الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الثاني
المغَالَطاتُ الجَدَليّة
يقصد بالمغالطة اصطناع مقدمات مزيفة مزخرفة توهم بصحتها، فتسوق فِكرَ من يُراد إقناعه بالباطل من حيث لا يشعر، حتى تُوقعه في الغلط، وهو يحسب أنه على صواب، فيقبل الباطل الذي يساق إلى الاقتناع به، ويظنه حقاً، فيعتقد صوابه، ويؤمن به، ثمّ يدافع عنه ويبشر به.
وللمغالطات الجدلية أصول كثيرة أهمها الأصول التالية:
الأصل الأول
تعميم أمرٍ خاص: والمغالطة بالتعميم الباطل تنسب إلى بعض أفراد العام ما ليس له من أحكام بغية التضليل.
ويستطيع المضللون التأثير على جماهير الناس بهذه المغالطة، لأن من طبيعة هذه الجماهير أن تصدّر أحكاماً تعميمية، وأن تقبل أحكاماً تعميمية، متى شاهدت أمثلة مطبقة على بعض أفراد العام، وذلك في نظراتهم السريعة السطحية غير العلمية، وهي النظرات التي ليس فيها أناة، ولا عمق، ولا بصيرة، ولا تتبُّعٌ واستقصاء، ولا منهجية برهانية.
فإذا رأوا عدداً من اللصوص ينتمون إلى قبيلة، حكموا على أفراد القبيلة بأنهم لصوص، كما لو رأوا حيواناً يفترس الأنعام، إذ يحكمون على كل أفراد نوع هذا الحيوان بأنها تفترس بطبيعتها الأنعام، ويغفلون عن نقطة
مهمة وهي أنه لا يصح قياس الناس الذين يتحركون بإرادتهم على البهائم التي تتحرك بطباعها.
ويستغل المضللون هذه الطبيعة السطحية، عند الجماهير التي لا تملك منهجية علمية في نظراتها إلى الأمور، فيضللونهم بأحكام تعميمية باطلة.
ويكون التعميم الباطل بوجهين:
الوجه الأول: أن يكون للفظ العام تطبيقات جزئية مقبولة ومعقولة، وفيها حق وخير، وهي تقع ضمن دوائر وحدود خاصة.
والناس يطلقونه دون بيان حدوده الخاصة، فهو يتردد على الألسن دون قيود.
ويستغل المفسدون المضللون هذا اللفظ بإطلاقه، ويعطونه مداً تعميمياً، ليكون له في نفوس الجماهير صدى عام، يشمل مساحات لا يصح أن يشملها، فإذا طبق على هذه المساحات الواقعة وراء الحدود المعقولة المقبولة، كان تطبيقه باطلاً، ونجم عنه شر وفساد.
مثل ألفاظ: "الحرية - المساواة - التقدم - الواقعية - المثالية - الرجعية - الوطنية - القومية" إلى غير ذلك من ألفاظ مطلقة.
الوجه الثاني: أن تقدم الملاحظة أو التجربة العلمية أمثلة محدودة، جرت في أفراد العام، كنوع أو جنس، وهذه الأمثلة، لا يصح بناء قاعدة كلية عامة عليها في المنهج العملي السليم.
لكن المضلين يوهمون بأن هذه الأمثلة المحدودة، التي جرت في أفراد معدودة، كافية لإعلان قاعدة كلية عامة، أو قانون شامل لكل أفراد النوع أو الجنس.
ويقبل السطحيون ذلك، لأن نزعة التعميم وتصدير الأحكام الكلية الشاملة، أقرب إلى نفوسهم من البحث التفصيلي المتقصي، الذي لا
يسمح بإصدار أحكام تعميمية إلا بعد استقراء شامل أو ما هو قريب منه.
والمغالطة التعميمية، أخطر مغالطة فكرية تقتات بها وتعيش عليها المذاهب الفكرية المعاصرة، والاتجاهات المنحرفة في مختلف الميادين والمعارف التي اختلط فيها الحق بالباطل.
والتعميم في الحكم يكون في جانب الإيجاب، ويكون في جانب السلب، فالمعمم تعميما ًخائطاً قد يقبل المذهب كلَّه لأن بعضه حق، وقد يرفض المذهب كله لأن بعضه باطل.
ومن التعميم الفاسد في جانب الإيجاب، الحكم على كل مُعطيات الحضارة الغربية بالصحة ن قياساً على ما صح منها في معطيات العلوم البحتة ، وعلى ما ظهر منها في المنجزات التطبيقية المادية. مع أن هذا التعميم المستند إلى هذا القياس، تعميمٌ فاسد، لأن القياس الذي هو دليله قياس غير صحيح، ومبعث قبوله عند الجماهير جهلهم بأسس اكتساب المعرفة، وثقتهم العمياء القائمة على غير أساس منطقي سليم.
إنه ليس من الضروري أن يكون من يستطيع التغلب على المصارعين في المصارعة، ذا قدرة على التفوق على الشعراء في الشعر، أو الأدباء في الأدب، أو علماء الحساب والهندسة في علومهم.
