشرف الزمان، أو المكان (2).
(1) رواه البخاري (6491)، ومسلم (131)، وأحمد (1/ 310، 361).
(2)
شرف الزمان كأن تكون المعصية في رمضان، وشرف المكان كأن تكون المعصية في الحرم، وانظر تفصيل ذلك في «جامع العلوم والحكم» ، و «لطائف المعارف» لابن رجب رحمه اللَّه تعالى. (قل).
وقد تضاعف السيئات بشرف فاعلها، وقوة معرفته باللَّه، وقربه منه، فإن من عصى السلطان على بساطه أعظم جرمًا ممن عصاه على بعد، ولهذا توعد اللَّه خاصة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء، وإن كان قد عصمهم منها، ليبين لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك، كما قال تعالى:{ولَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً - إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 74، 75].
وقال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا - وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 30، 31] وكان علىُّ بن الحسين يتأول في آل النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم مثل ذلك لقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثالث: الهمُّ بالحسنات، فتكتب حسنة كاملة وإن لم يعملها، كما في حديث ابن عباس وغيره، وفي حديث أبي هريرة الذي خرجه مسلم:«إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنةً، فأنا أكتبها له حسنةً» ، والظاهر أن المراد بالتحدث: حديث النفس، وهو الهم، وفي حديث خريم بن فاتك:«من همَّ بحسنةٍ فلم يعملها، فعلم اللَّه أنه قد أشعرها قلبَه، وحرص عليها، كتبت له حسنة» ، وهذا يدل على أن المراد بالهم هنا: هو العزم المصمم الذي يوجد معه الحرص على العمل، لا مجرد الخطرة التي تخطر، ثم تنفسخ من غير عزم ولا تصميم (1). ومتى اقترن بالنية قول أو سعي، تأكد الجزاء، والتحق صاحبه بالعامل، كما روى أبو كبشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه اللَّه مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه اللَّه علمًا، ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً، لعملت بعمل فلانٍ، فهو بنيته، فأجرهما سواءٌ، وعبد رزقه اللَّه مالاً، ولم يرزقه علمًا يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه اللَّه مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالاً، لعملت فيه بعمل فلانٍ فهو بنيته فوزرهما سواءٌ» .
(1) عوضًا عن ما جاء في «جامع العلوم والحكم» هنا، وتيسيرًا على القارئ - خاصة جانب التحقيق - قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:«ما من امرئ يكونُ له صلاة بالليل، فيغلبه عليها النومُ، إلا كتب اللَّه تعالى له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة» . (صحيح، رواه أبو داود والنسائي، انظر «صحيح الجامع») قال المُناوي رحمه اللَّه تعالى في «فيض القدير» : (وكان نومه عليه صدقة) مكافأة له على نيته، قالوا: وهذا فيمن تعود ذلك الورد، ووقع له عليه النوم أحيانًا). (قل).
خرَّجه الإمام أحمد والترمذي وهذا لفظه، وابن ماجه (1).
وقد حمل قوله: «فهما في الأجر سواءٌ» على استوائهما في أصل أجر العمل، دون مضاعفته، فالمضاعفة يختص بها من عمل العمل دون من نواه فلم يعمله، فإنهما لو استويا من كل وجه، لكتب لمن همَّ بحسنةٍ ولم يعملها عشر حسنات، وهو خلاف النصوص كلها، ويدل على ذلك قوله تعالى:{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا - دَرَجَاتٍ مِّنْهُ} [النساء: 95 - 96].
قال ابن عباس وغيره: القاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجة هم القاعدون من أهل الأعذار، والقاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجاتٍ هم القاعدون من غير أهل الأعذار (2).
النوع الرابع: الهمُّ بالسيئة من غير عمل لها، ففي حديث ابن عباس: أنها تكتب له حسنةً كاملة، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما: أنها تكتب حسنةً، وفي حديث أبي هريرة قال:«إنما تركها من جرَّاي» يعني: من أجلي.
وهذا يدل على أن المراد من قَدِرَ على ما هَمَّ به من المعصية، فتركه لله تعالى، وهذا لا ريب في أنه يكتب له بذلك حسنة؛ لأن تركه للمعصية بهذا القصد عملٌ صالحٌ.
