الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَحَ صُدُورَنَا بِالْهِدَايَةِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَوَفَّقَنَا لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَمَا شَرَعَهُ مِنْ بَدِيعِ مُحْكَمِ الْأَحْكَامِ، أَحْمَدُهُ سبحانه وتعالى عَلَى جَزِيلِ الْإِنْعَامِ، وَأَشْكُرُهُ أَنْ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ فَأَتْقَنَ وَأَحْكَمَ أَيَّ إحْكَامٍ
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ رَحْمَةً لِلْأَنَامِ، وَالْهَادِي إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ وَإِيضَاحِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْكِرَامِ - صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ لَا يَعْتَرِيهِمَا نَقْصٌ وَلَا انْثِلَامٌ أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَجَلَّ الْعُلُومِ قَدْرًا، وَأَعْلَاهَا فَخْرًا، وَأَبْلَغَهَا فَضِيلَةً، وَأَنْجَحَهَا وَسِيلَةً، عِلْمُ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى سِرِّ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَتْ إعَانَةُ قَاصِدِهِ وَتَيْسِيرُ مَوَارِدِهِ لِرَائِدِهِ، وَمُعَاوَنَتِهِ عَلَى تَذْكَارِ لَفْظِهِ وَمَعَانِيهِ، وَفَهْمِ عِبَارَاتِهِ وَمَبَانِيهِ.
وَلَمَّا رَأَيْتُ الْكِتَابَ الْمَوْسُومَ بِالْإِقْنَاعِ تَأْلِيفُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ، وَالْحَبْرِ الْعُمْدَةِ الْعَلَّامِ، شَرَفِ الدِّينِ أَبِي النَّجَا مُوسَى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَالِمِ بْنِ عِيسَى بْنِ سَالِمٍ الْمُقَدَّمِيِّ الْحَجَّاوِيِّ ثُمَّ الصَّالِحِيِّ الدِّمَشْقِيِّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ وَأَسْكَنَهُ الْغُرُفَاتِ الْعُلْيَا مِنْ جِنَانِهِ، فِي غَايَةِ حُسْنِ الْوِقَاعِ، وَعِظَمِ النَّفْعِ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثَالِهِ، وَلَا نَسَجَ نَاسِجٌ عَلَى مِنْوَالِهِ.
غَيْرَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ يُسْفِرُ عَنْ وُجُوهِ مُحَذَّرَاتِهِ النِّقَابَ، وَيُبْرِزُ مِنْ خَفِيِّ مَكْنُونَاتِهِ بِمَا وَرَاءَ الْحِجَابِ، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى وَشَمَّرْتُ عَنْ سَاعِدِ الِاجْتِهَادِ، وَطَلَبْتُ مِنْ اللَّهِ الْعِنَايَةَ وَالرَّشَادَ، وَكُنْتُ أَوَدُّ لَوْ رَأَيْتُ لِي سَابِقًا أَكُونُ وَرَاءَهُ مُصَلِّيًا، وَلَمْ أَكُنْ فِي حَلَبَةِ رِهَانِهِ مُجَلِّيًا، إذْ لَسْتُ لِذَلِكَ كُفُؤًا بِلَا مِرَا وَالْفَهْمُ لِقُصُورِهِ يُقَدِّمُ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى، وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُمِدَّنِي بِذَارِفِ لُطْفِهِ
وَوَافِرِ عَطْفِهِ، وَسَمَّيْتُهُ (كَشَّافَ الْقِنَاعِ عَنْ الْإِقْنَاعِ) .
وَاَللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَنْفَعَ بِهِ كَمَا نَفَعَ بِأَصْلِهِ، وَأَنْ يُعَامِلَنَا بِفَضْلِهِ، وَمَزَجْتُهُ بِشَرْحِهِ حَتَّى صَارَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا إلَّا صَاحِبُ بَصَرٍ أَوْ بَصِيرَةٍ، لِحَلِّ مَا قَدْ يَكُونُ مِنْ التَّرَاكِيبِ الْعَسِيرَةِ وَتَتَبَّعْتُ أُصُولَهُ الَّتِي أَخَذَ مِنْهَا كَالْمُقْنِعِ وَالْمُحَرَّرِ وَالْفُرُوعِ وَالْمُسْتَوْعِبِ وَمَا تَيَسَّرَ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ مِنْ شُرُوحِ تِلْكَ الْكُتُبِ وَحَوَاشِيهَا، كَالشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَالْمُبْدِعِ وَالْإِنْصَافِ وَغَيْرِهَا مِمَّا مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ كَمَا سَتَرَاهُ، خُصُوصًا شَرْحِ الْمُنْتَهَى وَالْمُبْدِعِ، فَتَعْوِيلِي فِي الْغَالِبِ عَلَيْهِمَا، وَرُبَّمَا عَزَوْتُ بَعْضَ الْأَقْوَالِ لِقَائِلِهَا خُرُوجًا مِنْ عُهْدَتِهَا.