كذلك ليس من الضروري، ولا من اللازم العادي، أن يكون المتفوق في العلوم الصناعية قد وصل إلى الحق في قضايا الأخلاق، أو في قضايا فلسفة الوجود، والبحثِ عما وراء الظواهر المادية، فضلاً عن قضايا الدين ذات المصادر الربانية.
ومن التعميم الفاسد في جانب السلب رفض كل دين، لأن بعض ما يطلق عليه اسم دين هو باطل.
وعلى هذا التعميم الفاسد اعتمد دعاة الإلحاد في محاربة الإسلام.
والمنهج الفكري الذي يجب اتباعه، هو أن الجزم بالتعميم لا يكون
إلا نتيجة استقراء تام لكل الوحدات الجزئية، التي تدخل في العموم، فإذا اتحد الحكم في كل الوحدات أمكن عندئذٍ إصدار حكم كلي عام عليها جميعاً.
وإلا، فإن كان الأغلب يحمل هذا الحكم أمكن إصدار حكمٍ أغلبي، لا حكم شامل.
وإن كان دون ذلك فالحكم يجب أن يكون بحسب الواقع.
والتعميم القياسي مقبول في قوانين الطبيعة، بالاستناد إلى الاستقراء الناقص، لكنه يعطي نظرية قابلة للتغيير، ولا يعطي حقيقة نهائية. ومقبول في أحكام الشرع الاجتهادية، لكنه يعطي ظناً راجحاً، ولا يعطي يقيناً، إلا في بعض الصور، وهي التي يكون فيها القياس من باب أولى.
* * *
الأصل الثاني
تخصيص أمرٍ عام: والمغالطة هنا تنفي عن بعض أفراد العام ما له من أحكام بغية التضليل.
ومن أمثلة ذلك الدعوات القائمة على مزاعم التفاضل العنصري القومي بين المجموعات البشرية، مع أن الناس جميعاً سلالة أصل واحد، وتبرز كل الصفات الإنسانية الرفيعة والمنحطة وما بينهما، في كل الأعراق، والأقوام، والألوان.
واستناداً إلى هذا التخصيص الفاسد، أطلق بنو إسرائيل مزاعمهم حول امتياز العرق الإسرائيلي، وتفضيله على سائر أولاد آدم، ثمّ ادعوا أنهم وحدهم البشر، وأما سائر الناس فهم من طينة أخرى مشابهة للطينة التي خلقت منها البهائم، وقد خلقهم الله لخدمة أبنائه وأحبائه الإسرائيليين، ولكنهم تمردوا على ما خلقوا له.
واستناداً إلى هذا التخصيص الفاسد، تبنى الجرمانيون الزعم الذي
صنف أعراق الناس وأقوامهم، في سُلّم أفضليات متعدد الدرجات، وجعل العرق الألماني أفضل الأعراق الإنسانية وأرفعها خصائص فطرية.
وانطلقت النزعات العرقية القومية بين الناس من هذا الأصل الفاسد.
* * *
الأصل الثالث
التدليس، وهو ضم زيادات وإضافات ليست في النص أو الموضوع أو المبحث الأصلي، مغالطة وتضليلاً.
ومن أمثلة هذا الأصل من أصول المغالطات، طائفةٌ من صنوف التبديل التي غير بها أهل الكتاب من اليهود والنصارى كتبهم المقدسة.
وقد لا تزيد الإضافة على كلمة صغيرة، كحرف من حروف الجر، أو النفي وقد لا تزيد الإضافة على حرف في كلمة، ولكن هذا الحرف يغير معنى الكلمة، وقد يقلبه إلى ضده.
إن المغالط الشيطان قد يحاول أن يقلب معنى قول الله تعالى في القرآن الكريم: " إن الدين عند الله الإسلام " بإضافة كلمة: "غير" قبل كلمة "الإسلام".
ويحاول اليهود بين حين وآخر، طبع نسخ من القرآن الكريم، فيها بعض هذا التغيير، لتوزيعها في شعوب مسلمة بعيدة عن عواصم العالم الإسلامي، ومدنه التي فيها علماء وحفاظ للقرآن الكريم، كعمق إفريقية مثلاً.
ولكن الله عز وجل يقيض لكتابه من يسارع إلى اكتشاف الزيادة، أو التغيير، فيهب علماء العالم الإسلامي لإتلاف هذه النسخ المزيدة تحريفاً.
ويظل كتاب الله القرآن محفوظاً بحفظ الله له، تحقيقاً لقوله عز وجل:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
وكثر التدليس فيما روي عن الرسول من أقوال، ولكن قيض الله لها علماء الحديث المحررين، فكشفوا المدلس منها، ونفوا عنها الزيوف.
* * *
الأصل الرابع
حذف ما يغير حذفه المعنى المراد، ومنه الاقتصار على ذكر بعض النص.
وقد يكتفي المغالط المحتال بحذف كلمة أو جملة، أو حرف من كلمة، إذا كان ذلك يفسد دلالة النص أو يغيرها، أو حذف شرط أو قيد في الموضوع.
وقد بلغني أن جماعة من اليهود طبعوا آلافاً من المصاحف وحاولوا توزيعها في إفريقية، وفيها حذف كلمة:(غير) من قول الله عز وجل، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .
ولكن اكتشف هذه اللعبة الخبيثة بعض المسلمين، فهب أهل الغيرة، وجمعوا نسخ هذه الطبعة، وأحرقوها.
أما الاقتصار على ذكر بعض النص الذي هو من الحذف في الحقيقة، لأنه قد يفسد المعنى ويغيره إلى النقيض، فمن الحيل التي يستخدمها المستشرقون والمبشرون والشيوعيون، لدى كتابتهم في المسائل الإسلامية، بغرض إيقاع القارئ في مفاهيم فاسدة عن الإسلام.
فيأخذون مقطعاً من النص، مع أنه مرتبط بسوابقه، أو بلواحقه، أو بهما معاً، ارتباط الشرط بالجزاء، أو ارتباط المطلق بقيوده، ونحو ذلك.
ومن الأمثلة المشهورة التي يستشهد بها الناس لمثل هذا الاقتصار والاقتطاع المفسد للمعنى، الاستشهاد بقول الله تعالى:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} دون ذكر القيد المتصل به في السورة، وهو قول الله تعالى:{الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} .
ومن الأمثلة ما فعله بعض المتهجمين على الإسلام، إذ اقتطعوا من كلام الرسول جملة:" ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا " وأخذوا يتهمونه بأنه يحجر على الأفكار ويقيدها ويحجز حريتها، مع أن صدر الحديث فيه قوله:" تفكروا في خلق الله " أو: "تفكروا في آلاء الله" ومن الحقائق أن التفكر في ذات الله مهلكة.
* * *
الأصل الخامس
التحريف أو التصحيف في النص، إذا كان ذلك يغير المعنى ويخدم غرض المغالط المحتال.
والتحريف يكون بتغيير الكلمة في النص، ووضع كلمة أخرى مكانها، يختلف رسمها عن رسم الكلمة الأصلية، ولكنها قد تشبهها.
والتصحيف يكون بالتلاعب بنقط الحروف المعجمة في الكلمة، أو بالتلاعب بحركات الحروف، أما رسم الكلمة فلا يتغير، مثل كلمة {مجترون} تصحف إلى (مخيرون) ومثل:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} تصحف إلى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) .
ويستخدم المغالطون حيلتي التحريف والتصحيف في النصوص، للتضليل، وإيقاع من يقصدون تضليله بالغلط في فهم النص الذي يثق به، ويؤمن بدلالاته.
ويحاول أعداء الإسلام المغالطة بتحريف النصوص الإسلامية وتصحيفها، لتضليل المسلمين، لا سيما الأجيال التي لا علم لها بهذه النصوص، وليس لديها الكتب الإسلامية التي هي مراجعها، ولا تدري مكان النص من المرجع لو وضع المرجع الإسلامي بين أيديها.
والتحريف والتصحيف في النصوص أكثر مكراً من الزيادة والحذف، لأنه يوهم ببراءة القصد، نظراً إلى التشابه أو التقارب بين الأصل والمحرف أو المصحف، ونظراً إلى أن كلاً منهما قد يقع به بعض النساخ للكتب
الإسلامية، وربما وقع به بعض العلماء الموثوق بهم على سبيل الغفلة أو الخطأ.
* * *
الأصل السادس
التلاعب في معاني النصوص، لإبطال حقٍ أو إحقاق باطل.
وهذا الأصل له ميادين فسيحة للمغالطين المضلين، نظراً إلى طبيعة اختلاف آراء الناس في فهم النصوص، ولو صدقوا في ابتغاء الحق، وفي إرادة الوصول إلى المراد حقيقة من النص، لا سيما النصوص ذات الاحتمالات المتعددة، والنصوص المطلقة، والمشتملة على صيغ العموم.
وللباطنيين مكر كبير في هذا المجال، إذ زعموا أن لكل نص ديني ظاهراً وباطناً: أما الظاهر فما يفهمه علماء الظاهر الذين يتقيدون بالدلالات اللغوية للألفاظ، ويزعم الباطنيون أن هذا الظاهر هو بمثابة القشور، وهو للعامة. وأما الباطن فهو ما يبينه أئمة الباطنيين، هنا يتلاعب الباطنيون في المعاني الباطنية، كما توحي لهم شياطينهم ضلالاً وفسقاً وشركاً وانسلاخاً من الدين كله، ويزعم الباطنيون أن هذا الباطن هو بمثابة اللب الذي توجد فيه الحقيقة، وهو للخاصة الواصلين إلى الحقيقة، القادرين على تفهمها وقبولها، ولو كانت تأليها للبشر، واستباحة لكل موبقة، ولكل ظلم وفجور، وقتل وسلب ونهب وكفور.
واليهود هم معلمو هذه الحيلة الشيطانية الباطنية، ومكروا عن طريقها بدين الله مكراً كباراً، ضللوا به فرقاً كثيرة، وبمكره ظهرت الفرق الباطنية منشقة عن الإسلام والمسلمين.