فأما إن هم بمعصية، ثم ترك عملها خوفًا من المخلوقين، أو مراءاةً لهم، فقد قيل: إنه يعاقب على تركها بهذه النية؛ لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف اللَّه محرم. وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم، فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله، عوقب على هذا الترك. وقد خَرَّج أبو نعيم (3) بإسنادٍ ضعيف عن ابن عباس، قال: يا صاحب الذنب، لا تأمنن سوء عاقبته، ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته، وذكر كلامًا، وقال: وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر اللَّه إليك، أعظم من الذنب إذا عملته.
وقال الفضيلُ بن عياض: كانوا يقولون: ترك العمل للناس رياء، والعمل لهم شرك.
وأما إن سعى في حصولها بما أمكنه، ثم حال بينه وبينها القدر، فقد ذكر جماعة أنه يعاقب عليها حينئذ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن اللَّه تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم
(1) بل هو لفظ الترمذي (2325)، ورواه أحمد (4/ 230 ، 231)، وابن ماجه (4228)، والطبراني في «الكبير» (22/ 868)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو كما قال.
(2)
رواه الترمذي (3032)، والطبري في «جامع البيان» (10242).
(3)
في «الحلية» (1/ 324).
تكلم به أو تعمل» (1) ومن سعى في حصول المعصية جهده، ثم عجز عنها، فقد عمل، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار» ، قالوا: يا رسول اللَّه، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ ! قال:«إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» (2).
وقوله: «ما لم تكلَّم به، أو تعمل» يدل على أن الهامَّ بالمعصية إذا تكلم بما هم به بلسانه أنه يعاقب على الهَمِّ حينئذ؛ لأنه قد عمل بجوارحه معصية، وهو التكلم باللسان، ويدل على ذلك حديث الذي قال:«لو أن لي مالاً، لعملت فيه ما عمل فلان» يعني: الذي يعصي اللَّه في ماله، قال:«فهما في الوزر سواء» .
ومن المتأخرين من قال: لا يعاقب على التكلم بما همَّ به ما لم تكن المعصية التي هم بها قولاً محرمًا، كالقذف والغيبة والكذب؛ فأمَّا ما كان متعلقها العمل بالجوارح، فلا يأثم بمجرد التكلم بما هم به، وهذا قد يستدل به على حديث أبي هريرة المتقدم:«وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة، فأنا أغفرها له ما لم يعملها» . ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس، جمعًا بينه وبين قوله:«ما لم تكلَّم به أو تعمل» ، وحديث أبي كبشة يدل على ذلك صريحًا، فإن قول القائل بلسانه:«لو أن لي مالاً، لعملتُ فيه بالمعاصي، كما عمل فلان» ، ليس هو العمل بالمعصية التي هم بها، وإنما أخبر عما همّ به فقط مما متعلّقه إنفاق المال في المعاصي، وليس له مال بالكلية، وأيضًا فكلامه بذلك محرم، فكيف يكون معفوًّا عنه، غير معاقبٍ عليه؟
وبكل حال، فالمعصية إنما تكتب بمثلها من غير مضاعفةٍ، فتكون العقوبة على المعصية، ولا ينضم إليها الهمُّ بها، إذ لو ضم إلى المعصية الهم بها، لعوقب على عمل المعصية عقوبتين، ولا يقال: فهذا يلزم مثلُه في عمل الحسنة، فإنه إذا عملها بعد الهَمِّ بها، أثيب على الحسنة دون الهم بها، لأنا نقول: هذا ممنوع، فإن من عمل حسنة، كتبت له عشر أمثالها، فيجوز أن يكون بعض هذه الأمثال جزاء للهم بالحسنة، واللَّه أعلم.
وقوله في حديث ابن عباس في رواية مسلم: «أو محاها اللَّه» يعني: أن عمل السيئة: إما أن تكتب لعاملها سيئة واحدةٌ، أو يمحوها اللَّه بما شاء من الأسباب، كالتوبة والاستغفار، وعمل الحسنات.
(1) متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
وقوله بعد ذلك: «ولا يهلك على اللَّه إلا هالك» : يعني بعد هذا الفضل العظيم من اللَّه، والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات، والتجاوز عن السيئات، لا يهلك على اللَّه إلا من هلك، وألقى بيديه إلى التهلكة وتجرأ على السيئات، ورغب عن الحسنات، وأعرض عنها. ولهذا قال ابن مسعود: ويل لمن غلب وحدانه (1) عشراته. ا. هـ من «جامع العلوم والحكم» .
* * *
(1) وحدانه: أي: السيئة تكتب سيئة واحدة، (عشراته) أي: الحسنة تكتب بعشر أمثالها. (قل).