وَذَكَرْتُ مَا أَهْمَلَهُ مِنْ الْقُيُودِ، وَغَالِبَ عِلَلِ الْأَحْكَامِ وَأَدِلَّتِهَا عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِصَارِ غَيْرِ الْمَرْدُودِ وَبَيَّنْتُ الْمُعْتَمَدَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَعَارَضَ كَلَامُهُ فِيهَا، وَمَا خَالَفَ فِيهِ الْمُنْتَهَى مُتَعَرِّضًا لِذِكْرِ الْخِلَافِ فِيهَا لِيُعْلَمَ مُسْتَنَدُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّه تَعَالَى مِمَّا يَقَعُ لِي مِنْ الْخَلَلِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْمَسْطُورَةِ وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ يُرِيدُ أَنْ يُطْفِئَ نُورَ اللَّهِ وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُتِّمَ نُورَهُ وَمَنْ عَثَرَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا طَغَى بِهِ الْقَلَمُ أَوْ زَلَّتْ بِهِ الْقَدَمُ فَلْيَدْرَأْ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ، وَيُحْضِرْ بِقَلْبِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَحِلَّ النِّسْيَانِ، وَأَنَّ الصَّفْحَ عَنْ عَثَرَاتِ الضِّعَافِ مِنْ شِيَمِ الْأَشْرَافِ، وَأَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تَأَسِّيًا بِالْكِتَابِ، وَعَمَلًا بِحَدِيثِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ» أَيْ ذَاهِبُ الْبَرَكَةِ رَوَاهُ الْخَطِيبُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ، وَالْحَافِظُ عَبْدُ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيُّ.
وَالْبَاءُ فِي الْبَسْمَلَةِ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوْ الِاسْتِعَانَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وَتَقْدِيرُهُ فِعْلًا أَوْلَى، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَمَلِ لِلْأَفْعَالِ وَخَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ أَمَسُّ بِالْمَقَامِ، وَمُؤَخَّرًا لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ؛ وَلِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِلْوُجُودِ وَأَدْخَلُ فِي التَّعْظِيمِ وَلَا يَرِدُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] لِكَوْنِهِ مَقَامَ أَمْرٍ بِجَعْلِ الْفِعْلِ مَقْرُونًا بِاسْمِ اللَّهِ، فَتَقْدِيمُهُ أَيْ الْفِعْلُ لِكَوْنِهَا أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ، عَلَى أَنَّ فِي الْكَشَّافِ أَنَّ مَعْنَاهُ: اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِسْمِ - رَبِّكَ أَيْ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ اقْرَأْ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: مُفْتَتِحًا بِسْمِ اللَّهِ اقْرَأْ وَكَفَى بِهِ شَاهِدًا عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مَأْمُورٌ بِهَا فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ قِرَاءَةٍ إذْ هُوَ أَمْرٌ بِإِيجَادِ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا بِدُونِ تَعَلُّقِهِ بِمَقْرُوءٍ دُونَ مَقْرُوءٍ، فَتَكُونُ مَأْمُورًا بِهَا فِي ابْتِدَاءٍ غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا وَكُسِرَتْ الْبَاءُ وَإِنْ كَانَ حَقُّ
الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ الْفَتْحَ - لِلُزُومِهَا الْحَرْفِيَّةَ وَالْجَرَّ، وَلِتَشَابُهِ حَرَكَتِهَا عَمَلَهَا وَحُذِفَتْ الْأَلْفُ مِنْ اسْمِ اللَّهِ دُونَ اسْمِ رَبِّكَ وَنَحْوِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَعُوِّضَ عَنْهَا تَطْوِيلُ الْبَاءِ.
وَاَللَّهُ أَصْلُهُ إلَهٌ حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ وَعُوِّضَ عَنْهَا اللَّامُ، وَإِلَهٌ اسْمٌ لِكُلِّ مَعْبُودٍ بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ ثُمَّ غَلَبَ عَلَى مَفْهُومِ كُلِّيٍّ هُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ وَاَللَّهُ عَلَمٌ خَاصٌّ لِذَاتٍ مُعَيَّنٍ هُوَ الْمَعْبُودُ بِالْحَقِّ إذْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] وَمِنْ ثَمَّ كَانَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تَوْحِيدًا، أَيْ لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدَ الْحَقَّ، فَهُوَ مِنْ الْأَعْلَامِ الْخَاصَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ وَمِنْ الْأَعْلَامِ الْغَالِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ أَصْلَهُ إلَهٌ.
قَالَهُ الدُّلَجِيُّ فِي شَرْحِ الشِّفَاءِ وَالرَّحْمَنُ خَاصٌّ لَفْظًا إذْ لَمْ يُسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ تَعَالَى وَمَا شَذَّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، عَامٌّ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ بِمَعْنَى كَثِيرِ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الْبَالِغِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْإِنْعَامِ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُوَ لِوُقُوعِهِ صِفَةً لَا مَوْصُوفًا وَكَوْنُهُ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى دُونَ الذَّاتِ مِنْ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ الرَّحِيمُ عَامٌّ لَفْظًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ تَعَالَى، وَهُمَا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ رَحِمَ بِجَعْلِهِ لَازِمًا بِنَقْلِهِ إلَى بَابِ فَعُلَ بِضَمِّ ثَانِيهِ، إذْ لَا تُشْتَقُّ مِنْ مُتَعَدٍّ وَالرَّحْمَةُ عَطْفٌ، أَيْ تَعَطُّفٌ وَشَفَقَةٌ وَمَيْلٌ رُوحَانِيٌّ لَا جُسْمَانِيٌّ.