* * *
الأصل السابع
طرح فكرة مختلفة من أساسها بغية التضليل بها، ومن ذلك تعليل الظواهر الطبيعية الكونية ، والظواهر الاجتماعية، بتعليلات توهمية تخيلية،
أو تخمينية، وإلصاق هذه التعليلات المختلقة التي لا دليل عليها بمنجزات العلم التجريبية، ثمّ اعتبارها أساساً منطقياً علمياً لمذهب الإلحاد وجحود الخالق جل وعلا، أو لهدم الأخلاق والنظم الاجتماعية التي يرتبط بهما صلاح الناس وسعادتهم، وصحتهم الجسدية والنفسية، وطمأنينتهم، وأمنهم، واستقرارهم.
ومن أمثلة الأفكار والتعليلات التوهمية والمختلقة ما يلي:
1-
ادعاء أعداء الإسلام من الصليبيين أن رسول الله محمداً، قد تعلم القرآن من بحيرى الراهب، أو أن القرآن مقتبس من الإنجيل، أو من كتب أهل الكتاب بوجه عام.
ونظير ذلك ادعاء بعض المستشرقين اليهود أن القرآن مأخوذ من التوراة.
2-
ادعاء أن الكون خاضع لقانون النشوء والارتقاء بالتطور الذاتي، أو لقانون الجدلية التي توهمها الفيلسوف "هيجل" وأخذها عنه اليهودي "كارل ماركس" وادعى أن الجدلية (=الديالكتيك) كافية لتعليل التطورات الكونية والاجتماعية، دون الحاجة إلى خالق أزلي عليم حكيم قدير.
3-
ادعاء أن الدين ثمرة أوضاع اجتماعية، وليس بلاغاً منزلاً من موجود عظيم غيبي عن حواسنا، له كل صفات الكمال، وهو منزه عن كل صفات النقصان.
وإلغاء كل منطق العقل ودلائله البرهانية الإيمانية، لتثبيت هذا الادعاء المختلق، أو التفسير التوهمي الذي لا تدليل عليه من الواقع، أو من براهين العقل.
4-
معظم أفكار العقيدة الشيوعية، فالمتأمل البصير يكشف أنها أفكار مختلفة، أو تعليلات وتفسيرات توهمية، لظواهر كونية أو اجتماعية.
والقادة الشيوعيون يصدرون أفكارهم في صورة قرارات جازمة، أو
مقررات قطعية غير قابلة للنقاش، أو التساؤل عن أدلتها، ويلصقونها بالعلم أو منطق العقل زوراً وبهتاناً.
ويعطي الشيوعيون قرارات مبادئهم الباطلة صفة حتميات جبرية، وما لم يتحقق منها بعدُ، يقررون أنه لا بد أن يتحقق في المستقبل حتماً.
ثمّ إن الواقع الكوني أو التجريبي يكذب مختلقاتهم وحتمياتهم المفتراة.
5-
تفسير الفيلسوف اليهودي "برجسون" لظاهرتي الدين والأخلاق عند الإنسان، بأنهما من صنع الملكة الوهمية القادرة على صنع الخرافة في نفسه، لخدمة مسيرة الحياة، ودفعها إلى الحركة والعمل والبناء، ضد مثبطات العقل، الذي يكشف الحقيقة القاتمة الباردة الجافة الميتة، والموقفة لمسيرة الحياة، ولحركتها العاملة التي يجذبها الأمل.
فهو تفسير خرافي مختلق، لدعم مذهب الإلحاد بالله، مع التظاهر بضرورة كل من الدين والأخلاق للحياة، ولاستمرار نشاطها الفاعل البناء المتطور. ولهذا التظاهر إيحاء مؤثر في إقناع ضعفاء الإيمان، والمفتونين بعلوم الغرب، والأغرار من ناشئة الأجيال.
6-
ولليهود مكر كبير في هذا المجال، فقد كان فريق منهم يكتبون الكتاب من عند أنفسهم، ويزعمون أنه من عند الله، ليضلوا به كثيراً من الناس.
* * *
الأصل الثامن
نسبة أقوال أو أفكار أو آراء أو مذاهب، إلى من لم يقلها، أو لم يطرحها، أو لم يتخذها لنفسه مذهباً، أو لم يَرْوِها ولم يحدث بها.
وهذا الأصل هو أحد الوسائل التي يلجأ إليها المضللون المغالطون، إذ يأتون إلى أعلام أو أئمة كبار، يثق بهم من يريدون تضليله، فينسبون إليه
قولاً، أو فكرة، أو رأياً، أو مذهباً، أو رواية لحديث، ليكون ما نسبوه إليه في نفس فريستهم تأثير قوي، وليوقعوا في نفسه وهناً، أو تثبيط همة، أو فتور عزيمة، حتى لا يتحمس ولا ينشط لرد القول وتفنيده، أو إدحاض الفكرة أو الرأي أو المذهب، أوتكذيب الحديث أو تضعيفه.
وقد كان الباطنيون يتخذون هذه الحيلة الخبيثة للتأثير على من يريدون صيده لمذهبهم، إذ يقولون له: إن فلاناً العالم العظيم المشهور هو على مذهبنا، أو قد قال كذا، أو يرى كذا، أو حدث بكذا، إلا أنه يكتم أمره ولا يظهره، لئلا ينقلب عوام المسلمين ضده.
