المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابعبرجسون وآراؤه في نشأة الدين والأخلاق - كواشف زيوف

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌فاتِحَة الكِتَاب

- ‌خِطّةُ الكِتَابْ

- ‌القِسمُ الأوّل مِنَ الكِتَابمقدمات عامة

- ‌الباب الأولتَعريفٌ بمَنَاخِ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة

- ‌مَقَدِّمَة عَامَّة

- ‌الفصْل الأوّلمُنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة في أوربَّا

- ‌الفصْل الثانيتحرّك اليَهُود مُسْتَغلّينَ المنَاخ الملَائِمَ في أورُبَّا

- ‌الفصل الثالث: أسبَابُ تَقبّل شعُوب الأمَّةِ الإسْلاميَّة لوافدات المذاهب الفكرية المعاصرة

- ‌الباب الثانيوَسَائِل التّضليل لِتَرويج الشِّعَارَاتوالآراء والمذاهب الفكرية المزيفة

- ‌الفصْل الأوّلالخطّة العَامّة

- ‌الفصْل الثانيالمغَالَطاتُ الجَدَليّة

- ‌الفصْل الثالثلعبَة تطبيْق المنهَج العِلْميّ الخاصْ بالجَبريّاتْعلى السلوك الإرادي عند الإنسان

- ‌القِسمُ الثاني مِنَ الكِتَابعَرض لأهَمِّ الشعَارات البرّاقة المزيّفّةوَلآرَاء وَمذاهبْ فكريّة معَاصِرة جزئيّةمُنبثقة في عُلوم مختلفة مع كشف زيوفها وتعريفْ بأئِمتهَا

- ‌الباب الأولمقدِّمات حَولَ اعتِمَاد العَقْل وَالعِلْم الإنسَانيبديلاً للدِّين

- ‌الفصْل الأوّلالعَقلَانيَّة

- ‌الفصْل الثانيالعِلمَانيّة

- ‌الباب الثانيافتِراءَات ترَوَّج ضدّ الدّين وَالأخلَاقوَالقَوانين وَالنُظم المنبثقة عَنْهما

- ‌الفصْل الأوّلفريَة التّنَاقض بَيْن العَقل وَالدّينوبَينَ العلم والدّين

- ‌الفصْل الثانيمَزاعِمُ المُضلِّين لِهَدْم أسُس الأخلَاقوأبنيتها وتطبيقاتها في المجتمع

- ‌البَاب الثَالثْخِدَاع الشِّعَارَاتالتي يتولد عنها في الرأي العام مسلمات خاطئات وموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌المقدمة

- ‌الفصْل الأوّلالحُريّة

- ‌الفصْل الثانيالمُسَاوَاة

- ‌الفصْل الثالثالتقَدّميَّة والرَّجْعيَّة

- ‌الفصْل الرابعالاشتِراكيّة

- ‌الفصْل الخامِسْالوَطنيَّة وَالقَوميَّة وَالإنسَانيّةوموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌البَاب الرَّابعْأئمّة وَمَذاهِبُ جُزئيّة في عُلُوم مختَلِفَة

- ‌الفصْل الأوّلفروُيْد وَمَدرَسَتُه في عِلْم النّفْس

- ‌الفصْل الثانيدَارْوين وَمَذهَبُ التطوُّر

- ‌الفصْل الثالثدوركايْم وَآرَاؤه في علْم الاجتِمَاعِ

- ‌الفصْل الرابعبرجْسُون وَآرَاؤهُ في نَشأةِ الدّين وَالأخلَاق

- ‌الفصْل الخامِسْسَارْتر وَآراؤهُ الفَلسَفيَّة في الوُجُوديّة

- ‌الفصْل السادسمْكيافيلّي وَفِكرَة: الغاية تبرر الوسيلة

- ‌الفصْل السّابعمَارْكوز وَآرَاؤهُ الثّوريَّةلإقامة ديكتاتورية حكم الأقلية الواعية