وَمِنْ ثَمَّ جُعِلَ الْإِنْعَامُ مُسَبَّبًا عَنْ الْعَطْفِ وَالرِّقَّةِ لَا عَنْ الِانْحِنَاءِ الْجُسْمَانِيِّ، وَكِلَاهُمَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَهُوَ مَجَازٌ إمَّا عَنْ نَفْسِ الْإِنْعَامِ فَيَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ أَوْ عَنْ إرَادَتِهِ فَيَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ وَإِمَّا تَمْثِيلٌ لِلْغَائِبِ، أَيْ تَمَكُّنُهُ تَعَالَى مِنْ الْإِنْعَامِ بِالشَّاهِدِ، أَيْ تَمَكُّنُ الْمَلِكِ مِنْ مُلْكِهِ فَتُفْرَضُ حَالُهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ بِحَالِ مَلِكٍ عَطَفَ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَرَقَّ لَهُمْ فَعَمَّهُمْ مَعْرُوفُهُ فَأُطْلِقَا عَلَيْهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ وَقَدَّمَ الرَّحْمَنُ؛ لِأَنَّهُ عَلَمٌ أَوْ كَالْعَلَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ أَوْ لِأَنَّ الرَّحِيمَ ذُكِرَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِلرَّحْمَنِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ كَوْنُ دَقَائِقِ الرَّحْمَةِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ ثَابِتٌ لَهُ تَعَالَى وَالْحَمْدُ عُرْفًا فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الْحَامِدِ أَوْ غَيْرِهِ بَدَأَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ أَقْطَعُ» . وَفِي رِوَايَةٍ «بِحَمْدِ اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «بِالْحَمْدِ» وَفِي
رِوَايَةٍ «كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ» .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: رَوَيْنَا كُلَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ لِلْحَافِظِ عَبْدِ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيِّ وَرَوَيْنَاهُ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه. وَالْمَشْهُورُ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثُهُ هَذَا حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِمَا وَالنَّسَائِيُّ فِي عَمَلُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَأَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ الْمُخْرَجِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَرُوِيَ مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا وَرِوَايَةُ الْمَوْصُولِ إسْنَادُهَا جَيِّدٌ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ»
مَعْنَاهُ لَهُ حَالٌ يُهْتَمُّ بِهِ وَمَعْنَى أَقْطَعُ أَيْ نَاقِصٌ قَلِيلُ الْبَرَكَةِ وَأَجْذَمُ وَهُوَ بِجِيمٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ، يُقَالُ جَذِمَ يَجْذَمُ كَعَلِمَ يَعْلَمُ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: تُسْتَحَبُّ الْبُدَاءَةُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ لِكُلِّ مُصَنِّفٍ وَدَارِسٍ وَمُدَرِّسٍ وَخَطِيبٍ وَخَاطِبٍ وَمُزَوِّجٍ وَمُتَزَوِّجٍ، وَبَيْنَ يَدَيْ سَائِرِ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ انْتَهَى.
وَفِي لَفْظٍ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعُ أَبْتَرُ مَمْحُوقٌ مِنْ كُلِّ بَرَكَةٍ» رَوَاهُ الرَّهَاوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدَّمَ الْبَسْمَلَةَ عَلَى الْحَمْدَلَةِ عَمَلًا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالْإِجْمَاعِ، فَوَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِهَا حَقِيقَةً وَبِالْحَمْدَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَهَا.
إذْ الِابْتِدَاءُ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ يُعْتَبَرُ مُمْتَدًّا مِنْ الْأَخْذِ فِي التَّأْلِيفِ إلَى الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ خَبَرَيْهِمَا وَأَصْلُ الْحَمْدِ النَّصْبُ لِأَنَّهُ مِنْ مَصَادِر شَاعَ اسْتِعْمَالُهَا مَنْصُوبَةً بِإِضْمَارِ أَفْعَالِهَا وَعُدِلَ إلَى رَفْعِهِ كَمَا فِي سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، وَأَلْ فِي الْحَمْدُ لِلْجِنْسِ أَوْ الِاسْتِغْرَاقِ أَوْ الْعَهْدِ، وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ لِلْمِلْكِ أَوْ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ التَّعْلِيلِ، أَيْ جَمِيعُ الْمَحَامِدِ مَمْلُوكَةٌ أَوْ مُسْتَحَقَّةٌ أَوْ ثَابِتَةٌ لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
(الَّذِي فَقَّهَ) أَيْ فَهَّمَ (مَنْ أَرَادَ) أَيْ اللَّهُ تَعَالَى (بِهِ خَيْرًا) هُوَ ضِدُّ الشَّرِّ (فِي الدِّينِ) مُتَعَلِّقٌ بِفَقَّهَ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمَا مَرْفُوعًا «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» أَيْ يُفَهِّمْهُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، إمَّا بِتَصَوُّرِهَا وَالْحُكْمِ عَلَيْهَا وَإِمَّا بِاسْتِنْبَاطِهَا مِنْ أَدِلَّتِهَا كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا وُهِبَ لَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْمِلَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعَادَةِ وَالسِّيرَةِ وَالْحِسَابِ وَالْقَهْرِ وَالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ وَالطَّاعَةِ وَالْحَالِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْجَزَاءِ وَالرَّأْيِ وَالسِّيَاسَةِ، وَدَانَ عَصَى وَأَطَاعَ وَذَلَّ وَعَزَّ فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ.