وهذه الحيلة من الوسائل التي تتخذها المنظمات الكافرة المعاصرة، إذْ يهمسون بأن فلاناً وفلاناً وفلاناً من كبار أعلام العصر، هم من المنتمين إلى منظمتنا، ومن أقوالهم التي يقولونها في المجالس الخاصة كذا وكذا.
والشيعة يتخذون هذه الحيلة على نطاق واسع، أخذاً بمبدأ التقية واستباحة الكذب، فقد يقول المجادل منهم في مجلس من المجالس، روى البخاري في صحيحه كذا وكذا، في باب كذا، في صفحة كذا. ويروي حديثاً مكذوباً مختلقاً يؤيد لفظه رأيه. وغرضه من ذلك الانتصار الوقتي في المجلس الجدلي، الذي ليس فيه نسخة من صحيح البخاري الذي يقول إن الحديث موجود فيه.
وفي العلوم وفي استعراض الآراء والمذاهب المكتوبة نجد مثل هذه المفتريات، والمختلقات، للإقناع برأي الكاتب المختلِق أو بمذهبه.
فلا بد للباحثين من التحقق والتثبت والتوثيق، فالفساق في الناس أكثر من المتقين، ولو كانوا من أهل العلم والرأي والفكر.
* * *
الأصل التاسع
كتمان نص أصلي، أو أقوال صحيحة، أو مذاهب معتمدة، وعدم التعرض إليها مطلقاً، مع العلم بها، وربما تكون مشهورة أيضاً.
وأخطر كتمان الحق كتمان أهل العلم في مسائل العلوم وقضايا المعارف، لأنه يوهم بأنها لا أصل لها، إذ لو كان لها أصل لما جهلها أمثالهم، ولو كانوا يعملونها لذكروها وتحدثوا بها. وكذلك كتمان من لديه شهادة في حق من حقوق الناس، وهو من الذين لهم صلة بالمشهود له أو عليه، وأبان الله أن من فعل ذلك فإنه آثم قلبه.
ولليهود مكر كبير في مجال التضليل بالكتمان، وقد وصفهم الله عز وجل في القرآن الكريم بأنهم يكتمون ما أنزل الله، ونهاهم عن ذلك.
فقال الله عز وجل في سورة (البقرة/2 مصحف (87 نزول) في سياق خطابه لنبي إسرائيل:
{وَلَا تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
وقال تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
وأبان الله عز وجل أنه قد أخذ الميثاق على أهل الكتاب أن يبينوه للناس، وأن لا يكتموه، لكنهم لم يوفوا بما عاهدوا الله عليه، فنبذوا الكتاب وراء ظهورهم، وكتموا ما أنزل الله فيه، واشتروا به ثمناً قليلاً. فقال الله عز وجل في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
أي: وما زالت أخلافهم يفعلون فعل أسلافهم، فيشترون بكتاب الله ثمناً قليلاً، فبئس ما يشترون، وهم يجددون ويكررون جرائم أسلافهم. وقد دل على استمرار الأخلاف في عدم بيان الكتاب، وكتمانه، ونبذه وراء ظهورهم، وأنهم يشترون به ثمناً قليلاً، استعمال الفعل المضارع الدال
على التجديد والتكرير، في قول الله تعالى في آخر الآية:{فبئس ما يشترون} . ولو كان الكلام خاصاً بما فعل أسلافهم لجاء التعبير بالفعل الماضي.
* * *
الأصل العاشر
التقاط مفاهيم شاذة باطلة موجودة لدى بعض الفرق المنتسبة إلى المذهب المخالف. أو تصيد الضعيف أو المردود من آراء المنتسبين إلى المذهب المخالف، ولو كان الرأي مرفوضاً لدى جمهور أتباع المذهب نفسه، ولو كان المنتسب منافقاً غير معترف بانتسابه أصلاً، لدى تطبيق أصول ذلك المذهب وقواعده وعقائده، ولدى جمهور المنتمين إليه.
وبعد التقاط هذه المفاهيم الشاذة الباطلة، أو تصيد هذه الآراء الضعيفة المردودة، يأتي المغالط المضلل فيعتبرها هي المفاهيم والآراء المعتمدة في المذهب، لدى عرض مفاهيمه وأحكامه، بغية التضليل بها، أو بغية محاربة المذهب على أساس أنها من مفاهيمه وأحكامه.
مثل التقاط مفاهيم باطنية شاذة باطلة، موجودة لدى فرق تنتمي إلى الإسلام اسماً، والإسلام بريء منها، ثمّ اعتبار هذه المفاهيم مفاهيم إسلامية، واتخاذها أساساً للمناظرة التضليلية.
ومثل تصيد بعض الآراء الاجتهادية الفردية الضعيفة أو المردودة، الموجودة لدى مذهب من المذاهب الإسلامية الفقهية أو الاعتقادية، كالرأي الجبري في العقيدة، ثمّ اعتبار هذه الآراء الضعيفة أو المردودة من المفاهيم أو الأحكام الإسلامية المقررة في الإسلام، مع أنها منتقدة أو مردودة لدى جمهور علماء المسلمين.