- ‌الفصْل الثامِنأوجسْت كونتْوَدين الإنسَانيّة

- ‌القِسمُ الثّالِث مِنَ الكِتَابأئِمة وَمَذاهِبْ فِكريّة معَاصِرَة كَبيرَة

- ‌البَابْ الأوَّلالماديَّة الإلحاديّة وَالماديّون

- ‌الفصْل الأوّلمقدّمات عامة

- ‌الفصْل الثانيأئمّة مَادِّيّون وَنُبّذٌ مِنْ آرَائهم الفَلْسَفيَّةِ الإلحَادية

- ‌الفصل الثالثأسُسُ الفِكْر المادّي الإلحَادي

- ‌الفصل الرابعكشفُ زيُوف أفْكار المادّيّين وَجَدَليَّتِهِم

- ‌الفصل الخامسعقوبَة العَذابْ النّفسِيّ للمُلْحِدينَ

- ‌الفصل السادسالمادية الجدلية في الكون والتاريخ الإنساني

- ‌الباب الثانيالنُّظمُ الاقتِصَاديّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنظرة تاريخيَّة حَول المذاهبْ الوَضْعيَّةللنظم الاقتصادية

- ‌الفصل الثانيلمحّة مُوجَزَة حَول مَنهج دين الله

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين المذاهب الاقتصادية

- ‌الفصل الرابعنظرات متفرقة

- ‌الباب الثالثالنّظمُ السِيَاسيَّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنَظرَة تاريخيَّة حَولَ المذاهِبْ الوَضْعيَّةلِلنُظم السيَاسيّة

- ‌الفصل الثانيلمحَة مُوجَزَة حَول مَنهَجْ دين اللهِ للنّاسِفي شؤون الحكم

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين النظم السياسية

- ‌الفصل الرابعمتفرقات

الفصل: ‌الفصل الرابعبرجسون وآراؤه في نشأة الدين والأخلاق

‌الفصْل الرابع

برجْسُون وَآرَاؤهُ في نَشأةِ الدّين وَالأخلَاق

(1)

من هو برجسون؟.

هو "هنري برجسون". فيلسوف يهودي فرنسي. عاش ما بين عام (1859 و1941م) .

صار أستاذاً في الـ"كوليج دي فرانس" سنة (1900م) . حاز على جائزة نوبل في الأدب سنة (1927م) .

ثنائي في فلسفته، يرى أن في العالم اتجاهين متعارضين، هما الحياة والمادة. فالحياة تصعد وتخلق وتجاهد خلال المادة، وتسمو عليها بالزيادة في الخصوبة ودقة التركيب، أمّا المادة فمثقلة هابطة مقيدة. إلى غير ذلك من آراء.

من مؤلفاته: "الزمن والإرادة الحرة" و"المادة والذاكرة" و"الضحك" و"منبعا الأخلاق والدين" و"التطور الخلاق" وبعض هذه الكتب قد ترجم إلى العربية.

شاع أنه اعتنق المسيحية في أخريات حياته، ولئن صح هذا فلقد غدا معلوماً تماماً غرض اليهود حينما يعلنون انتماءهم إلى المسيحية أو الإسلام أو غيرهما، إنهم قد يدخلون في أي دين غير الدين اليهودي نفاقاً، ليكون

ص: 349

لمذاهبهم التي يضعونها، وآرائهم التي يصدّرونها، ومكايدهم التي يكيدونها، تأثير أكبر في الأمم التي نافقوها بالانتساب إليها، ويندر فيهم الصادقون.

(2)

دوافع آرائه في الدراسات الفلسفية

حيث وجدْتَ مكراً يهدف إلى هدم الدين أو الأخلاق، أو النظم الاجتماعية أو السياسية الصالحة، أو من شأنه أن يُفضي إلى تدمير الإنسانية، فابحث عن الأصابع اليهودية وراءه.