(وَشَرَعَ) أَيْ بَيَّنَ (أَحْكَامٌ) جَمْعُ: حُكْمٍ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْقَضَاءُ
وَالْحِكْمَةُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: خِطَابُ اللَّهِ الْمُفِيدُ فَائِدَةً شَرْعِيَّةً (الْحَلَالِ) وَهُوَ لُغَةً وَشَرْعًا ضِدُّ الْحَرَامِ فَيَعُمُّ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمَكْرُوهَ وَالْمُبَاحَ (وَالْحَرَامِ) وَهُوَ لُغَةً الْمَنْعُ، وَشَرْعًا مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ امْتِثَالًا وَيُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ.
وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ: فَرْعِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَطَأِ فِي اعْتِقَادِ مُقْتَضَاهُ، وَلَا فِي الْعَمَلِ بِهِ قَدْحٌ فِي الدِّينِ وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ كَالنِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَأَصْلِيٌّ هُوَ بِخِلَافِهِ (فِي كِتَابِهِ) أَيْ كَلَامِهِ الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُعْجِزِ بِنَفْسِهِ الْمُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُمَّ سَائِرَ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ كَالتَّوْرَاةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةُ (الْمُبِينِ) أَيْ الْمُشْتَمِلِ عَلَى بَيَانِ مَا لِلنَّاسِ حَاجَةٌ إلَيْهِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَالْإِبَانَةُ وَإِنْ كَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ جَعَلَهَا بِهِ وَمَا ثَبَتَ مِنْ الْأَحْكَامِ بِالسُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقِيَاسِ أَوْ الِاسْتِصْحَابِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ حُجَّتَهُ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِهِ، كَمَا بُيِّنَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ أَصَالَةً.
قَالَ تَعَالَى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا بِوَاسِطَةِ سُنَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .
(وَأَعَزَّ الْعِلْمَ) أَيْ شَرَّفَهُ وَالْعِزُّ ضِدُّ الذُّلِّ تَقُولُ مِنْهُ عَزَّ يَعِزُّ عِزًّا بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِيهِمَا وَعَزَازَةً أَيْ قَوِيَ بَعْد ذِلَّةٍ وَأَعَزَّهُ اللَّهُ.
وَفِي الْمَثَلِ: " إذَا عَزَّ أَخُوكَ فَهُنْ ".
وَفِي الْمَثَل أَيْضًا: " مَنْ عَزَّ بَزَّ " أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ، وَالِاسْمُ الْعِزَّةُ وَهِيَ الْغَلَبَةُ وَالْقُوَّةُ (وَرَفَعَ) الرَّفْعُ ضِدُّ الْوَضْعِ وَبَابُهُ قَطَعَ وَرَفَعَ فُلَانٌ عَلَى الْعَامِلِ رَفِيعَةً وَهُوَ مَا يَرْفَعُهُ مِنْ قِصَّتِهِ وَيُبَلِّغُهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُّ رَافِعَةٍ رُفِعَتْ إلَيْنَا مِنْ الْبَلَاغِ» أَيْ كُلُّ جَمَاعَةٍ مُبَلِّغَةٍ تُبَلِّغُ عَنَّا «فَلْتُبَلِّغْ أَنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ» وَالرَّفْعُ تَقْرِيبُكَ الشَّيْءَ وقَوْله تَعَالَى {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] قَالُوا: مُقَرَّبَةٌ لَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ رَفَعْتُهُ إلَى السُّلْطَانِ وَمَصْدَرُهُ الرُّفْعَانُ بِالضَّمِّ (أَهْلَهُ) أَيْ حَمَلَتَهُ (الْعَامِلِينَ بِهِ) أَيْ بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ كَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، فَ " الـ " فِي الْعِلْمِ لِلْعَهْدِ الشَّرْعِيِّ أَوْ لِلْجِنْسِ وَالْمُرَادُ غَيْرُ الْحَرَامِ، عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْجِهَادِ.
(الْمُتَّقِينَ) أَيْ الَّذِينَ وَقَوْا أَنْفُسَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَالتَّقْوَى مَرَاتِبُ: تَوَقِّي الْعَذَابِ الْمُخَلِّدَ بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ الشِّرْكِ.
قَالَ تَعَالَى {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] وَتَوَقِّي مَا يُؤَثِّمُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ حَتَّى الصَّغَائِرِ عِنْدَ قَوْمٍ
وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ بِالتَّقْوَى فِي الشَّرْعِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف: 96] وَتَوَقِّي مَا يَشْغَلُ السِّرَّ عَنْ الْحَقِّ وَالتَّبَتُّلِ إلَيْهِ بِشَرَاشِرِهِ وَهُوَ التَّقْوَى الْحَقِيقِيُّ الْمَطْلُوبُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] وَإِعْزَازُ الْعِلْمِ وَرَفْعُ أَمْرِهِ غَيْرُ خَفِيٍّ.
قَالَ تَعَالَى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وَقَالَ {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ.
وَقَالَ «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي خَيْرٍ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَقَالَ «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ عَلَى الْأَصَحِّ.