ومن ذلك محاربة الإسلام بأن فيه ما يتناقض مع الحقائق العلمية، تذرعاً بأن بعض أهل التفسير لنصوصه، فهموا منها أن الأرض مبسوطة لا كروية.
ويستخدم المستشرقون والمبشرون هذا الأصل من أصول المغالطات على نطاقٍ واسع جداً، ويضللون به أيما تضليل.
* * *
الأصل الحادي عشر
الإيهام بأن العلوم ذات المنجزات الحضارية الكبرى تؤيد المذهب الذي يريد أصحاب المغالطة مناصرته.
والحيلة في ذلك أنهم دسوا في العلوم التطبيقية، والوصفية ، والرياضية العقلية، تعليلاتٍ وتفسيراتٍ فلسفية للظاهرات المادية. وهذه التعليلات والتفسيرات الفلسفية لا دخل لها بالتطبيق، ولا بالوصف، ولا بالقوانين الرياضية المنطقية العقلية، وما هي إلا آراء نظرية تخيلية، لا دليل عليها إلا التكهن، أو الحدس، أو الرجم بالغيب، أو الادعاء الباطل.
ولكن لما دخلت هذه الآراء زيوفاً وتدليساً وتلبيساً، واندست في ثنايا هذه العلوم، أو في قواعدها الأولى، طفيلية عليها، تمكَّن المضلون من إيقاع دارسي هذه العلوم في توهم أن هذه الآراء المندسة هي مثل سائر مسائل هذه العلوم، في اعتمادها على أدلة حسية، أو تجريبية، أو عقلية، مع أنها في حقيقة الأمر ليست كذلك مطلقاً.
وهنا تكمن المغالطة الشيطانية الخطيرة، وقد أدت هذه المغالطة دورها المؤثر في الأجيال التي نُشِّئَت على مناهج الدراسة الغربية العلمانية، حقبة من الزمن، كما رسم لها شياطين الإضلال والإفساد في الأرض، وكما خطط لها دعاة الإلحاد بالله، ومروجو الإباحية السلوكية، ومدمرو الأخلاق والنظم الاجتماعية الفاضلة.
ومن أمثلة ذلك: دس آراء التطور الذاتي الارتقائي لنشوء الكون، ضمن القضايا الوصفية لظاهرات الكون الطبيعية، لا سيما علم الأحياء. ودس آراء الجدلية التاريخية في علم الاجتماع البشري. ودس الآراء الخيالية لتعليل وتفسير الظاهرات النفسية الوصفية في علم النفس.
إلى غير ذلك من مندساتٍ زيوف.
* * *
الأصل الثاني عشر
تحويل النظر عن دائرة المسألة الأساسية التي هي محل النزاع والمناظرة، والاستدراج إلى أمور جانبية أولاً، ثمّ إلى أمور أخرى.
وفي هذه المغالطة خروج عن موضوع المناظرة بحيلة، وهي مراوغة لا تجوز في حلبات مناظرات شريفة يراد منها الوصول إلى معرفة الحق، واكتشافُ الشبهات التي تغشي على الرؤية، فتحجبُ أحد المتناظرين أو كليهما عن رؤية الحقيقة المنشودة عارية.
ويستخدم المضلون هذا النوع من المغالطات استخداماً واسعاً جداً، لأنهم لا يجدون غيرها مهرباً، إذ يحصرهم مناظروهم من أصحاب الحق في دائرة لا يملكون فيها غير التسليم، فإذا وجدوا أنفسهم كذلك قفزوا بحبال الاستطراد إلى دائرة أخرى.
فقد تكون المناظرة مثلاً حول قضية الإيمان بالله الرب الخالق عز وجل، وأدلة هذه القضية، ويعرض المؤمن الحكيم العالم جملة من أدلة الإيمان، حتى يحصر خصمه الملحد في دائرة من البراهين توجب عليه التسليم والاستسلام.
لكن الملحد الجاحد يراوغ بحيلة من حيل الاستطراد، ويقفز على أضعف الخيوط لينتقل إلى دائرة أخرى، وقد تكون هذه الدائرة بعيدة جداً عن الدائرة الأولى، إلا أنها ذات صلةٍ ما بها، وهذه الدائرة تتعلق ببعض الأحكام الدينية، كمسألة الرق، أو تعدد الزوجات، أو نظام الاقتصاد وحقوق العمال والفلاحين، أو واقع حال دولة قائمة تحمل راية الإسلام، أو سلوك عالم ديني، أو سلوك داعٍ من دعاة الفكر الإسلامي، أو أية شبهة من الشبهات التي طرحها المستشرقون ضد الإسلام وشرائعه وأحكامه ومصادره.
فعلى المناظر المسلم أن يكون واعياً حذراً، ولا يسمح للمناظر
الخصم أن يغالطه، فيخرج عن دائرة المناظرة إلى دائرة أخرى، ويقفز به من موضوع إلى موضوع آخر، فإذا سمح له بذلك تحولت المناظرة إلى مماراة غوغائية مشوشة مفسدة للفكر، ولا تنتهي إلى نهاية موضوعية، بل تتحكم بها الأهواء.