لقد وضع هذا الفيلسوف اليهودي نُصب عينيه فكرة سابقة وهي أنه ليس للدين ولا للأخلاق مصدر ربّاني مطلقاً، ولا أسس عقلية تجعلهما حقيقة من الحقائق، وأن الوحي خرافة من اختراع الإنسان، وأن اليوم الآخر والحياة الآخرة خرافة.

ثمّ أخذ يُجهد نفسه باحثاً عما يَراه أو يُريه قُرّاءه سبباً يُمكن أن يُفسّر به ظهور الدين، وظهور الأخلاق، في المجتمعات الإنسانية، بعيداً عن كونهما من الحقائق.

لقد أطال النفس في كتابه: "منبعا الأخلاق والدين" حتى انقطع في الصفحة (341) . وقد أخذ في غضونه يلهث كدّاً، بغية أن يظفر بتفسير نفسيّ يقنع ضحاياه، بأن الدين والأخلاق خرافة نافعة للحياة.

(3)

ما يُهمنا مناقشته من آرائه الفلسفية

لقد زعم في كتابه "منبعا الأخلاق والدين" خلال آراء وتلفيقات كثيرة، أن الدين والأخلاق من وضع "الملكة الوهمية" عند الإنسانية، وهي ملكة تصنع الخرافة، ليستفيد منها الإنسان في حياته، فيقي بها نفسه من آثار المخاوف التي يتعرض لها.

ص: 350

وكرر في كتابه المذكور عبارة "وظيفة الخرافة" مؤكداً بها أن للخرافة التي يخترعها الإنسان بمحض تخيُّلاته ظاناً أنها حقيقة، وظيفةً نافعة في حياته. وبالخرافة الدينية يدافع عن نفسه، ويقيها من الخطر الذي يتعرّض له من جرّاء اتجاهه العقليّ الصرف، وهو خطر تجميد نفسه، وتعطيل طاقاته الحيويّة عن التحرّك الفعّال المنتج.

وقال عن الدين - وكان يتحدث عن الدين البدائي - في الصفحة (135) من كتابه ما يلي:

" فمما لا شك فيه أن انفعال الإنسان بإزاء الطبيعة أصل من أصول الأديان. ولكننا نعود فنقول: إن الدين ليس خوفاً بقدر ما هو ردّ فعلٍ ضدّ الخوف، ولم يصبح إيماناً بآلهة فوراً ".

وقال قبل هذا بقليل ما يلي:

"وجدنا أن أصل المعتقدات التي أتينا على دراساتها إنما هي ردّ فعل دفاعي، تقوم به الطبيعة محاربة لتثبيط مصدَرُه العقل. وردّ الفعل هذا يثير في العقل ذاته صوراً وآراءً تُفْني التصوّر المثبط، أو تمنعه من أن يصير إلى فعل. فيرى كائنات تنبثق، وليس من الضروري أن تكون شخصيّات تامّة. بل يكفي أن تكون لها نيّات، بل أن تكون هي نيّات. فالاعتقاد إذن جوهره الثقة، وأصله الأول ليس هو الخوف، بل الأمان من الخوف ".

وقال في الصفحة (150) :

"نفترض وجود فعالية غرزية، ثمّ ينبثق العقل، فننظر: هل نجم عن ذلك اختلال خطر. فإذا كان ذلك هبّت الغريزة، فأوجدت في هذا العقل الذي سبّب الاختلال تصوّرات تردّ التوازن إلى ما كان عليه. وهذه التصورات هي الأفكار الدينيّة ".

وذكر نظير ذلك في عقيدة الحياة بعد الموت، وأنها ردّ فعل دفاعي من الغريزة لمنطق العقل الذي يرى الموت، ويدرك أن الطبيعة جعلته نهاية حتمية للحياة، دون أن يكون وراءه شيء.