(أَحْمَدُهُ) أَيْ أَصِفُ اللَّهَ تَعَالَى بِجَمِيلِ صِفَاتِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ الْمُثْبَتَ يُشْعِرُ بِالِاسْتِمْرَارِ التَّجَدُّدِيِّ، وَفِيهِ مُوَافَقَةٌ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالْمَحْمُودِ عَلَيْهِ،؛ لِأَنَّ آلَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَزَالُ تَتَجَدَّدُ فِي حَقِّنَا دَائِمًا كَذَلِكَ نَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَا تَزَالُ تَتَجَدَّدُ، أَوَّلًا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَثَانِيًا بِالْفِعْلِيَّةِ اقْتِدَاءً بِهِ صلى الله عليه وسلم.
فَفِي خَبَرِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ» (حَمْدًا يَفُوقُ حَمْدَ الْحَامِدِينَ) مَصْدَرٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ الْحَمْدِ لِوَصْفِهِ بِالْجُمْلَةِ بَعْدَهُ وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ الْحَمْدِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى كَقَوْلِ مَنْ قَالَ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ إذْ الْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، وَعَدَدَ الرِّمَالِ وَالتُّرَابِ وَالْحَصَى وَالْقَطْرِ وَعَدَدَ أَنْفَاسِ الْخَلَائِقِ وَعَدَدَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَمَا هُوَ خَالِقٌ فَهَذَا إخْبَارٌ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْحَمْدِ لَا عَمَّا يَقَعُ مِنْ الْعَبْدِ مِنْ الْحَمْدِ، أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي عُدَّةِ الصَّابِرِينَ.
(وَأَشْكُرُهُ) أَيْ
اللَّهَ تَعَالَى (عَلَى نِعَمِهِ) جَمْعُ نِعْمَةٍ وَالْإِنْعَامُ الْإِعْطَاءُ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ.
قَالَ فِي الْقَامُوسِ: أَنْعَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْعَمَ بِهَا: عَطِيَّتُهُ وَالشُّكْرُ لُغَةً الْحَمْدُ عُرْفًا وَاصْطِلَاحًا صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ لِمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ.
قَالَ تَعَالَى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] فَبَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ اللُّغَوِيَّيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَلَّقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ وَأَخُصُّ مِنْ جِهَةِ الْمَوْرِدِ وَهُوَ اللِّسَانُ وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ الْمَوْرِدِ وَأَخُصُّ مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَلَّقِ وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ بَاقِي الْأَقْسَامِ تَظْهَرُ لِلْمُتَأَمِّلِ (الَّتِي لَا تُحْصَى) .
قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] . وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عليه السلام سُبْحَانَكَ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ (وَإِيَّاهُ أَسْتَعِينُ) أَيْ أَطْلُبُ الْمَعُونَةَ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ الْقَدِيرُ وَغَيْرَهُ الْعَاجِزُ (وَأَسْتَغْفِرُهُ) أَيْ أَطْلُبُ مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ أَيْ السَّتْرَ عَمَّا فَرَطَ (وَأَتُوبُ) أَيْ أَرْجِعُ (إلَيْهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) الرَّجَّاعِينَ إلَيْهِ مِمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ مِنْ الذُّنُوبِ.
(وَأَشْهَدُ) أَيْ أَعْلَمُ (أَنْ لَا إلَهَ) أَيْ مَعْبُودَ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ (إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) أَيْ مُنْفَرِدًا فِي ذَاتِهِ (لَا شَرِيكَ لَهُ) فِي ذَاتِهِ وَلَا صِفَاتِهِ وَلَا أَفْعَالِهِ (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19](وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ) الْخَاضِعِينَ الْمُنْقَادِينَ لِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَابِلِينَ لِأَمْرِهِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فِي بَابِ الرِّدَّةِ (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا) سُمِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ خِصَالِهِ الْمَحْمُودَةِ وَهُوَ عَلَمٌ مَنْقُولٌ مِنْ التَّحْمِيدِ مُشْتَقٌّ كَأَحْمَدَ مِنْ اسْمِهِ تَعَالَى الْحَمِيدِ، وَأَسْمَاؤُهُ عليه السلام كَثِيرَةٌ أَفْرَدَ لَهَا الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرٍ كِتَابًا فِي تَارِيخِهِ بَعْضُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَعْضُهَا فِي غَيْرِهِمَا مِنْهَا أَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ وَالْحَاشِرُ وَالْعَاقِبُ وَالْمُقَفِّي وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَالْفَاتِحُ.
وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ لِلَّهِ عز وجل أَلْفُ اسْمٍ، وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَلْفُ اسْمٍ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَمَّا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا الْعَدَدُ حَقِيرٌ فِيهَا وَأَمَّا أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُحْصِهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ الْوُرُودِ الظَّاهِرِ بِصِيغَةِ الْأَسْمَاءِ الْبَيِّنَةِ، فَوَعَيْتُ مِنْهَا أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ اسْمًا ثُمَّ ذَكَرَهَا مُفَصَّلَةً مَشْرُوحَةً فَاسْتَوْعَبَ وَأَجَادَ (عَبْدُهُ) .
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ لَيْسَ شَيْءٌ أَشْرَفَ وَلَا اسْمٌ أَتَمَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْوَصْفِ بِالْعُبُودِيَّةِ قَالَ فِي الْمَطْلَعِ: وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِالْعُبُودِيَّةِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ حِينَ دَعَا الْخَلْقَ
إلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ.