* * *
الأصل الثالث عشر
استغلال مقولات أو أفكار أو شعارات متداولة بين الناس، اكتسبت صفة مسلمات في الرأي العام، بتأثير الدعاية لها، أو ترويجها من قبل أصحاب أغراض خاصة شخصية أو حزبية، سياسية أو اجتماعية، أو غير ذلك، وقد تكتسب صفة مسلمات في الرأي العام بترديدها ترديداً ببغاوياً، وإطلاق ألسنة العامة بها، مثل الحرية، والمساواة....
وجماهير الناس في غالب أحوالهم يقبلون المسلمات في الرأي العام، دون مناقشة لها، ولا بحثٍ عن صحتها أو بطلانها، وهم بذلك يسلمون أعنتهم للمغالطين، فيسوقونهم من حيث لا يشعرون إلى الاقتناع بباطلهم.
ولاكتساب المقولات والأفكار صفة مسلمات في الرأي العام أسباب كثيرة، منها ما يلي:
1-
استغلال عواطف عامة ذات نزعات شخصية، أو عرقية، أو قومية، أو إقليمية، أو دينية، أو مذهبية، أو حزبية، أو غير ذلك.
2-
مداومة تكريرها على الأسماع، من مصادر شتى، وبأساليب مختلفة، وعلى ألسنة ذوي مكانة ورأي في الناس، أو قادة لهم أتباع وأنصار يأخذون بأقوالهم دون محاكمة فكرية، ولا حجج منطقية.
3-
وضعها في قوالب أدبية محببة، كالشعر، والقصة، والتمثيلية، والنكتة المثيرة، وغير ذلك.
ولمروجي المذاهب الباطلة الذين لهم مصالح من ترويجها تدابير
تمهيدية، قبل استخدام أسلوب المغالطات في جدلياتهم، ومن هذه التدابير ترويج مقولات وأفكار عامة، بمختلف الوسائل الإعلامية والدعائية، حتى إذا أخذت في الرأي العام صفة مسلمات بدأوا يستغلونها في مغلطاتهم الجدلية.
* * *
الأصل الرابع عشر
إطلاق ألفاظ على غير معانيها، باستغلال وجود شَبَهٍ ما، أو تقارب ما، أو تشاركٍ من بعض الوجوه، بين معانيها الأصلية والمعاني التي أطلقت عليها في المغالطة التزييفية، ويبتلع بعض الناس طُعم المغالطة لعدم وضوح فروق المعاني لديهم.
أمثلة:
المثال الأول: فمن أمثلة هذه المغالط إطلاق كلمة التعصب الجاهلي المذموم، على معنى التمسك بالحق المحمود، لتنحل قوى المتمسك بالحق خوفاً من أن يتهم بالتعصب المذموم.
إن التعصب المذموم هو التمسك بفكرة باطلة، أو لا دليل عليها من عقل ولا حس ولا تجربة علمية، والباعث على التمسك بها ابتاع الإنسان لقومه الآخذين بها، أو لآبائه وأجداده، أو لقائده وإمامه، أو لحزبه وجماعته، أو عناده في مناصرة رأي كان قد رآه، فصعب عليه أن يتراجع عنه، لئلا يعترف على نفسه بأنه كان قد أخطأ في تبنيه ذلك الرأي.
وقد ذم الإسلام هذا التعصب ذماً شديداً، ونجد في القرآن الكريم عدة نصوص في ظاهرة التعصب وذمها، ومناقشة المحتجين على صحة طريقتهم بأنهم ألفوا آباءهم عليها، فهم على آثارهم مقتدون، وقد ظهرت هذه الحجة على ألسنة معظم الأمم السالفة، حينما دعتهم رسلهم لأتباع الحق الذي بعثهم الله به.
ففي سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) وصف الله الذين لا يؤمنون بقوله:
وفي سورة (الشعراء/26 مصحف/47 نزول) قص الله علنيا قصة إبراهيم مع قومه، وما كان بينهم من جدال حول عبادتهم للأصنام، فقال تعالى:
وفي سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول) قص الله علينا قصة موسى مع قومه، وأنه كان من جدلياتهم تعجُّبهم من أنه جاء ليلفتهم عما وجدوا عليه آباءنا، فقال تعالى في ذلك:
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
…
} .
وفي سورة (لقمان/31 مصحف/57 نزول) أبان الله أن من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير، ويحتجون على طريقتهم بما وجدوا عليه آباءهم، فقال عز وجل:
أي: هل من الحكمة والعقل وحرص الإنسان على مصلحة نفسه، أن يتبع ما وجد عليه آباءه، ولو كان مصير هذا الاتباع أن يعذّب في النار.
وفي سورة (الزخرف/43 مصحف/63 نزول) أبان الله أن ظاهرة الاحتجاج بما كان عليه الآباء، قد كانت سمة مترفي كلِّ أمةٍ لم تستجب لدعوة رسولها، وذلك تعقيباً على مقالة كفار قريش لمحمد رسول الله، قال الله عز وجل:
{بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ من نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}
على أمة: أي على دين، أو على ملة، أو على طريقة.