ص: 351

ومثل لما أسماه بوظيفة الخرافة بمثال المرأة التي فتحت باب المصعد في الطابق العالي، لتنزل فيه، فوجدت أن حارس المصعد قد دفعها بقوة، فطرحها أرضاً، ثمّ نهضت وأخذت تفكر فيما جرى لها، فرأت أن باب المصعد مفتوح كما فتحته، لكن غرفة المصعد موجودة في الطابق الأرضي وليس في طابقها، عندئذٍ أدركت أن المصعد معطل لخلل طرأ عليه، وأن الباب قد فتح بسبب الخلل الطارئ، ولو أنها دخلت لهوت في بئر المصعد فتحطّمت، ثمّ أدركت أن الوهم قد أسعفها بالصورة التي تخيلتها في حارس المصعد الذي دفعها، فكان للخرافة الوهمية هذه وظيفة دفع الخطر عن المرأة.

وعقّب على هذه القصة بأن فكرة الإله في أفكار الناس مثل صورة حارس المصعد الذي دفع المرأة ليحميها، كلٌّ منها من صنع الوهم، لكنّه وهم دفاعيٌّ نافع، وهكذا كان لهذه الخرافة وظيفتها الدفاعيّة.

بهذا نلاحظ أن "برجسون" قد ألغى ابتداءً كل الحقائق العقلية والعلمية التي جاءت بها الأديان الربانية، وأخذ يدرس الأديان البدائية والأديان الوثنية الخرافية، ويجعل لها تفسيرات نفسيّة بعيدة عن منطق العقل وبراهين العلم، لأن هذه الأديان فاسدة لا تملك بطبيعتها مثل هذه البراهين، ثمّ أطلق كلامه وعممه على كل الأديان.

وهكذا تعتمد مغالطته على ثلاثة عناصر:

العنصر الأول: تفسير الظاهرة الدينية تفسيراً بعيداً عن الحقيقة. ولئن كانت كما يقول في بعض الصور عند بعض الناس، فهي ليست كذلك في كلّ الصور ولا عند كل الناس.

العنصر الثاني: التعميم الفاسد، إذ عمم حكمه على كل دين، اعتماداً على ما فسّر به أدياناً بدائية فاسدة باطلة، مع احتمال أن تكون الأديان الباطلة بدائية ذات أصول صحيحة، لكن دخلها التحريف والتبديل بعد ذلك، ودخلت فيها الوثنيّات من صنع الانحراف الإنساني، كما هو

ص: 352

مشاهد في بعض الأديان الكبرى، ذات الأصول الصحيحة، بشهادة الوثائق التاريخيّة.

وعلى هذا فالخرافة الإنسانية كان لها وظيفة إفساد وتحريف، لا وظيفة دفاع وحماية كما زعم "برجسون".

العنصر الثالث: تجاهل وكتمان الأسباب الحقيقية لقضايا الدين الحقّ، مع أن مثل "برجسون" لا يجهلها.

تلخيص أفكار برجسون

لخّص "د. محمد عبد الله دراز" أفكار "برجسون" حول تفسيره لظاهرتي الدين والأخلاق. واقتباساً من تلخيصه مع بعض التصرّف أقول:

حاول "برجسون" تفسير نشأة التدين والعقيدة الإلهية على أنها من صنع الوهم الذي تفرضه الحياة، وليست وليدة التفكير المنطقي، وربط نشأة العقيدة الإلهية بأمرين:

الأول: أن الإنسان لما كان واقعاً تحت تأثير الواجبات الاجتماعية، وهي تتطلب منه التخلي عن بعض رغباته، والتضحية ببعض حريته، وكان استعمال ذكائه العادي في حساب مصلحته يدعوه إلى الأثرة، وإلى التضحية بمصلحة الآخرين من أجل مصلحة نفسه، وهذان الداعيان متعاكسان، متضادان، كان لا بد له من قوة أخرى تحفظ التوازن، وتؤاخي بين مصالح الفرد والجماعة.