قَالَ تَعَالَى {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] وَحِينَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا - الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 23 - 1] .
وَحِينَ أَسْرَى بِهِ إلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] قَالَ بَعْضُهُمْ
لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا
…
فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
وَلَهُ أَحَدَ عَشَرَ جَمْعًا أَشَارَ إلَيْهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ
عِبَادٌ عَبِيدٌ جَمْعُ عُبُدٍ وَأَعْبُدٌ
…
أَعَابِدُ مَعْبُودًا مَعْبَدَةٌ عُبُدُ
كَذَلِكَ عُبْدَانُ وَعِبْدَانُ أُثْبِتَا
…
كَذَاك الْعُبْدَى وَامْدُدْ إنْ شِئْتَ أَنْ تَمُدَّ.
(وَرَسُولُهُ) إلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَالرَّسُولُ إنْسَانٌ أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ أَخَصُّ مِنْ النَّبِيِّ (الَّذِي مَهَّدَ) يُقَالُ: مَهَّدَ الْفِرَاشَ: بَسَطَهُ وَوَطَّأَهُ، وَبَابُهُ قَطَعَ وَتَمْهِيدُ الْأُمُورِ تَسْوِيَتُهَا وَإِصْلَاحُهَا (قَوَاعِدَ الشَّرْعِ) جَمْعُ قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَمْرٌ كُلِّيٌّ مُنْطَبِقٌ عَلَى جُزْئِيَّاتٍ مَوْضُوعَةٍ وَالشَّرْعُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ (وَبَيَّنَهَا أَحْسَنَ تَبْيِينٍ) أَيْ أَوْضَحَهُ وَأَكْمَلَهُ، لِأَنَّهُ الْمَخْصُوصُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ (صلى الله عليه وسلم) .
الصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الرَّحْمَةُ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ التَّضَرُّعُ وَالدُّعَاءُ وَاخْتَارَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ أَنَّ صَلَاةَ اللَّهِ عَلَيْهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ وَإِرَادَةُ إكْرَامِهِ بِرَفْعِ ذِكْرِهِ وَمَنْزِلَتِهِ وَتَقْرِيبِهِ، وَإِنَّ صَلَاتَنَا نَحْنُ عَلَيْهِ سُؤَالُنَا لِلَّهِ تَعَالَى، أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ، وَرُدَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ صَلَاتُهُ عَلَيْهِ رَحْمَتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ مِنْ خَمْسَةَ عَشْرَ وَجْهًا.
وَقَالَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا ذُكِرَ اسْمُهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ بَطَّةَ مِنَّا، وَالْحَلِيمِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَاللَّخْمِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ.
(وَعَلَى آلِهِ) أَيْ أَتْبَاعِهِ عَلَى دِينِهِ وَقِيلَ مُؤْمِنُو بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَقِيلَ: أَهْلُهُ وَالصَّوَابُ جَوَازُ إضَافَتِهِ لِلضَّمِيرِ خِلَافًا لِلْكِسَائِيِّ وَالنَّحَّاسِ وَالزُّبَيْدِيِّ فَمَنَعُوهَا لِتَوَغُّلِهِ فِي الْإِبْهَامِ (وَصَحْبِهِ) نَقَلَ الْخَطِيبُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلُّ مَنْ صَحِبَهُ
سَنَةً أَوْ شَهْرًا أَوْ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً أَوْ رَآهُ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، نَقَلَهُ عَنْهُمْ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا رَدًّا عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ يُوَالُونَ الْآلُ دُونَ الصَّحْبِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ يُوَالُونَهُمَا وَقَدَّمَ الْآلُ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ فِي حَدِيثِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ (أَجْمَعِينَ) تَأْكِيدٌ لِلْآلِ وَالصَّحْبِ لِإِفَادَةِ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ (وَتَابِعِيهِمْ) أَيْ تَابِعِي الصَّحْبِ، يُقَالُ: تَبَعَهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَسَلَّمَ إذَا مَشَى خَلْفَهُ وَأَمَرَ بِهِ فَمَضَى مَعَهُ (بِإِحْسَانٍ) فِي الِاعْتِقَادِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ (إلَى يَوْمِ الدِّينِ) أَيْ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ (وَسَلَّمَ) مِنْ السَّلَامِ، وَهُوَ التَّحِيَّةُ أَوْ السَّلَامَةِ مِنْ النَّقَائِصِ وَالرَّذَائِلِ (تَسْلِيمًا) مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ.
(أَمَّا بَعْدُ) يُؤْتَى بِهَا لِلِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إلَى آخَرَ اسْتِحْبَابًا فِي الْخُطَبِ وَالْمُكَاتَبَاتِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُهَا فِي خُطَبِهِ وَشِبْهِهَا نَقَلَهُ عَنْهُ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ صَحَابِيًّا ذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ.