كل ما سبق من نصوص كان من السور المكية، ونلاحظ أنه ليس فيها هجوم تسفيهي مباشر، بل فيها معاريض ألفاظ، وبيانات عامة، وتوجيهات غير مباشرة.
أما في المرحلة المدنية فالتوجيه كان مباشراً وقاسياً:
ففي سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) يقول الله عز وجل بشأن المشركين الذين رفضوا دعوة الرسول محمد:
فالتعصب ظاهرة مذمومة أبلغ الذم في الإسلام، لأنه اتباع للباطل بدافع العصبية الجاهلية.
أما التمسُّك بالحق الذي تقوم الأدلة على إثباته، فهو ما يوجبه منطق العقل، أو تدعو إليه مصلحة الإنسان العاجلة أو الآجلة، والفرق بينه وبين
التعصب كالفرق الذي بين الحق والباطل، وكالفرق الذي بين الإيمان بالحق والإيمان بالباطل.
هل يُقبل في عقل أي عاقل أن نتهم الإنسان بالتعصب إذا قال: الثلاثة ثلاثة، ولا تكون واحداً بحالٍ من الأحوال، ولم يتسامح مع الذين يقولون: الثلاثة واحد. أو إذا قال: أنا إنسان ولست قرداً، ولم يساير الذين يصرون على أن يجعلوه قرداً.
إن الإنسان لا يملك مطلقاً أن يساوم على الحق الجلي، حتى يعتبر وقوفه عنده تعصباً، وإن قضايا الحق الظاهر لا تقبل إلا التمسك بها، وليس هذا التمسك تعصباً بحالٍ من الأحوال.
لكن المغالطين يوهمون أن التمسك بالحق هو من باب التعصب، تضليلاً، وعبثاً بمفاهيم الألفاظ، ويقع بهذه المغالطة فريق من الناس، فيتركون الاستمساك بالحق، خوفاً من أن يتهموا بأنهم متعصبون.
المثال الثاني: ومن أمثلة هذه المغالطة إطلاق لفظ الحقيقة العلمية على النظرية، أو على الفرضية، وإطلاق لفظ النظرية على الفرضية، والتلاعب بحدود هذه المصطلحات في ميدان المعرفة.
إن الإدراك الذهني للمعارف الفكرية له مستويات، ولكل مستوىً منها مصطلح خاص به.
1-
فالرؤية الفكرية التي تكون بمثابة رؤية العين للأشباح في الظلمات، يطلق عليها كلمة (وهم) والرؤى الفكرية التي هي من هذا القبيل هي أوهام.
2-
والرؤية الفكرية التي تكون بمثابة رؤية الناظر في الضباب الكثيف، والتي لا تسمح له بأن يرفض، ولا تسمح له بأن يثبت، والأمران بالنسبة إليه على حدٍ سواء، واحتمال الإثبات مساوٍ لاحتمال النفي، هذه الرؤية يطلق عليها في اصطلاح الإسلاميين كلمة (شك) . ويطلق عليها في اصطلاح المعارف المعاصرة كلمة (فرضية، أو افتراض) .
3-
والرؤية الفكرية التي تكون بمثابة الرؤية في الغبش، أو في ضوء ضعيف، فهي تكشف بعض ملامح المرئي، وبعض علاماته، وتعطي قدراً من الترجيح الذي يسمح بالحكم القائم على غلبة الظن لا على اليقين.
4-
والرؤية الفكرية التي تكون بمثابة الرؤية في وضح النهار، لا لبس فيها ولا غبش، ولا يقع في الذهن أي احتمال آخر مضاد لها، وتعطي الفكر تأكيداً غير قابل للنقض، هي الرؤية الفكرية التي يطلق عليها في اصطلاح الإسلاميين كلمة (يقين) . ويطلق عليها في اصطلاح المعارف المعاصرة كلمة (حقيقة علمية) .
هذا هو سُلّم الإدراك الذهني للمعارف الفكرية، والمغالطون يحاولون كسر الحدود بين درجات هذا السلم، حتى يتفشى بعضها على بعض، ويطغى بعضها على بعض، فتختلط المعارف.
وعندئذ تكون لهم مداخل كثيرة يدخلون منها للتضليل. فيطلقون على الأفكار التي هي من قبيل الأوهام اسم (نظرية) ويطلقون على الأفكار الافتراضية اسم (نظرية) أو (حقيقة علمية) ويطلقون على ما هو في مستوى (النظرية) من أفكار وآراء، اسم (حقيقة علمية) .
وقد يعكسون الأمر، فيطلقون على ما هو ثابت يقيناً بدليل عقلي، أو بخبرٍ ديني يقيني، عبارة (أوهام غير علمية) أو عبارة (النظرية الدينية) أو عبارة (الفرضية الدينية) أو نحو ذلك.
إن لعبة هذه المغالطة شائعةٌ جداً ويستخدمها أعداء الإسلام استخداماً واسعاً.
فعلى المسلم الحصيف أن يكون على بصيرة وحذر، وأن يتحرى حدود المصطلحات، ولا يسمح بكسر الحدود، لئلا يدخل عليه الزيف، وينساق معه وهو غافل.
وكم انزلق منزلقون إلى باطل كثير بعلبة هذه المغالطة.
* * *