هذه القوة المطلوبة قد أعَدَّتها الفطرة الإنسانية في النفوس حين أشربتها الفكرة الدينية. وذلك أنها صورت أمامها المحظورات الاجتماعية بصورة مخيفة، تجعل من المخاطرة انتهاكها، وما زالت تبالغ في هذا التصوير، حتى خيلت للنفس أن هذه المحظورات يقوم عليها حارسٌ

ص: 353

معنويٌّ، نَاهٍ، محاسب، ينذر من ينتهكها بالبطش والعقاب، وهذا هو معنى الإله

وصورة هذا الحارس ضرورية للحياة، وإن لم تكن وليدة التفكير المنطقي، بل هي من عمل الواهمة أو المتخيّلة، التي تشخّص المعنويات، وتجسّم المجرّدات. فهي وَهْمٌ تفرضه الحياة، ومن أجل ذلك وُجدت الملكة الوهمية في طبيعة الإنسان، التي تصنع الخرافات النافعة.

الثاني: أن ميدان الأعمال اليومية فيه فراغ نفسي عميق، لا يملؤه إلا العقيدة الإلهية.

فكل ذي حاجةٍ ينتظرها وهو لا يدري ما قُدِّر له من النجاح أو الإخفاق، لو تأمَّل بعقله، وقاس أعماله بمقدار نتائجها المحققة أو الغالبة، لقعد عن السعي، ولتوقفت حركة الحياة.

غير أن دفعة الحياة حركة تأبى الوقوف والجمود، فكان لا بد لها من ثقل تضعه في الكفة الأخرى من الميزان النفسي، لترجّح به جانب العمل، رغم كلّ تفسير وحساب، وما ذاك إلا الأمل تبعثه، والاعتماد على الحظ المحتمل تُقدِّره، ولا تزال تحث وتشجع، حتى تصور أمام النفس إرادة خفيَّة يركن القلب إليها، ويعتمد عليها، وتلك هي إرادة الإله المستعان.

هكذا لخص الدكتور "دراز" فكرة "برجسون"، وهكذا نلاحظ أنه جعل العقيدة بوجود رب خالق مهيمن من صناعة الوهم النفسي.

كشف الزيف

الكاشف الأول: إن الفطرة الإنسانية التي تتجه لقضية الإيمان بالقوة الغيبية الخلاقة القادرة على تحقيق الأمن عند المخاوف، والإسعاف بالمطالب عند الضرورات الملجئة، لا يجوز عقلاً اتجاهها عملاً وهمياً، يصنعُ الخرافة لتحصيل الأمن، ثمّ يسمح بأن تستمر الخرافة جاثمة على النفس مدى الحياة رغم منطق العقل.

ص: 354

وذلك لأمور خمسة:

الأمر الأول: إن اتجاه الفطرة يعتبر منبّهاً للعقل. حتى يبصر طريقه، فيأخذ بأسباب الأمن، إذْ قضية الإيمان بالله بعد التنبيه تغدو قضية عقلية، لا مجرّد، اندفاع غرزي فطريّ آني.

الأمر الثاني: إن من الملاحظ بصفة عامة، أن كلّ دوافع الفطرة السليمة، وكل اتجاهات الغرائز حينما تكون بوضعها الفطري السويّ قبل أن تفسد بالعوامل الطارئة، تطابق العقل ومنطقه، بعد كل تجاربه واختباراته، ورؤيته المنطقيّة السليمة.

ألا نشاهد في الواقع الإنساني أن معظم الفطر الإنسانية تتجه اتجاهات فيها تحقيق النفع من جهة، وهي في الوقت نفسه أفضل طريقة منطقية، ومطابقة للواقع والحقيقة من جهة ثانية؟.

وحينما يحاول العلماء الوصول إلى حقيقة كاملة لها في الطبيعة الموجودة أمثلة وأفراد، فإنهم يتجهون لدراسة هذه الطبيعة، من خلال الموجودات واتجاهاتها الغرزية السويّة، ليصلوا إلى الحق، وعندئذٍ يرون التطابق تاماً بين الغرائز وفطر الكائنات وبين منطق العقل، بشرط أن تكون هذه الغرائز والفِطَر على وضعها السويّ الذي فطرها الله عليه، ولم تفسد بالأوهام وإرادات الناس، والتطبّع المكتسب.