وَذَكَرَ ابْنُ قُنْدُسٍ فِي حَوَاشِي الْمُحَرَّر أَنَّ الْحَافِظَ عَبْدَ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيَّ رَوَاهُ فِي الْأَرْبَعِينَ الَّتِي لَهُ عَنْ أَرْبَعِينَ صَحَابِيًّا وَقِيلَ إنَّهَا فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيهِ دَاوُد وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ نَطَقَ بِهَا فَقِيلَ: دَاوُد عليه السلام وَقِيلَ: يَعْقُوبُ عليه السلام وَقِيلَ: يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ وَقِيلَ: كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ وَقِيلَ: قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ وَقِيلَ: سَحْبَانُ بْنُ وَائِلٍ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَالْبَقِيَّةُ غَيْرُ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً ثُمَّ يُجْمَعُ بَيْنَهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَائِلِ وَالثَّانِي ضَعِيفٌ جِدًّا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْجَمْعِ وَالْمَعْرُوفُ بِنَاءُ بَعْدُ عَلَى الضَّمِّ وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ تَنْوِينَهَا مَرْفُوعَةً وَمَنْصُوبَةً وَالْفَتْحُ بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَهِيَ ظَرْفُ زَمَانٍ وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ ظَرْفَ مَكَان وَأَمَّا حَرْفُ تَفْصِيلٍ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ (فَهَذَا) إشَارَةٌ إلَى مَا اسْتَحْضَرَهُ فِي ذِهْنِهِ وَأَقَامَهُ مَقَامَ الْمَلْفُوظِ الْمَقْرُوءِ الْمَوْجُودِ بِالْعِيَانِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْخُطْبَةُ قَبْلَ التَّأْلِيفِ أَوْ بَعْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْكِتَابِ الْأَلْفَاظُ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتِهَا عَلَى الْمَعَانِي (كِتَابٌ) أَيْ مَكْتُوبٌ جَامِعٌ.
(فِي الْفِقْهِ) وَهُوَ لُغَةً الْفَهْمُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَعُرْفًا مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ بِالْفِعْلِ أَوْ الْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ أَوْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ نَفْسِهَا، وَالْفَقِيهُ: مَنْ عَرَفَ جُمْلَةً غَالِبَةً كَذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ وَمَوْضُوعُهُ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ
الشَّرْعِيَّةِ بِهَا وَمَسَائِلُهُ: مَا يُذْكَرُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ.
(عَلَى مَذْهَبِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ مَفْعَلٌ مِنْ ذَهَبَ يَذْهَبُ إذَا مَضَى بِمَعْنَى الذَّهَابِ أَوْ مَكَانِهِ أَوْ زَمَانِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إلَى مَا قَالَهُ الْمُجْتَهِدُ بِدَلِيلٍ وَمَاتَ قَائِلًا بِهِ وَكَذَا مَا أُجْرِيَ مَجْرَاهُ (إمَامِ الْأُمَّةِ) أَيْ قُدْوَتِهِمْ (وَمُجْلِي) أَيْ كَاشِفِ وَمُذْهِبِ (دُجَى) جَمْعُ دُجْيَةٍ وَهِيَ الظُّلْمَةُ (الْمُشْكِلَاتِ) جَمْعُ مُشْكِلَةٍ مِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ إذَا الْتَبَسَ كَشَكُلَ وَشَكَّلَ، وَشَكَّلَ الْكِتَابَ أَيْ أَزَالَ إشْكَالَهُ (الْمُدْلَهِمَّةِ) أَيْ الشَّدِيدَةِ الِالْتِبَاسِ، مِنْ ادْلَهَمَّ الظَّلَامُ أَيْ كَثُفَ وَاسْوَدَّ، وَلَيْلَةٌ مُدْلَهِمَّةٌ أَيْ مُظْلِمَةٌ (الزَّاهِدِ) مِنْ الزُّهْدِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ بِالْقَلْبِ عَنْ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الزُّهْدُ قِصَرُ الْأَمَلِ وَالْإِيَاسُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَقَسَّمَهُ إلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ذَكَرْتُهَا فِي الْحَاشِيَةِ (الرَّبَّانِيِّ) أَيْ الْمُتَأَلِّهِ الْعَارِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] (وَالصِّدِّيقِ) الْبَالِغِ فِي الصِّدْقِ وَهُوَ ضِدُّ الْكَذِبِ (الثَّانِي) لُقِّبَ بِهِ، لِنُصْرَتِهِ لِلسُّنَّةِ وَصَبْرِهِ عَلَى الْمِحْنَةِ، كَصَبْرِ الصِّدِّيقِ الْأَوَّلِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ أَيَّدَ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِرَجُلَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَوْمَ الرِّدَّةِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَوْمَ الْمِحْنَةِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: لَوْلَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَبَذْلُهُ نَفْسَهُ لِمَا بَذَلَهَا لَهُ لَذَهَبَ الْإِسْلَامُ. وَعَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ حِينَ ضُرِبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَبَا نَصْرٍ لَوْ أَنَّكَ خَرَجْتَ فَقُلْتَ إنِّي عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَقَالَ بِشْرٌ أَتُرِيدُونَ أَنْ أَقُومَ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ؟ إنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قَامَ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ نَقَلَهُ فِي الْمَطْلَعِ (أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ) بْنِ هِلَالِ بْنِ أَسَدِ بْنِ إدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَيَّانَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ عَوْفِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ مَازِنِ بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَبَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، ابْنِ أَفَصَى بِالْفَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، ابْنِ دَعْمِي بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ (الشَّيْبَانِيِّ) الْمَرْوَزِيِّ الْبَغْدَادِيِّ فَكَذَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ طَاهِرٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَشَيْبَانُ حَيٌّ مِنْ بَكْرٍ وَهُمَا شَيْبَانَانِ أَحَدُهُمَا شَيْبَانُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَالْآخَرُ: شَيْبَانُ بْنُ ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ انْتَهَى حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ بِمَرْوَ. وَوُلِدَ بِبَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَالشَّامَ وَالْيَمَنَ وَالْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ وَالْجَزِيرَةَ. وَتُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ ثَانِي عَشْرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَالْمَشْهُورُ الْآخَرُ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلَهُ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً وَأَسْلَمَ يَوْمَ مَوْتِهِ عِشْرُونَ أَلْفًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ وَمَنَاقِبُهُ شَهِيرَةٌ مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ الْمُسْنَدُ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَالتَّفْسِيرُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفًا، وَالنَّاسِخُ الْمَنْسُوخُ وَالتَّارِيخُ، وَالْمُقَدَّمُ وَالْمُؤَخَّر فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَجَوَابَاتُ الْقُرْآنِ، وَالْمَنَاسِكُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى إنَّمَا اخْتَرْنَا مَذْهَبَ أَحْمَدَ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ وَأَقْدَمُ هِجْرَةً مِثْلُ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ لِمُوَافَقَتِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْقِيَاسَ الْجَلِيَّ فَإِنَّهُ كَانَ إمَامًا فِي الْقُرْآنِ، وَلَهُ فِيهِ التَّفْسِيرَ الْعَظِيمَ وَكَتَبَ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ مَا أَطَّلَعَ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ عز وجل (رضي الله عنه) أَيْ أَثَابَهُ (وَأَرْضَاهُ) أَيْ أَحَلَّ بِهِ رِضْوَانَهُ الَّذِي لَا سُخْطَ بَعْدَهُ (وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ: هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ، وَأَصْلُهُ الْبُسْتَانُ الَّذِي يَجْمَعُ النَّخْلَ وَالْكَرْمَ، وَإِضَافَةُ الْجَنَّةِ إلَيْهِ كَشَجَرِ أَرَاكٍ (مَأْوَاهُ) أَيْ مَكَانُ إقَامَتِهِ.
(اجْتَهَدْتُ) أَيْ بَذَلْتُ وُسْعِي (فِي تَحْرِيرِ نُقُولِهِ) أَيْ تَهْذِيبِ مَسَائِلِهِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ الْإِمَامِ أَوْ الْأَصْحَابِ (وَاخْتِصَارِهَا) أَيْ النُّقُولِ.
وَفِي نُسْخَةٍ بِخَطِّهِ: وَاخْتِصَارِهِ: أَيْ الْكِتَابِ وَالِاخْتِصَارُ: تَجْرِيدُ اللَّفْظِ الْيَسِيرِ مِنْ اللَّفْظِ الْكَثِيرِ مَعَ بَقَاءِ الْمَعْنَى، وَالْإِيجَازُ تَجْرِيدُ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ رِعَايَةِ اللَّفْظِ (لِعَدَمِ) أَيْ لِأَجْلِ عَدَمِ (تَطْوِيلِهِ) لِقُصُورِ الْهِمَمِ وَكَثْرَةِ الْمَوَانِعِ (مُجَرِّدًا) هَذَا الْكِتَابَ (غَالِبًا عَنْ دَلِيلِهِ) وَهُوَ لُغَةُ الْمُرْشِدِ حَقِيقَةً، وَمَا بِهِ الْإِرْشَادُ مَجَازًا وَعُرْفًا: مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ (وَ) مُجَرَّدًا غَالِبًا عَنْ (تَعْلِيلِهِ) أَيْ ذِكْرِ عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَالْعِلَّةُ لُغَةً عَرْضٌ يُوجِبُ خُرُوجَ الْبَدَنِ الْحَيَوَانِيِّ عَنْ الِاعْتِدَالِ الطَّبِيعِيِّ، وَشَرْعًا: مَا أَوْجَبَ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَا مَحَالَةَ أَوْ حِكْمَةُ الْحُكْمِ أَوْ مُقْتَضِيهِ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ الدَّلِيلِ، إذْ كُلُّ تَعْلِيلٍ دَلِيلٌ وَلَا عَكْسَ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا (عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ) مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْخِلَافِ طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ وَكَذَلِكَ صَنَعْتُ فِي شَرْحِهِ وَالْقَوْلُ يَعُمُّ مَا كَانَ رِوَايَةً عَنْ الْإِمَامِ أَوْ وَجْهًا لِلْأَصْحَابِ.
(وَهُوَ) أَيْ الْقَوْلُ الْوَاحِدُ الَّذِي يَذْكُرُهُ وَيُحْذَفُ غَيْرُهُ هُوَ (مَا رَجَّحَهُ أَهْلُ التَّرْجِيحِ) مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ (مِنْهُمْ الْعَلَّامَةُ) الْجَامِعُ بَيْنَ عِلْمَيْ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ (الْقَاضِي) الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْأُصُولِيُّ الْمُحَدِّثُ النَّحْوِيُّ الْفَرْضِيُّ الْمُقْرِئُ (عَلَاءُ الدِّينِ) عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ السَّعْدِيُّ الْمِرْدَاوِيُّ ثُمَّ الصَّالِحِيُّ الْمُجْتَهِدُ فِي التَّصْحِيحِ، أَيْ تَصْحِيحِ الْمَذْهَبِ (فِي كُتُبِهِ