الأمر الثالث: من الملاحظ دائماً في سلوك الناس، أن الخطأ والفساد إنما يأتيان من الأوهام، لا من منطق العقل، ودلائل التجربة التي تسير وفق طبائع الأشياء.

وقصة المرأة صاحبة المصعد لو صحّت فإنها لا تشبه بحال من الأحوال ظاهرة الدين.

إن المرأة تصورت- بحسب الدعوى المطروحة - تصوراً خاطئاً كان به إنقاذها، لكنها بعد لحظات صحت فعاد إليها رشدها، وأبصرت بعقلها الواعي الحقيقة، وعرفت أنها كانت مخطئة.

ص: 355

بخلاف ظاهرة الدين، فإن المخاوف قد تحرك الفطرة للتعلق بأسباب الأمن، وعندها يأتي منطق العقل باحثاً عن القوة الغيبية التي تملك هذا الأمن، ولسنا ندّعي أن العقل وحده سيصل حتماً إلى كمال الحقيقة عن طريق البحث، إلا أنه سيتجه شطرها بحسب تنبيه الفطرة.

ثمّ قد يصل إذا سار سيراً صحيحاً، كما وصل كثير من أهل الفكر الصحيح من فلاسفة وغيرهم، وقد يضلّ في بعض الطريق كما ضلّ الوثنيون والمشاركون وأصحاب الأديان الخرافية.

الأمر الرابع: إن تدخل الوهم عند الخوف يفسد ولا يصلح، ويوقع في التهلكة، ولا يكون سبباً في تحقيق الأمن.

ويلاحظ هذا في حالة المشي على عمود ممتد فوق جدارين مرتفعين بينهما هُوّة، أو على جسر ضيق جداً، فمنطق العقل يسمح بالاجتياز المطمئن، لأنه يقرّر أن الجسر لو كان قريباً من الأرض لاجتازه السائر عليه، دون أن يخطر في باله احتمال السقوط، فهو يسرع في مشيه مطمئناً آمناً.

وفي حالة ارتفاعه يتدخل الوهم، فيشتد الخوف، فيسقط الماشي على العمود أو على الجسر فيهلك أو يصاب بأذى.

كذلك سائق السيارة، إذا خاف وتدخل الوهم في صناعة أفكاره بعيداً عن منطق العقل.

إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة لا تحصى في الواقع الإنساني، يلاحظ فيها أن تدخُّل الوهم يدفع إلى التهلكة.

نعم. قد تكون الشجاعة أو الجرأة من عوامل الإقدام ضد مثبطات منطق العقل أحياناً، لكن الأوهام تجلب فرط الجبن المثبط أكثر من منطق العقل. والشجاعة أمل ورغبة وشعور بالقوة الكافية، بخلاف الجبن، فهو وهم وشعور بالضعف، وغشاوة على منطق العقل.

ص: 356

الأمر الخامس: إن قصة المرأة صاحبة المصعد إن صحت كما ذكر "برجسون"، فهي نادرة قد لا تتكرر في حياة الناس.

وعكس ما حصل لها هو الأمر الذي يتكرر كثيراً، فكم من الناس سقطوا في بئر المصعد بمثل هذه الحادثة، ولم يظهر لهم هذا الحارس الوهمي، بل تحطموا وتهشموا وأصيبوا من جراء سقوطهم بإصابات خطيرة، وبعضهم أودت بحياته.

إن الحوادث الكثيرة التي تحدث لمعظم الناس عند المخاوف المفاجئة تقدّم دليلاً لنقض ما ذكر "برجسون" تماماً.

ذلك لأن الإنسان عندئذٍ تتجه غريزته بسرعة، ومن دون وعيٍ في العقل الظاهر إلى اتخاذ أسباب النجاة، ثمّ تأتي بعد ذلك صحوة الفكر للتعلّق بالأسباب الحقيقية الكاملة التي تكون بها النجاة.

فمن أمثلة ذلك ما يلي:

1-

نكون نازلين على درج أو سلّم، فننزل وفق خطة منتظمة، ثمّ قد نفاجأ بأن إحدى الدرجات مكسورة، أو مفقودة، ونشعر بالأمر حينما تهوي رجلنا أكثر من المسافة التي اعتدناها في نظام الدرجات.

عندئذٍ تندفع الغريزة فينا اندفاعاً غير واعٍ إلى التمسُّك بأي شيء في جوار أيدينا خشية السقوط.

وهذا حقاً من الفطر المسعفة التي تسبق الفكر الواعي، ولكن قد يكون الذي نمسك به خشية السقوط أشد خطراً من السقوط نفسه.

ثمّ يصل الأمر إلى منطقة الفكر الواعي، فإن بقي من الوقت شيء يصلح للتدارك، أخذ العقل يفكّر بأسباب صحيحة للحماية من الخطر.

2-

كذلك يحصل لدينا إذا هبت نارٌ مفاجئة فيها خطر علينا، أو داهم عدوّ بشكل مفاجئ، أو حدث أي حادثٍ مخيف فيه خطر.

هذه أحداث تتكرر دائماً في حياة الناس، وفيها دليل يثبت عكس ما ذهب إليه "برجسون".

وباستطاعتنا أن نقول: على مثل هذه الحوادث قد تبرز ظاهرة الدين عند المخاوف العظمى التي تنقطع معها الأسباب الإنسانية، فهي تحدث

ص: 357

تنبيهاً قوياً من قبل الفطرة النفسية، ثمّ يصحو العقل الواعي متجهاً شطر الجهة التي نبّهت عليه الفطرة، أو هدت إليها. ثمّ يأخذ العقل باحثاً بمنطقه عن القوة الغيبية المهيمنة على الوجود، وفق مناهجه الاستدلالية.

على أن قضية الإيمان بالله عز وجل تتم في أوضاع نفسية هادئة مستقرة، وتنشأ نشوءاً متدرجاً، معتمدة على منطق العقل من خلال ملاحظاته لظواهر الكون وأحداث الحياة، ولا تتم في حالات نفسية مفاجئة إلا نادراً.

الكاشف الثاني: ما دام ميدان الأعمال اليومية يوجد فيه فراغٌ نفسي عميق لا يلمؤه إلا العقيدة الإلهية، كما اعترف بذلك "برجسون" فلماذا يكون اتجاه الفكر لقضية الإيمان بالله عملاً خيالياً، لخدمة حركة الحياة، دون مراعاة لمنطق الفكر الصحيح، وأدلته البرهانية كما زعم؟.

ولماذا لايكون هذا الاتجاه نفسه عملاً عقلياً استبصر به الفكرُ الحقيقة، بدليل أن كثيراً من كبار الفلاسفة والعلماء المؤمنين قد بنوا إيمانهم بالله عز وجل على منطق علمي عقلي، وعلى أدلةٍ هدتهم إليها مناهج البحث الفكري السليم، ولم يقتصر إيمانهم على مجرد الإحساس الفطري الغامض، ولا على رغبة بإحداث توازن نفسي لخدمة حركة الحياة، ولا على خوف من الوقوف والجمود فيها، لولا الأمل الذي يصنعه الإيمان بالله المستعان.

الكاشف الثالث: إن رأي "برجسون" الذي اعتبر فيه ظاهرة التدين وهماً ضرورياً، تسعف به الفطرة، لإيجاد التوازن بين مثبطات العقل ومقتضيات مسيرة الحياة، هو رأيٌ خياليٌ تماماً.

والسبب في ذلك أن بطلانه يكشفه واقع حال الملاحدة الماديين، فإن كفرهم بكل دين لم يعطل لديهم مسيرة الحياة. وإن كان قد أوجد لديهم متاعب نفسية مشقية لهم، غير خرافة التثبيط التي ادعاها "برجسون".

وهذه المتابع النفسية نتيجة حتمية لكفرهم بالحق، إذ يحرمون من الطمأنينة النفسية السعيدة التي يجلبها الإيمان بالله وباليوم الآخر.

* * *

ص: 358